نواصل في هذه الحلقة الثانية والأخيرة متابعة سيرة الرئيس الفرنسي جاك شيراك في سياق الحديث عن مرشحي الانتخابات الرئاسية في فرنسا. لم توسع أحداث 11 سبتمبر 2001 هامش المناورة أمام شيراك على الصعيد الخارجي والدفاعي وحده فتداعياتها الفرنسية وخصوصاً في ضواحي المدن التي تقطنها غالبية من المسلمين ستتيح له هامشاً للمناورة اكبر و بصورة خاصة في المجال الأمني ذلك أن الشبان المتمردين والمأزومين في هذه المناطق ازدادوا تمرداً بفعل الحديث عن صراع الحضارات و استهداف المسلمين .و بدأت مجموعات منهم تشعل الحرائق و تتصدى للمؤسسات الرسمية حتى بدا وكأن الضواحي غيتوات خارجة عن القوانين و لا يدخلها إلا أهاليها . ألحقت الضواحي المشتعلة أذى بسمعة الاشتراكيين الأمنية فدخل الرئيس على الخط و لم يتردد بالتلويح بالعصا الغليظة إذا ما أعيد انتخابه ووعد مواطنيه بتطبيق القوانين بصرامة وبإنشاء وزارة خاصة بالأمن الداخلي. و كلما كان يردد خطابة الأمني في المهرجانات كلما كانت ضواحي المدن ترفده بحجج و براهين جديدة , حيث انعكس الصراع في الأراضي الفلسطينية المحتلة على ضواحي المدن و أدى إلى استهداف اليهود ومؤسساتهم بقنابل المولوتوف و الشتائم ...إلخ. وبما أن المصادفات السعيدة لا تهل على شيراك فرادى و إنما بالجملة فقد تبين من خلال التطبيق أن صعوبات جدية تعترض أسبوع العمل من 35 ساعة و أن البطالة عادت مجدداً للارتفاع و أن الإصلاح المعتمد في كورسيكا . كل ذلك شكل تهديداً لإنجازات حكومة جوسبان ووسع هامش المناورة أمام شيراك للنيل من تلك الحكومة فاتهمها بتبديد ثمار الازدهار الاقتصادي الذي عم البلاد خلال سنواتها الخمسة . يفيد ما سبق القول أن المصادفات السعيدة ابتسمت فعلاً للرجل لكنها لا تكفي وحدها لتفسير كل أسباب تقدمه على غيره من المرشحين الأمر الذي يحيلنا إلى سيرته الشخصية . كان الرئيس الفرنسي الراحل جورج بومبيدو يقول لمن يسأله عن حال مساعده الشاب: لو طلبت من شيراك أن يحفر لي نفقاً بين منزلي في جادة «كي دو بيتون» و قصر «ماتينيون» , فسيفعل ذلك في ليلة واحدة ,و سأجده في التاسعة و الربع صباحاً بانتظاري على مدخل النفق . وفي ذلك إشارة إلى حيوية الرجل وإخلاصه لبومبيدو و تفانيه في عمله و من تلك الفترة سيكتسب لقب البلدوزر . و الثابت في باريس أن شيراك يدين بصعوده السياسي إلى جورج بومبيدو وحده .لذا لم يعبر عن إخلاصه لأحد غيره إلى حد انه أطلق اسم زوجة بومبيدو كلود على ابنته الثانية المولودة عام 1962 والتي تعتبر اليوم ملاكه الحارس و أحد أهم مساعديه ناهيك عن أنه أحاط أرملة الرئيس الراحل برعايته و اعتبرها جزءاً من أسرته . قبل أن يلتقي بومبيدو ,كان شيراك العائد من خدمته الثانية في الجزائر ,عضواً في المجلس الوطني المحاسبة و يعاني من صدمة عميقة بسبب نيل هذا البلد استقلاله عام 1962 .و يروي الصحافي المعروف تييري دو جاردان أن شيراك قرر في حينه الانتقال من العمل الرسمي إلى القطاع الخاص و خلال بحثه عن السبل المناسبة , التقى صدفة أحد زملائه السابقين في كلية الإدارة الوطنية ويدعى جيرار بيلورجي وكان أمينا عاماً لرئاسة الحكومة فعرض عليه الانضمام إلى السكريتاريا وتسلم الملف الاقتصادي .قبل شيراك على الفور وأمضى سبعة أشهر كان خلالها يجلس إلى طاولة الاجتماعات ليسجل قرارات يتخذها وزير المال فاليري جيسكار ديستان ووزير الزراعة إدغار بيزاني ووزير الصناعة بمكانوفسكي . ومن هذا المنصب انتقل للعمل كمستشار تقني لبومبيدو نفسه وتسلم ملف التجهيز والبناء والنقل .في هذه الأثناء أوصى به مارسيل داسو صاحب الصناعات الحربية المعروف فازدادت ثقة بومبيدو به وأمضى إلى جانبه خمس سنوات اضطلع خلالها بملفات كبيرة من بينها تصنيع الكونكورد و تشييد الطرقات السريعة وإقامة المساكن الشعبية ...الخ. القصر والسياسة في العام 1964 عينه بومبيدو نائب وزير, فبرع في إقامة علاقات وثيقة مع قادة النقابات العمالية ستتيح له ضمان حيادها في ثورة 1968 الطلابية .لكن رئيس الوزراء اللاحق موريس كوف دو مورفيل سيطيح به في العام 1969 ففتح مكتبا خاصا واشترى قصراً في مسقط رأس والديه في منطقة الكوريز , وسيتبين فيما بعد أن القصر مدرج في لائحة التراث القومي و انه اشتراه حتى يستفيد من المساعدات التي تقدمها الدولة للعناية بآثارها الوطنية هنا اندلعت أولى قضاياه الشخصية ما حمل بومبيدو على مخاطبته بالقول «عندما نقرر العمل بالسياسة يجب ألا نتملك قصراً إلا إذا كان تركة عائلية وافدة من عهد لويس الخامس عشر، وحتى في هذه الحالة فإنه أمر غير مستحب ...» مع بومبيدو الذي خلف شارل ديغول في رئاسة الجمهورية عام 1969 سيصعد شيراك إلى الصف الأول فقد عين وزيراً للخزانة حتى يراقب وزير المال جيسكار ديستان ثم وزيراً للعلاقة مع البرلمان لضبط جموح الزعيم الديغولي الراحل شابان دلماس .وتردد بومبيدو للحظة إذ قرر تعيينه رئيساً للوزراء قبل وفاته عام 1974 لكنه صرف النظر عن الفكرة و سماه وزيراً للداخلية وهو منصب في غاية الأهمية سيتيح له الإشراف على الانتخابات الرئاسية خلال استحقاق مصيري . بعد موت عرابة السياسي لن يبرهن شيراك عن إخلاص لأي من الزعماء السياسيين الكبار و سيتحول إلى مناور فطن يحسن اللعب على تناقضات بارونات اليمين.وحتى يصل إلى رئاسة الوزراء عام 1974 تنكر للديغولي شابان دلماس ودعم جيسكار في السباق على الأليزيه وبعد استقالته من الوزارة 1976 انقض على معقل الرئيس في بلدية باريس التي احتفظ بإدارتها لأكثر من عشرين عاماً.. منذ ذلك التاريخ لن يخفي طموحه بالوصول إلى قصر الأليزيه .لذا قطع الطريق على جيسكار عام 1981 ورشح نفسه للانتخابات الرئاسية للمرة الأولى , و يقال إنه ساهم بصورة غير مباشرة بفوز فرانسوا ميتران . وفي العام 1988 ترشح ثانية لكنه أصيب بفشل ذريع ظن البعض انه لن يخرج منه سالماً.غير أنه انتظر اللحظة المناسبة وحقق حلمه بالفوز عام 1995 على ليونيل جوسبان.. بوصوله إلى الرئاسة ,قطع شيراك بنجاح رحلة الألف ميل التي تفرض عادة على أبناء الطبقات المتواضعة.فهو المولود عام 1932 ينتمي إلى أسرة متواضعة يقول عنها «...كان كل أجدادي من الفلاحين الفقراء.والدي كان موظفاً صغيراً في مصرف وأنهى حياته كادراً كبيراً».. أما طفولته فلم تنطوي على مؤشرات تؤذن بمستقبل باهر. لم يكن بين الأوائل في صفه وكان شديد الانطواء على نفسه و يثرثر كثيرا وينفعل بسرعة ومن هواياته المفضلة تعلم الطبخ و قد نجح في تحضير طبق «راس العجل» وهو المفضل لديه حتى الآن.. أما نجاحه الدراسي في الثانوية وبامتياز فيرجع إلى معجزة فاجأته كما فاجأت المحيطين به لكنها خولته دخول مدرسة «لوي لو غران» التي خرج منها عدد كبير من زعماء البلاد .والمعروف عنه أنه كان يميل في تلك الفترة إلى اليسار إذ وقع نداء ستوكهلم الشيوعي الشهير و كان يبيع صحيفة الأومانيته الناطقة باسم الحزب الشيوعي الفرنسي في الطرقات العامة خلال العطلة الأسبوعية .ويقول ميشال روكار زميله السابق في معهد الإدارة الوطنية انه حاول مرارا تنظيم شيراك في صفوف الاشتراكيين لكن الأخير كان يرفض بحجة أنهم ليسوا يساريين كفاية .والراجح أن ميله اليساري في ذلك الحين جعله يتعلم اللغة الروسية و اللغة السنسيكريتية وقد ترجم أشعاراً وكتب أبحاثاً في هذا المجال . ويروي المقربون منه انه كان يرغب بدراسة الطب وتستهويه فكرة طبيب الفقراء الذي يجوب العالم الثالث لمساعدة المحتاجين . الظن الغالب أن حدثين كبيرين يقفان وراء انعطافه اليميني .الأول يتمثل بتخصصه في العلوم السياسية و اشتراكه في حرب الجزائر 1956 و1957 برتبة ملازم و قيادته كتيبة من32 جندياً على الحدود المغربية . هناك عرف العطش و الجوع والخوف وتعلم الافتخار الوطني والثاني يتمثل بسفره إلى الولاياتالمتحدة ليتلقى ضمن تخصصه محاضرات في جامعة هارفرد .وتشير وقائع تلك الفترة إلى انه عمل سائقا عند احد الأثرياء الكبار و عاش لبعض الوقت مع شابة تملك مليارات الدولارات . سيعود شيراك إلى فرنسا متأثراً بسحر البورجوازية الخفي وسيتزوج من فتاة أريستوقراطية الأصل هي زوجته الحالية «برناديت شودرون دوكورسيل» التي تمتلك عائلتها نفوذاً مهماً في الوسط السياسي الفرنسي , مؤكداً بذلك على انعطاف نحو اليمين سيلازمه طيلة حياته السياسية. هكذا يبدو جاك شيراك رجلاً فريداً في الوسط السياسي الفرنسي .فقد ابتسم له الحظ مراراً في حياته السياسية والخاصة و حملته المصادفات السعيدة من الأقاصي إلى قمة الهرم. أما عن تغيير آرائه و أحلامه ومواقفه السياسية فهناك مثل فرنسي يقول ...إن الأغبياء وحدهم لا يغيرون آراءهم ... mfjalloul|@hotmail.com