ربما كان الخلط بين الكثير من المصطلحات والمفاهيم والقضايا وعدم التمييز بينها واحدة من أخطر الأمور التي نمر بها الآن في حياتنا السياسية ... وأخطر منها الحكم على الأمور إنطلاقاً من نوازع ذاتية ... وأخطر من كل ما سبق أن ينطلق البعض في اقتراح معالجات تودي بالوطن كله لمجرد الإنتقام لذاته وما يعتقده من امتهان لمكانته السياسية أو الإجتماعية أو لأنه لم يأخذ حظه كما يجب أو حتى لمجرد معاناته المادية !! إن ما يجري هذه الأيام على الصعيدين السياسي والصحفي أمر في غاية من الغرابة والخطورة ... الغرابة سببها أن المساحة المتاحة لحرية الرأي والكلمة و لممارسة العمل السياسي والحزبي واسعة لدرجة تجعل المرء ينتقد كيفما يشاء الأشخاص والهيئات دون حاجة للمساس بالثوابت كالوحدة الوطنية ، ذلك أن المساس بالثوابت قد يكون مفهوماً في الأنظمة الاستبدادية الدكتاتورية لكنه لن يكون مقبولاً في الأنظمة الديمقراطية وقد رأينا أن التجزئة كانت نتيجة طبيعية للنظام الإستبدادي على عهد الاتحاد السوفيتي الراحل وبالمقابل لن نجد إنساناً راشداً داخل الولاياتالمتحدة سيطالب بفصل إحدى- أو بعض- ولاياتها وسيقابل رأيه بالسخرية لو حدث !! أما الخطورة فسببها وقوع أناس نحسن الظن في رشدهم ونضج عقولهم ضحايا للأهواء السياسية والنوازع الذاتية فيصدرون دعاوى طائشة ويكتبون كلاماً يخلطون فيه الخاص بالعام والشخصي بالوطني ويعلنون آراء مليئة بالنزق والعواطف المشحونة بدواعي الإنتقام من الوطن بدلاً عن السياسات ويسجلون مواقف ظاهرها الحرص على الكل وباطنها إستثارة للجزء على الكل رغم أن ما يشكو منه ذلك الجزء هو ما تشكو منه بقية الأجزاء من ظروف معيشية صعبة حلها إصلاح الإقتصاد وليس تمزيق البلاد !! ولا أستطيع حقيقةً أن أحسن النية كثيراً تجاه الخلط الذي يقوم به هؤلاء بين العديد من القضايا بسبب ما ذكرته قبل قليل حول ما هو معروف عنهم من الرشد والعقلانية ما يوحي أن هذا الخلط قد وصل إلى النوايا فاختلط حسنها بسيئها حتى طغى السوء وساد و أصبح أصلاً ! كيف لي أن أحسن النية تجاه من يدعو اليوم إلى تصحيح مسار الوحدة وهو يعني بهذا التصحيح أن نعود بالأمور ليس فقط إلى ما قبل حرب صيف 1994م بل يريد العودة بها إلى اتفاقية الوحدة التي حكمت الدستور الإنتقالي وفرضت التقاسم وهو يعلم أن ذلك مستحيل لأنه يعني العودة إلى مرحلة التقاسم التي دمرت الحياة السياسية و الأوضاع الاقتصادية والتي انتهت بإجراء انتخابات عام 1993م ؟! كيف لي أن أحسن النية تجاه من يدعو اليوم إلى الفيدرالية وهو يعني بها إلغاء الوحدة الاندماجية والعودة إلى ما هو أقل منها ... وهو يعني بها كذلك تقسيم اليمن على أسس مذهبية ثم تقسيم المذهبية إلى مناطقية وقبلية متناسياً حالة الإندماج الإجتماعي والوحدة الثقافية التي يحيا في ظلها هذا الشعب اليوم ؟! كيف لي أن أحسن النية تجاه مشاريع تدعي أنها معنية بالإصلاح السياسي بينما هي في الحقيقة تستهدف شخص الرئيس علي عبدالله صالح ، لأن أصحاب هذه المشاريع لو قرأوا الدستور جيداً لأدركوا أن ما يطالبون به موجود فيه أصلاً ... ومع ذلك فأنا على يقين أنهم قرأوه وأنهم يدركون ذلك تماماً ولذلك فهم يقصدون شخص الرئيس وليس منصب الرئيس ؟!كيف لي أن أحسن النية تجاه من يدعون أن المحافظات الجنوبية ليست مشاركة في الحكم لمجرد أن علي البيض وحيدر العطاس وعبدالرحمن الجفري ومسدوس وصالح عبيد ليسوا موجودين في السلطة ؟! كيف لي أن أحسن النية تجاه من يعيدون مشاكلهم الذاتية والحزبية ومعاناتهم الشخصية إلى الحكم متهمين إياه بكل ما يخطر على بالك من نعرات مناطقية وقبلية بينما الحكومة في الحقيقة ليست معنية بترتيب أوضاعهم المادية والشخصية ما داموا في صفوف المعارضة برضاهم واختيارهم ؟! ولا أقصد هنا حرمانهم من حقوق المواطنة كما سيدعون وذلك لأنهم يعلمون أن أجهزة الدولة مليئة بالشباب العاملين من أحزاب المعارضة ... لكن المقصود بالكلام أولئك الذين تعودوا الإبتزاز السياسي بمواقفهم وتصريحاتهم وكتاباتهم حتى يتم ترتيب أوضاعهم !! تلك بعض نماذج للذين يمارسون الخلط بين المفاهيم والقيم والقضايا بقصد وبدون قصد ... - فهل يعقل أن أعالج الفساد المالي والإداري بالمطالبة بالانفصال ؟! - وهل يعقل أن أعالج الفوضى الموجودة بالمطالبة بنسف النظام السياسي ؟! - وهل يعقل أن أعالج أوضاعي الشخصية بإثارة النعرات المناطقية ؟! - وهل يعقل أن أعبر عن غضبي من الأوضاع بالخروج عن الآداب والأخلاق العامة واللياقة في التعبير ؟! في الحقيقة لو أن هناك إنصافاً وموضوعية لدى هؤلاء لأدركوا أن أوضاعنا السياسية حالياً في حالة من أفضل حالاتها التي أعقبت حرب صيف 1994م رغم المصاعب الإقتصادية والمعيشية ... لقد طمع هؤلاء في سعة صدر الرئيس وتسامحه وانفتاحه فانهالوا عليه بالإساءات رغم أنهم لا يجرؤون على التعرض لأية شخصية اجتماعية ... و أنهالوا على النظام بأبشع الإتهامات المناطقية والسلالية والقبلية ... وطالبوا بما يمكن أن يتم محاكمتهم عليه لو حصل في دولة أخرى ... ومع ذلك تظل ميزة الديمقراطية والحرية أنها تكشف الوجوه على حقيقتها فلا يستطيع أحد أن يضللك وقتاً طويلاً إذ سرعان ما يعلن نواياه أو تبين مواقفه حقيقة توجهاته السياسية وأمراضه الداخلية... والمهم ألا تعطي الدولة لهؤلاء فرصة للاصطياد في المياه العكرة بسرعة تسديدها للثغرات وإصلاحها للعثرات وسدها لذرائع الفساد وتطهير ذاتها من الفاسدين وتقويمها لأي اعوجاج فذلك كله كفيل بإغلاق المنافذ التي يتسلل منها مرضى النفوس للإساءة إلى وحدتنا الوطنية واندماجنا الاجتماعي وقيمنا الثقافية الأصلية ... [email protected]