البسطاء من الناس فى تهامة يقولون بأن: "برمة امشراكة متخمدشي" –أي: لا تنضج-، وغيرهم يقولون: إن السفينة التي فيها أكثر من ربّان تغرق، أما "الإنجليز" فيقولون بأن "كثرة الطهاة يفسدون الطبخة"، فما بالك إذا كان هؤلاء الشركاء، وأولئك القادة على طرفي نقيض كلية في المعتقدات والرؤى والاتجاهات والأفكار، ومن ثم وضع الأهداف ورسم الاستراتيجيات والخطط المحققة لتلك الأهداف، فما يفرق الشركاء هنا أكثر ممّا يوحدهم، فهم ما بين محتكم إلى مرجعية دينية، وآت من ثقافة منغلقة متحجرة في جلها، يرى نفسه الوحيد على "المحجة البيضاء"، وهو الذي يمتلك الحقيقة الناصعة، ويستأثر بالصواب المطلق منها، ومن ثم فلديه طموح لإقامة الدولة الإسلامية كما هى في مخيلته، ويفهمها وحده، ولا يزال يسعى إلى إحياء الخلافة الإسلامية ليعيد للأمة مجدها وسؤددها، وآخر هو نتاج ثقافة مادية علمانية، شهد العالم سقوطها المريع، وفشلها الذريع في تسيير شؤون الحياة، وثالث بين بين، لا ينتمي فكريا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، غير أن مصالح الحياة قد جمعت أقصى الشمال بأقصى اليمن، ووحدت دعاة الدين بالدنيا، ليصبح الكل طلاب دنيا لا أكثر، إن أردنا أن نضع البشر في معادنهم الحقيقية، وندعو الأشياء بمسمياتها الصحيحة، ولا نخدع الناس، أو نتخذ من الدين مطية للوصول إلى مآرب دنيوية خالصة. قد تكون التحالفات الحزبية ممارسة ديمقراطية معروفة، ومسألة مفهومة إذا ما تمت في بيئات توحدها العلمانية، ولا وجود لمرجعية دينية تحتكم إليها، وإنما لقوانين صنعها البشر، أما الخلاف فيكمن في البرامج والخطط والاستراتيجيات التي يضعها كل حزب لنفسه، بما يحقق مصالحه، وينفذ وعوده أمام ناخبيه، والوطن الذي يسعى إلى تقلد ولايته العظمى، وهو أمر مفهوم أيضا إذا ما تحقق عربيا بين أحزاب متفاوتة بين درجة علمانيتها، لكنها –أى التحالفات- غير مستساغة إطلاقا، ولا تبدو متسقة حتى ولو حاول أصحابها تجميلها بكل مساحيق الدنيا، لإخفاء عوراتها البادية للعيان، لأن ذلك من الأمور التي يصعب تحققها في بيئتنا، في ظل "ألوية" أحزاب "اللقاء المشترك"، التي تحاول أن تبدو الآن لواءً واحداً، ولكن سرعان ما ستعود إلى وضعها الطبيعي إذا ما انفض السامر الانتخابي. صحيح أن التحالف الحالي بين هذه الأحزاب يقويّ من وضعها، ويمكنها من لعب أوراق الضغط السياسية على نحو فعال، غير أن دوام هذا الوفاق من الصعب استمراره فيما بعد إجراء الانتخابات، نظراً لاختلاف المرجعيات الفكرية الشديد، والتى حتما سوف تنعكس على طرق الأداء، بل الخوف حينها أن يتحول الأمر فيما بعد ذلك إلى شقاق بين هذه الأحزاب، يحول دون تنفيذ برنامجها الحالي، وسيدفع ثمن ذلك الوطن من تأخير في تنميته وحراكه الاجتماعي السياسي، وبخاصة ونحن مقبلون على مرحلة هامة وحاسمة من تاريخ البلاد، ينتقل بموجبها إلى مستوى مختلف آخر عن الذي نعرفه، في إطار التأهيل الذي يتحقق لليمن لأول مرة في تاريخها الحديث. ليس لدي أي تحيز ضد أي حزب من أحزاب اللقاء المشترك، ولا ضد أي تجمع على الساحة السياسية اليمنية، فرادى كانوا أو مجتمعين، بل على العكس من ذلك؛ شأني كغيري الكثير من أنصار الديمقراطية، وتشجيع العمل على الدفع بهذه التجربة البادئة إلى الأمام، غير أن "الشراكة" على هذا النحو أزعم أنها تضعف كثيرا من المسألة الديمقراطية، وتبطئ من عجلة مسيرتها، حيث تعمق من إستراتيجية التحالفات الحزبية، وتجعل قوة الأحزاب مرهونة بهذه التحالفات، آتية من خارجها لا من تفاعل قواها الداخلية والخارجية، ومن ثم يحول ذلك دون تكوين كيانات حزبية قوية، وهو نتاج طبعي للفعل السياسي السليم الذي يقوم عليه جوهر العملية الديمقراطية، ومن ثم تأتي إلينا بنتائج زائفة لا تعبر عن القيمة الحقيقية لهذه الأحزاب في الساحة السياسية اليمنية، إضافة إلى أن الأحزاب في ظل هذا التوجه تنشغل بالتنسيق بين المتحالفين، والاصطفاف في مواجهة من تعتبرهم خصوماً مناوئين، فضلا عن أنها تعزز من "نخبوية" العمل الحزبي، الذي يكون على حساب إضعاف قاعدته التي هي أساس الفعل السياسي الديمقراطي السليم، فهل يستطيع قادة هذه الأحزاب أن يدلونا على موقع كوادرهم من "الأعراب" فى هذا التجمع النشاز، الذي يمكن أن يكون مفهوماً في حال وقوعه بين جميع الأحزاب على الساحة السياسية اليمنية، عداه مع حزب الإسلام السياسي الذي أدمن التحالفات الحزبية منذ انتهاج بلادنا للتعددية السياسة، فضلا عن اعتماده خطابا مؤدلجا يختلف كلية عن خطاب الأحزاب السياسية الأخرى، كونه ينطلق بصفة أساسية من مرجعيات دينية بحتة، وله رؤيته في الديمقراطية بأسرها، ويمكن أن يلفظها في أيّة لحظة كما ينفض أحدنا الغبار عن ياقة قميصه، حتى ولو ركب موجتها بحكم مقتضيات المرحلة، فالشورى والديمقراطية ستظل بالنسبة إليه بمثابة "البيضة" و"الدجاجة"، أيهما يسبق الآخر، أما برنامجه الأساسي فما شهدنا حتى الآن عربيا شعارات هلامية، تمثل إشكالية في حد ذاتها، فضلا عن ثقافة الانقياد والخضوع التي تقوم عليها أيديولوجيته الحزبية، والتي تعلي من شأن التسليم على ما عداه من النقاش والحوار، على اعتبار مبدأ "لا تناقش ولا تجادل"، وأن كثرة السؤال هي من أسباب هلاك السابقين، ومن ثم فقد أفرز هذا التوجه أجيالا من الطيعين الطائعين ممّن هم على أتم الاستعداد لتنفيذ "الفتاوى"، وإقامة الحدود، حتى ولو كانت طعنا يأتي من خلف الظهور، أو جزاً للرقاب من الأعناق دون محاكمة مستوجبة تعطي المتهم حقه في الدفاع عن نفسه، وتمنحه فرصة "التوبة". أزعم بأن قادة العمل الإسلام السياسي يفوتون على أنفسهم فرصة تاريخية في فترة زمنية واتتهم فيها ظروف العمل الحزبي الملائم، ربما أكثر من أية دولة عربية أخرى، ومن ثم فقد كان حريا بهم حسن توظيف هذه الفرصة، أو اهتبالها كما يقولون، وإعادة ترتيب أوراق البيت من الداخل، وتقديم برنامج سياسي للداخل والخارج، الذي -لظروف غاية في التعقيد- يتحسس موطء قدميه، ويحلق ببصره في الفضاء المجهول، إذا ما أتت سيرة الأحزاب الإسلامية، ومن ثم فإن برنامجاً يقوم على إدراك فطن لضرورات الواقع، واحتياجات البيئة الداخلية والخارجية، في ضوء فهم معتدل للدين الإسلامي في ضوء مقاصده الأساسية، بما من شأنه، ولو جزئيا، تخفيف الاحتقان العالمي ضد هذه الأحزاب، غير أن حزب الإسلام السياسي في غمرة انشغاله بالتحالفات الحزبية، التي تضره وتفيد غيره أكثر ممّا تنفعه، لم يدرك استحقاقات الداخل، ولا ضرورات الخارج الذي لا يمكن تجاهله في إطار العمل السياسي، في ظل عالم تتشابك فيه المصالح اليوم على غير نحو سابق، وذلك ارتكانا إلى قاعدة شعبية لا بأس بها إذا ما قورن بأحزاب المعارضة الأخرى، غير أن ما ينبغي فهمه في هذا الإطار هو أن هذه الكوادر ليست استحقاقا لعمل سياسي مقارنة بعمر الأحزاب السياسية الأخرى، ولكنها بصفة أساسية حصيلة أعمال دعوية دينية، منذ تشرف هذا البلد بدخول الدين فيه، ومن ثم فأي ادعاء للاستفراد بهذا الدور هو نوع من أنواع "القرصنة"، فدين هذا الشعب الإسلام، والكل مقر بالعبودية لله تعالى، وإتباع نبيه الخاتم. أما ما يتحتم على "الناخب" اليمني فهمه، حتى في ظل هذا المزيج الحزبي غير المستساغ، الذي يشكل بلبلة لذهنه، إلا أن عليه أن يكون فطنا لمن يمنح صوته في هذا الظرف التاريخي العصيب، فصوت الناخبين "قرار" عليهم أن يكونوا مدركين لتحمل عواقبه في القريب العاجل، ويستحضر الذهن تجربة دولة عربية في هذا الصدد، حين خاض بعض المرشحين الانتخابات تحت مسمى "مستقلين"، وفاز بعضهم بأصوات الناخبين، ولكنهم سرعان ما عادوا إلى أحزابهم، أو انضموا إلى حزب الأغلبية بعد وصولهم إلى المجلس على ظهر تلك الأصوات، وأداروا الظهور لناخبيهم، الذين علت أصوات كثير منهم محتجة على تلك المواقف، بل واعتبروها "خيانة" لهم، وخديعة مورست ضدهم، أما الخندق المظلم الذي دخلت فيه حكومة "حماس"، وما يحدث للشعب الفلسطيني جراء اختياره الديمقراطي، فتلك مسألة تحتاج إلى حديث آخر، ولا أظنها خافية على اليمني بفطنته وفطرته.