ثمة تعبيران جديدان صارخان عن عمق التحولات التي شهدها العالم العربي في السنوات القليلة الماضية. يتمثل الأول في الحكومة التي شكلتها "حماس" والآخر في التطورات التي يشهدها العراق حالياً وكان آخرها الدعوة الأميركية الموجهة الى أيران من أجل البحث في مستقبل البلد. أن الدعوة الأميركية الى أيران من أجل تحديد مستقبل العراق تبدو طبيعية في حال أخذنا في الأعتبار أن أيران كانت الدولة الوحيدة في المنطقة التي دعمت الحرب الأميركية على العراق. لا حاجة الى أدلة تساق على ذلك، أذ يكفي أن النظام الإيراني كان الجهة الإقليمية الوحيدة التي أيدت كل الخطوات التي أقدم عليها الإحتلال العراقي خصوصاً قرار حل الجيش العراقي وتشكيل مجلس الحكم الإنتقالي على أساس مذهبي وطائفي ومناطقي وقومي بما يصب في تهميش أهل السنة العرب في كل ما له علاقة بالمعادلة العراقية. أوليس ذلك هدفاً أيرانياً في حد ذاته وما المشكلة إذا كانت القوة العظمى الوحيدة في العالم على استعداد لتحقيق الطموحات التاريخية لإيران في المنطقة على حساب العرب عموماً؟ تبدو أيران قادرة على تحقيق جزء لا بأس به من طموحاتها الأقليمية بفضل الرغبة الأميركية في اعادة رسم خريطة الشرق الأوسط على حساب النظام الإقليمي العربي أولا. ولكن ما لا يبدو طبيعياً ما يدور على الصعيد الفلسطيني حيث لا تفسيراً منطقياً لما يجري باستثناء إن "حماس" صارت أسيرة شعاراتها. لو لم يكن الأمر كذلك، لما كان في الأمكان القول أن "حماس" أخرجت العملية السلمية من القاموس السياسي الفلسطيني. وباختيارها الدكتور محمود الزهار، أو شخصية أخرى من النوع ذاته وزيراً للخارجية، يبدو جلياً أنها أختارت حصر الحركة السياسية الفلسطينية في أطار محدد لا يتجاوز قسماً من العالم العربي إضافة الى أيران. سيجد الزهار، أو من هو من نوعيته، حتى صعوبة في حضور دورات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، ذلك أن الأدارة الأميركية قد لا تعطيه تأشيرة دخول الى الأراضي الأميركية من منطلق أنها تعتبر "حماس" حركة "إرهابية". أكثر من ذلك، لن يكون الزهار قادراً على زيارة دول أوروبية عدة تلعب دوراً مهماً في مجال تقديم مساعدات على صعد مختلفة للشعب الفلسطيني كي يتمكن هذا الشعب من الصمود في وجه الإحتلال. من الآن، يمكن القول إن "حماس" أخطأت باعتماد خط سياسي متشدد يخدم في النهاية المشروع الإسرائيلي الذي يسعى أولئك الذين خلفوا أرييل شارون الى تنفيذه. أنه المشروع الذي بدأ بالانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة بهدف الأمساك بجزء من الضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية المفترض أن تكون عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة. أنه أيضاً المشروع الذي يستند الى فكرة عدم وجود شريك فلسطيني يمكن التفاوض معه. كذلك، إنه مشروع يقوم على أن أسرائيل تريد رسم الحدود النهائية للدولة اليهودية والإنفصال كلياً عن الفلسطينيين عن طريق إستكمال "الجدار الأمني" العنصري. في استطاعة "حماس" الرد على هذا الكلام بأن أسرائيل لا تريد السلام وأن سنوات طويلة من المفاوضات لم تؤد إلى نتيجة، ثم بأي أسرائيل تريدون أن نعترف؟ هل يمكن الإعتراف بدولة تصر على احتلال أرض الآخرين؟ أن هذا المنطق سليم لو كان في إستطاعة "حماس" الأجابة عن سؤال في شأن قدرتها على تحقيق أي تقدم على صعيد استعادة أي جزء من الأرض الفلسطينية في ظل عزلة دولية. نعم لقد أنسحبت أسرائيل من غزة. لكن على الفلسطينيين ألا يوهموا أنفسهم في أية لحظة بأن الإنسحاب كان بفضل المقاومة. إن وهم انتصار المقاومة المسلحة في غزة يجب أن يزول من رؤوس قادة "حماس" نظراً الى أن الحقيقة مختلفة كلياً وهي تتلخص بأن القطاع كان عبئاً على أسرائيل وهي أرادت التخلص منه كي تتفرغ لمشروعها الاستعماري الذي يركز على ضم أجزاء من الضفة. ولذلك، أن السؤال الحقيقي الذي يفترض على "حماس" طرحه في هذه الأيام هو الآتي: هل يريح البرنامج الذي ستنال حكومتها ثقة المجلس التشريعي على أساسه أسرائيل أم يزعجها؟ هل يمكن للديبلوماسية الفلسطينية الإستفادة من العزلة الدولية، أم أن هذه العزلة هدف من أهداف أسرائيل؟ أوليس الإنتصار الأول الذي حققه أرييل شارون على ياسر عرفات كان في واشنطن التي أغلقت أبوابها في وجه الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني؟ لقد أعاد السيد محمود عباس رئيس السلطة الوطنية، الذي خلف ياسر عرفات بعد استشهاده، فتح هذه الأبواب من دون أن يؤدي ذلك الى النتائج المرجوة. لكن الأمر الذي لا يمكن تجاهله في أي وقت يتمثل في أن الضغط الأميركي على اسرائيل ساهم الى حد ما في التخفيف من عذابات الشعب الفلسطيني ولولا هذا الضغط لما فتح معبر رفح ولكان قطاع غزة تحول سجناً كبيراً. هذا ليس وقت التصلب والتشدد، بل وقت المرونة في التعاطي مع العالم كي لا يقف مجدداً مع الجلاد عندما ينقض على الضحية. وقد حصل ذلك بالفعل لدى اجتياح الإحتلال سجن أريحا واعتقال اللواء فؤاد الشوبكي مسؤول المشتريات العسكرية في "فتح" وأحد أبرز معاوني "أبو عمار" والسيد أحمد سعدات ألأمين العام ل"الجبهة الشعبية" وآخرين من المناضلين الفلسطينيين الذين كانوا تحت مراقبة أميركية وبريطانية في سجن فلسطيني. وكان ملفتاً أن ينسحب المراقبون الأميركيون والبريطانيون قبل الاجتياح الإسرائيلي للسجن بمجرد إعلان "حماس" أنها ستكون انتقائية في كل ما له علاقة بالأتفاقات التي عقدتها للسلطة الوطنية الفلسطينية. يفترض في"حماس" أن تتعلم الكثير من درس سجن أريحا. ولعل الدرس الأول الذي في استطاعتها تعلمه أن العالم قادر،-الى حد ما- على المساعدة في لجم الوحش الإسرائيلي وأن الإتفاقات التي عقدتها السلطة الوطنية الفلسطينية مع اطراف أخرى يجب أن تحترم وأن لا مصلحة فلسطينية في التنكر لأتفاقات معينة، وإلا تكررت مأساة سجن أريحا وإن بطرق مختلفة. في النهاية ماذا تريد "حماس"؟ هل تريد دفن مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة الذي هو ثمرة سنوات طويلة من النضال السياسي والعسكري خاضته الثورة الفلسطينية ودفعت من أجله عشرات آلاف الشهداء منذ أنطلاق الرصاصة الأولى في 1-1-1965 ؟ أذا كان هذا هو المقصود، يمكن لحركة المقاومة الإسلامية الاستمرار في سياستها العبثية التي لا تخدم سوى اسرائيل بدءاً بعزل الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة عن العالم. والمعني بالعالم هنا، العالم الفاعل الذي يمتلك ما يقدمه للشعب الفلسطيني غير الشعارات التي لا تقود الى أي مكان محدد باستثناء مزيد من العذاب والتشريد والقهر. هل من بديل من هذا العالم ومن التعاطي معه على الرغم من كل الشكاوى المبررة من المواقف غير المحقة تجاه الشعب الفلسطيني؟ في حال تمسك"حماس" ببرنامجها السياسي الذي يلغي الانفتاح على العالم والتعاطي مع الواقع وليس مع الأوهام، يخشى أن تتسبب الحركة في هزيمة أخرى للشعب الفلسطيني، هزيمة ستكون لها أنعكاسات في غاية السلبية على المنطقة كلها، اللهم الا أذا اكتشفت "حماس" أن لديها ما يكفي من القوة والتحالفات لإلحاق هزيمة عسكرية باسرائيل. مرة أخرى، هناك منطق في الخطاب السياسي ل"حماس"، خصوصاً عند سؤال الحركة بأي اسرائيل تريدون أن نعترف؟ لكن هذا المنطق يصير من دون فائدة عندما لا يأخذ في الأعتبار أن القضية الفلسطينية حققت تقدماً بفضل الدعم الدولي والإعتراف العالمي بوجود شعب فلسطيني كل ما يريده هو إحقاق حقوقه المشروعة في أطار حل اسمه حل الدولتين تماماً كما ورد في اعلان الإستقلال الفلسطيني الذي صدر عن المجلس الوطني في دورته المنعقدة في الجزائر في نوفمبر- تشرين الثاني من العام 1988م. من دون هذا التغيير الجذري في التفكير "الحماسي"، هناك مخاوف كبيرة من أن تتسبب "حماس" في القضاء على حلم الدولة الفلسطينية المستقلة الذي لا بد من تحقيقه في حال كان مطلوباً تكريس الإستقرار في المنطقة وليس ضربه. هل "حماس" قادرة على استيعاب هذه المعادلة وفهمها، أم أنها على استعداد لإعادة قضية الشعب الفلسطيني عقوداً عدة الى خلف، أي الى أيام ما قبل القرار الفلسطيني المستقل الذي أعاد قسماً صغيراً من الأرض الفسطينية الى أهلها وسمح بأن تكون هناك انتخابات فلسطينية توصل "حماس" الى تشكيل حكومة، أي إلى أن تكون نصف السلطة التي رفضت في الماضي الإعتراف بها!! http://Kidzkhair@aol com