حسناً.لقد انطلقت مقاطعة (عفوية أو منظمة لا ندري بالضبط) ضد المنتجات الدنماركية في العالم العربي وبعض العالم الإسلامي عقاباً لحكومة هذا البلد الذي نشرت إحدى صحفه رسوماً كاريكاتورية مسيئة للرسول العربي عليه الصلاة والسلام.تلا ذلك بيان من وزراء الداخلية العرب الذين استنكروا "الفعل الشنيع" ورفضوا ذريعة حرية التعبير لتبرير نشر الرسوم المسيئة وطالبوا حكومة الدنمارك بمعاقبة الفاعلين واحتج أمين عام الجامعة العربية في السياق نفسه وكانت المملكة العربية السعودية قد استدعت سفيرها في كوبنهاغن للتشاور وتلتها الكويت وسحبت ليبيا سفيرها للسبب نفسه واتخذت بلدان أخرى خطوات مشابهة من ضمنها العراق حيث سلم الدكتور إبراهيم الجعفري رئيس الوزراء الانتقالي ووزير خارجيته هوشيار زيباري رسالة احتجاج إلى سفير الدنمارك في بغداد على الرسوم الشائنة ونسب لآية الله العظمى السيد علي السيستاني بيان احتجاجي علماً أن الدنمارك تحتفظ بوحدة عسكرية رمزية في العراق تخشى كوبنهاغن من صدور فتوى دينية ضدها. ويشار في هذا الصدد إلى أن رئيس الوزراء الدنماركي رفض استقبال السفراء العرب الذي قرروا مقابلته احتجاجاً على الإهانة المذكورة كما رفض الاعتذار للمسلمين قائلاً إن بلاده تمارس حرية التعبير بلا قيود لكنه أكد أنه هو شخصياً لا يقبل بذلك. ولم يعتذر رئيس تحرير الصحيفة المعنية صراحة عن الإساءة بينما تستمر المقاطعة العربية وتتصاعد لكن إلى أين؟ وكيف؟ ذلك أن آخر الأنباء الواردة أثناء كتابة هذه السطور تفيد أن التيار اليميني المتطرف في الدنمارك ينوي التظاهر دفاعاً عن الصحيفة المتهمة و يريد أن يختم مظاهرته بحرق نسخ من القرآن الكريم. أضف إلى ذلك أن صحيفة "فرانس سوار" الفرنسية قالت إنها ستعيد نشر الرسوم نفسها فهل تشمل المقاطعة فرنسا أيضا؟ وماذا لو سارت صحف أوروبية أخرى على هذا المنوال هل يقاطع العرب والمسلمون الدول الأوروبية وهل تقاطع أمريكا أيضا وقد سبق لها أن اتهمت بالإساءة للقرآن؟ لقد بدا واضحاً منذ اندلاع القضية أن طريقة المقاطعة العربية للدنمارك استفزت الاتحاد الأوروبي خصوصاً أن الحكومة الدنماركية استنجدت به والراجح أن إعادة نشر الرسوم في صحيفة "فرانس سوار" الفرنسية وربما في غير بلد أوروبي خلال أيام إذا ما وقع يراد منه دعم الحكومة الدنماركية وجعل المقاطعة العربية ضدها عملاً مستحيلاً. وإذا كان التوقع بأن تكون عملية الرد الأوروبي على المقاطعة العربية باردة لكن مخططة وبلا ضوضاء فان الاحتجاج العربي والإسلامي الصاخب لا يفصح عن إدراك معمق لظروف معركة حقيقية بين مجموعتين حضاريتين ويخشى أن يكون الاحتجاج عبارة عن " فورة " عاطفية تنتهي إلى لا شيء على ما يؤكد الدنماركيون في تبريرهم للامتناع عن الاعتذار خصوصاً أن تجارب المقاطعة السابقة ضد أمريكا لم تحمل واشنطن على التراجع عن أي من مواقفها فيما تراجع العرب بطريقة مخجلة حتى لانقول مهينة. إن المخاطر التي يمكن أن تنجم عن هذا التحرك الصاخب تكمن في النقاط التالية: أولا: تتخذ كل دولة وكل جماعة مبادرة خاصة بها دون تنسيق مع الأطراف الأخرى وبالتالي من الصعب العثور على هيئة واضحة تقود المقاطعة. ثانيا: لم يتم تحديد سقف واضح لإنهاء المقاطعة بل سقوف متعددة . البعض يريد اعتذارا من الصحيفة والبعض الآخر يريد اعتذاراً من الحكومة الدنماركية والبعض الثالث يكتفي بالإدانة .. إلخ. ثالثاً: لا توجد جهة تمثيلية عربية أو إسلامية قادرة على القول أنها ستتخذ هذه الخطوة أو تلك في حال تدخل الاتحاد الأوروبي لدعم الدنمارك أو أن المقاطعة ستتسع لتشمل كل دولة ينشر فيهم رسم كاريكاتوري مسيء للرسول عليه الصلاة والسلام. رابعاً: يمكن للفشل أن يشجع في المستقبل آخرين على ارتكاب إساءات مماثلة في حين أن النجاح ليس مضموناً تماماً. هكذا يبدو أن نجاح المقاطعة وحده ينقذ ماء وجه العرب و المسلمين في هذه القضية التي انطلقت بطريقة ارتجالية علما بان الرسوم المذكورة نشرت للمرة الأولى في شهر سبتمبر الماضي دون أن تؤدي إلى ردود فعل واحتجاجات كالتي نشهدها اليوم. وحتى تنجح المقاطعة لابد من حصرها بمطلب واحد هو: صدور اعتذار صريح وعلني من الحكومة الدنمركية ومن الصحيفة المعنية بالإساءة والتخلي عن مبدأ العقاب والسجن والغرامة وما شابه ذلك للمعنيين بالنشر خصوصا أن العقاب قد تم عبر خسارة الشركات الدنماركية مئات الملايين من الدولارات جراء المقاطعة مع التذكير أن قوانين الدنمارك لا تتيح للحكومة معاقبة وسجن صحافيين لم يخترقوا قانون بلادهم بغض النظر عن رأينا في هذا القانون وعن النفاق الذي يحكم نظرة بعض الدول الأوروبية إزاء العرب والمسلمين وإزاء غيرهم. يبقى التذكير بضرورة الحؤول دون توسيع إطار المعركة إلى الاتحاد الأوروبي وبالتالي عدم تحويلها إلى معركة عربية أوروبية وفي ظني أن الاتحاد سيعمل لتجنب الانزلاق في هذا الاتجاه كما على العرب والمسلمين أن يعملوا في الاتجاه نفسه ذلك أن صراعاً من هذا النوع سيكون مضراً للطرفين. وأخيراً تجدر الإشارة إلى أن الصدمة التي نجمت عن المقاطعة رغم اتسامها بالارتجال والعفوية من شأنها أن تشكل رادعاً مهماً تجاه إساءات مشابهة شرط أن تعمد جهة عربية أو إسلامية إلى التدخل في الوقت المناسب لوضع حد لهذه القضية بطريقة ترد الاعتبار للمسلمين و تنتصر لرسولهم الكريم من جهة وتسمح من جهة ثانية بعدم صب الماء في طاحونة المتحفزين من الطرفين لاستخدام هذا الحدث الشنيع في إشعال صراع حضاري أو ديني لا مصلحة لأحد في اندلاعه.