هل تتعرض اللغة العربية لمخاطر جدية؟ أم أنها كغيرها من اللغات الحية الأساسية تمر أحيانا بفترات حرجة سرعان ما تتجاوزها؟. أيجوز الحديث عن مخاطر تستهدف لسان العرب وهي لغة كتابنا المقدس؟ ألم تمر العربية بمراحل قاسية خلال السيطرة التركية تمكنت من تجاوزها بفضل طابعها المقدس؟ هذه الأسئلة وغيرها تعود إلى السطح مجدداً وتستأثر بنقاش واسع من أهل الاختصاص الذين ما برحوا منذ بعض الوقت ينظرون إلى اللغة نظرة قياسية مع اللغة الإنجليزية معتبرين أن اللغة الأقوى في العالم هي لغة القوة الأعظم في العالم وأن اللغة الأضعف في العالم وفق قياسات القوة والضعف هي لغة الضعفاء في العالم ومنهم العرب ولسانهم فهل يصح القياس؟ لقد أحسن «مجمع اللغة العربية» في القاهرة بإطلاق صفارة الإنذار حول المخاطر التي تتهدد لغة الضاد في أرض الكنانة. يرى المجمع في مطالعة نشرها أواخر الأسبوع الماضي أن أكثر من 2500 مدرسة أجنبية في مصر تؤهل أبناء النخبة المصرية باللغات الأجنبية الأمر الذي سيؤدي إلى انبثاق فئة اجتماعية مقطوعة الصلة باللغة العربية أي بالبيئة والمجتمع المصري. ولو أراد «المجمع» أن يفصح أكثر لقال: إن الفئة المذكورة هي فئة الحكام والإداريين المقبلين على امتداد جيل أو جيلين. وسند القول المضمر هو أن خريجي المدارس المذكورة سيكون ولاؤهم للغة معلميهم وحضارتها وستكون قراراتهم محكومة بهذه العلاقة وسيمارسون السلطة في ضوئها وبالتالي ستكون اللغة العربية في عرفهم لغة التخلف فيما الأجنبية لغة التقدم ومع هذا التصنيف سيدخل المجتمع المصري في مسيرة صراعية على الطريقة الجزائرية حيث اللغة العربية موضع نقاش يطال جدواها ومحل اختيار بين لغات أخرى وهدفاً لنعوت شنيعة بدلاً من أن تكون بديهة من البديهات. كالفرنسية في فرنسا والإنجليزية في أمريكا والألمانية في ألمانيا والصينية في الصين. والروسية في روسيا. وإذ يتصدى «المجمع المصري» للأخطار المحيقة باللغة العربية فهو يعبر عن إخلاصه للدور الذي نهض من أجله في ثلاثينات القرن الماضي حين كانت العربية مهددة بلغة المستعمرين الأجانب والبعثات التبشيرية ومعنى التهديد نقع عليه في وقائع تلك الفترة ومن بينها خطاب افتتاحي للمدرسة الفيكتورية في الإسكندرية ألقاه اللورد كرومر القنصل العام لبريطانيا في مصر إذ يقول « ..في هذه المدرسة 196 طالباً بينهم 96 مسيحياً و76 يهودياً و33 مسلماً.وإذا أحصينا الجنسيات نجد بينهم مصريين وأتراكا وأرمن وسوريين ومالطيين ويونانيين وأسباناً وفرنسيين وسويسريين وبلجيكيين وإيطاليين وفي ذلك تكثيف للتنوع القائم في المجتمع المصري, آمل أن يساهم هذا الخليط في وئام القوميات وأملي هو أن يعي الناس الذين يتعلمون هنا كالأوروبيين بأنهم أبطال الحضارة الغربية لهذا السبب ولأسباب أخرى أحيي افتتاح هذه المدرسة». منذ كرومر و قبله كانت المدارس الأجنبية ومازالت تعد «أبطالاً» محليين للحضارة الغربية ولا شيء غير ذلك مع فارق أساسي هو أنها كانت تؤدي هذا الدور في سياق سيطرة كولونيالية مباشرة وتؤديه اليوم وسط ضباب كثيف منسوج بذرائع ومفاهيم مضللة ومضحكة في الآن معا من نوع: لا دخل للعلم بالسياسة. لا بد من التنوير لمجابهة الظلامية والتنوير يتم عبر التعلم باللغة الأجنبية. لا يمكن الوصول إلى العلوم الحديثة عبر اللغة العربية. ينطوي تصنيف العربية في موقع ظلامي والإنجليزية في موقع تنويري على تقدير مغرض شبيه بتقدير كرومر وسيكون مفهوماً إن صدر عن بريطاني أو أمريكي يعتقد أن واجبه تجاه وطنه ولغته هو بالضبط العمل على إبقاء مسافة التبعية الحضارية واسعة بين اللغة الإنجليزية واللغة العربية وحمل أهل القرار في الدول العربية على احترام هذه المسافة لكن ما يصعب فهمه هو أن يروج عرب مزاعم تخلف اللغة العربية وعدم قابليتها لاستيعاب العلوم والتفاعل معها أو عدم قدرتها على مواكبة العصر وحضارته. يمكن للمرء افتراض حسن النية لدى المروجين واعتبارهم مضللين ما يستدعي لفت انتباههم إلى أن اللغة الصينية التي تتضمن عشرات الآلاف من الرموز والرسوم استوعبت وتستوعب العلوم وأن الصهاينة أعادوا إحياء لغتهم الميتة وجعلوها تستوعب العلوم والتكنولوجيا وأن اللغات الآسيوية المعقدة لم تتخلف عن القيام بهذا الواجب فلماذا تكون العربية قاصرة وهي التي كانت حتى القرن الخامس عشر لغة العلوم والتقدم في العالم؟إن كان ثمة قصور في اللغة العربية فهو قصور أهلها والقائمين عليها.إنها لسانهم فإن نطق بالقصور نطقت به وإن نطق بالتقدم نطقت به أيضاً. أما عن العرب غير المضللين أو ذوي النية السيئة ممن يسعون لتحطيم اللغة العربية فهؤلاء لا يجدي نقاش معهم ولا يجدي برهان أو حجة إنهم يؤدون دوراً من موقع تابع والتابع بحسب محي الدين ابن عربي «.. لا يدرك المتبوع أبداً فيما هو تابع له فيه إذ لو أدركه لم يكن تابعاً .فافهم».لقد أدرك الرسول العربي هذه الحقيقة عندما طلب من زيد بن ثابت تعلم السريانية ونصح آخرين موثوقين بتعلم لغة اليهود حتى يكون للعربي المسلم مدخلاً إليهم لمحاورتهم وفق شروطه الحضارية وليس وفق شروطهم وحتى لا يكون تحت رحمتهم يقررون له في لغتهم ما يريدون وليس ما يريد.ولعل هذا ما يفعله بالضبط المستشرقون الذين يتعلمون لغتنا العربية أو الناطقون الأجانب في وزارات خارجية أمريكا وفرنسا وبريطانيا فهم يحدثوننا بلساننا عن شروط بلدانهم ومطالبها منا ولا يفعلون ذلك حباً بلغتنا وإنما حباً ببلادهم وبأهلهم وبهذا المعنى تتحول اللغة الأجنبية عندهم إلى وسيلة معرفية تزيدهم قوة في حين تتحول عندنا إلى وسيلة لزيادتنا ضعفاً وتبعية. بالمقابل عندما يطالب بعض العرب الأغبياء أو العاجزين أو المحبطين بمقاطعة اللغات الأجنبية فإنهم يسددون لكمة قوية لأنفسهم ولأبناء جلدتهم ذلك أن المخاطر على اللغة العربية لا تكمن في تعلم اللغة الإنجليزية وإنما في دواعي وظروف وشروط تعلمها. فالمعرفة بها يمكن أن تكون وسيلة لنهوض عربي ينهض معه لسان العرب ويمكن أن تكون وسيلة لانحدار عربي ينحدر معه لسان العرب ما يعني أن شأن اللغة هو في المقام الأول والأخير شأن سياسي وليس شأناً لغوياً كما يردد السذج الذين يزعمون الفصل بين اللغة والسياسة. تبقى إشارة إلى المطمئنين الأبديين على مكانة اللغة العربية بوصفها لغة القرآن فهؤلاء قد يستقيظون بعد فوات الأوان على كابوس شبيه بكوابيس أصحاب حضارات دالت مع لغاتها المشرقة. فمن يتحدث اليوم باللغة الأشورية أو الكلدانية. وان كان الحظ حليفهم فقد يستيقظون على كابوس شبيه بكابوس أهل اللغة اللاتينية التي التهمتها لهجات وعاميات ونزاعات وشظايا مجتمعات هنا وهناك في القارة الأوروبية العجوز. اللغة العربية لساننا ومصيرها متعلق بمصيرنا فلنتأمل حالنا اليوم ألسنا على حافة الهاوية إذن لماذا يكون لساننا في مكان آخر؟