تدفع الشعوب أثماناً باهظة من كرامتها وراحة بالها في مقابل تحقيق بعض الأحلام الطفولية التي تسكن رؤوس بعض المغامرين فيها.. وما هو إلا أن تمر الأيام وتتبدل الأحوال وينجلي الغبار حتى يكتشف الناس أنهم قد قدموا أنفسهم قرباناً لأفة الوهم الرومانسية، وأن كثيراً من تلك الأفكار التي سلموا لها زمامهم لها وجاهة شعرية، لكنها لا ترقى لأن تكون واقعاً حياً يعاش!..هكذا كانت الشيوعية والاشتراكية، وهكذا كان «الرايخ الثالث» الألماني، وهكذا سيكون مستقبل الصهيونية، والإمبريالية الغربيتين! إن من حق الشعوب أن تحلم بوطن جميل “له برلمان من الياسمين، وشعب رقيق من الياسمين” كما يقول نزار قباني، وطن تجري من تحته الأنهار، وتجري من أمامه الأشرار، لكن الشعوب الراشدة لا تتوقف عند هذا الحلم الرومانسي المشروع، ولا تسمح بأن يتحول الحلم إلى كابوس!، وإنما تسعى إلى تحقيق أكبر قدر ممكن منه، لا عبر جيل واحد، وإنما عبر عدد من الأجيال، والشعوب الراشدة تستطيع التفريق بين الغاية المثالية، والوسيلة الواقعية، ولا يفوتها أن الأحلام قد تصبح شراكاً فتاكة، إذا تركت في متناول يد الأطفال. تخطر ببالي هذه المعاني وأنا أستمع هذه الأيام بقلق لبعض الأصوات الخاطئة التي تنادي إلى إعادة تحقيق «الانفصال» في الجسد اليمني الواحد، بذرائع أقل ما توصف به أنها ساذجة!. ولكن سذاجتها لا تمنع من التوقف أمامها بصدق ووضوح لمناقشتها نقاشاً موضوعياً هادئاً يبين زيفها لأصحابها قبل غيرهم، والوضوح هنا شرط حاسم في المعالجة، وهو خير من الوضوح الذي يفرضه السيف، لو كان العرب يعلمون!. وإن من حق دعاة الانفصال أن نصغي إليهم، وأن نحاورهم، وأن نقدم لهم الأعذار من واحدٍ إلى سبعين، أقول هذا إيماناً مني بحق حرية التعبير بل وحق حرية الكفر، إذا شاءوا!! وإشراكاً مني بأن منطق الوحدة غالب على منطق الفرقة مهما تذرع هذا الأخير بالحجج، والبراهين القاصرة، بشرط أن يظل الأمر في دائرة الحوار والجدل: ومن هذا المنطلق فقد رأيت التوقف عند بعض الذرائع التي يسوقها دعاة الانفصال في السر أو الجهر لتبرير مطلبهم، محاوراً لا مناوراً لها، حتى يتبين لهم ولمن غلبته شقوته، أن الوحدة هي الحق، بمنطق العقل ومنطق الواقع والضرورة قبل منطق الدين وتوقفت أمام أربع ذرائع انفصالية، سميتهاگ: أوهام الانفصال الأربعة!. وهي: 1 وهم حق تقرير المصير: ولا شك أن من حق الإنسان «أي إنسان» أن يقرر مصيره في هذا العالم بالصورة التي يرضاها، هذا ما يقوله منطق العقل، ومنطق العدل، غير أن لمنطق الحق والعدل تكملة لا بد منها، تكشف عنها الحقيقة الآتية: إذا كان المنطق يؤيد حق الإنسان في تقرير مصيره، فإن هذا المنطق نفسه لا يقف بهذا الحق عند سقف محدد، فإذا قلنا مثلاً :إن من حق «أبناء الجنوب» أن يقرروا مصيرهم كما ينادي المنادي من مكان قريب، فنقول بالتداعي المنطقي :إن من حق أبناء «جنوب الجنوب» وأبناء «شمال الجنوب» وأبناء «شرق الجنوب» وأبناء كافة الاتجاهات الجغرافية والفلكية، أيضاً، أن يطالبوا بحقهم في تقرير مصيرهم على نفس الطريق!، بل سيكون من حق كل حارة وحي أن يعلن انفصاله إذا ما راودته الرغبة في تقرير مصيره، فهل يعترضون على هذا المنطق؟! قد يقول الذي عنده علم من الكتاب: إنما نرغب في عودة كيان كان موجوداً ومكتملاً قبل العام 1990م وهذا أيضاً كلام بلا منطق، لأن هذا الكيان الذي يطالب به لا يزيد عمره على المائة عام، إذا لم يكن أقل من ذلك بكثير، وفي المقابل فإن أنصار الوحدة يطالبون بعودة كيان عمره آلاف لا تحصى من السنين، هو اليمن الأزلي القديم، فأي المنطقين أهدى سبيلاً، وأقوم قيلاً!. 2 وهم الاختلاف الثقافي: ومن منطقهم الذي لا منطق له قولهم بوجود اختلاف ثقافي بين أبناء الجنوب وأبناء الشمال، وعندما سألناهم عن مظاهر هذا الاختلاف حدثونا عن «المعوز» و«الفوطة» و«الثوب» و«الجنبية»، و«الرقص المختلط،» و«الرقص المذكر» وحدثونا عن النظام والقانون الذي تركه الاستعمار في أبناء الجنوب، والهمجية العشوائية التي تركتها الإمامة في أبناء الشمال. وغيرها من الأوهام التي لا تحتاج لدحضها أكثر من نظرة في خارطة المجتمع اليمني، من أقصى المهرة إلى أقصى صعدة، فالتنوع الثقافي الذي لا يصل إلى حد الاختلاف هو أحد الخصائص الجمالية والإنسانية التي تميز بعض المجتمعات عن غيرها، وهو عند العقلاء عامل بناء لا عامل هدم، ولو أن داعي الانفصال اكتفى بنظرة في خارطة ما يسمى بالجنوب وحده، لأعياه منطقه، فأين السمت الثقافي الواحد بين أبناء حضرموت مثلاً وأبناء الضالع؟!!أين روح التاجر من روح المحارب؟!! وأين روح المتبدي الصحراوي من روح المتمدن العدني؟!! وهذا نفسه يصدق على بقية أجزاء الوطن، والفوطة في عدن هي الفوطة في تعز، والثوب في صنعاء هو الثوب في حضرموت!. وأما قصة النظام واللانظام فهي إن صدقت لا تعد ذريعة لأي دعوة فما بالنا بالدعوة إلى الانفصال!. وهي في حقيقتها مسألة نسبية تتباين من منطقة إلى أخرى داخل دائرة الوطن الواحد، وللوقت منطقه في التغيير!. ولو فتح باب الفخر والتباهي لجاء كل طرف بحصته الوافرة، وهذه هي ثقافة داحس والغبراء، والفرزدق وجرير، التي نود أن نتركها جثة هامدة لنسور التاريخ والخلاصة أن هذا الوهم لا يختلف عن سابقه، من حيث إنه لا يقف عند سقف، ففي الجنوب أيضاً تنوع ثقافي بين مجتمعاته المتباعدة جغرافياً، فهل يود دعاة الانفصال أن تكون هذه ذريعة أخرى يقدمونها لدعاة المناطقية داخل الجنوب نفسه إذا واتتهم الفرصة للدعوة إلى الانفصال؟! 3 وهم الثروة الكبيرة للقلة السكانية: بعد سقوط المثالية الاشتراكية، وارتفاع حدة العولمة، وانتشار الحروب، والفقر، والخوف ساد العالم اليوم روح الأنانية البراغماتية، على حساب «القيمة» وبعد أن كان الإنسان يضحي بنفسه من أجل «القيم» صار يضحي بالقيم من أجل نفسه، فمصلحته أولاً، ومصلحته ثانياً، ومصلحته أخيراً، ومن تلك القيم التي صار البعض يرميها وراء ظهره قيمة «الوحدة»!.. وأنا هنا لن أتحدث عن الوحدة كقيمة لها أهميتها على حياة الإنسان اليمني في مستقبل أجياله إن لم يكن في حاضرها، فهذا النوع من الخطاب لم يعد مجدياً مع أصحاب فلسفة «المنفعة»، وإنما سأخاطبهم بمنطق المنفعة نفسها، فما المنفعة الموهومة في حديث دعاة الانفصال؟!.. سمعنا بعضهم يتحدث عن غزارة الاكتشافات النفطية والغازية والمائية في محافظات الجنوب، مع سعة في المساحة وقلة في السكان من معانيها أن يتحول الجنوب إلى دولة رفاه لا تقل عن دول الجوار الخليجي، وأنا هنا ليس بين يدي أرقام محددة عن حقيقة الموارد الطبيعية لمحافظات الجمهورية، ولا أدري صحة هذه الحسبة من عدمها، ولكني سأضطر إلى مجاراتها قليلاً، لمحاكمتها منطقياً كخطوة أولى فقط! وأول مايتبادر إلى الذهن سؤال يقول: ما الذي يضمن لدعاة الانفصال وأكثرهم من مناطق فقيرة الموارد ألاّ يتحول حلمهم إلى كابوس إذا ما قررت المحافظات الغنية بمواردها أن تطالب بحق تقرير المصير، مدعومة برغبات خارجية لا قبل لهم بها؟ وما الذي يضمن لهم ألا تكون هذه الثروة المنتظرة هي المطمع الذي يؤدي إلى انفراط العقد مرة ثالثة ورابعة؟ الحقيقة أن هذا الوهم ينبىء في ذهن أصحابه عن وهم آخر هو أن حدوث التنمية متوقف على الموارد الطبيعية للدولة، وأبسط رد على هذا الوهم هو هذه المعجزة اليابانية المتحققة اليوم. فاليابان تكاد تكون دولة بلا موارد طبيعية، لكنها اكتشفت الإنسان، وجعلته موردها الأساس، ولماذا نذهب بعيداً ولدينا مثالان قريبان عربياً هما: الأردن ولبنان، ماذا تمتلك هاتان الدولتان غير «البندورة» والسياحة، وقليلاً من المعادن التي لا تقدم كثيراً «بالنسبة للأردن» ومع ذلك فإن مستوى دخل الفرد فيهما أفضل بكثير من بعض المجتمعات البترولية، والتقدم لا يقاس إلا بمستوى دخل الفرد من المال والفكر!. وكل ذلك لأن الإنسان هو مركز التنمية في هذه المجتمعات، ولربما يكون انعدام الموارد الطبيعية في قطر من الأقطار عاملاً إيجابياً يدفع باتجاه اكتشاف الإنسان، سيد التنمية ومركزها!. وفوق هذا فإن الثروة ليست ضماناً للاستمرار، ولا حتى ضماناً للرفاه، بل قد تكون عاملاً من عوامل القلق والصراع الدائم. 4 وهم الاضطهاد المناطقي: وقبل الحديث عن هذا الوهم لا بد من الإقرار بحقيقة لا تقبل الجدل هي أن الوطن حق للجميع بثرواته ووظائفه ومناصبه، مثلما كان حقاً للجميع بجغرافيته وتاريخه وثقافته، وحقيقة أخرى هي أن بعض المتنفذين من أرباب الفساد قد أساء فعلاً إلى اليمن وأهله بما اقترفته يداه من أخذٍ للحقوق، وإساءة للإنسان، في هذا المكان أو ذاك من أرض الوطن، ومن حق المتضرر أن يرفع صوته مطالباً بحقه دون خجل، ودون مبالغة أيضاً، وعلى الرغم من حساسية موضوع الاضطهاد هذا إلا أن مناقشته لا بد منها لأنه واحد من المبالغات التي لا أساس لها، وكان بودي لو دللت على ذلك بالأرقام والمعلومات، لكني سأكتفي بذكر بعض الملاحظات فقط، وأولى تلك الملاحظات هي أن شكوى الاضطهاد هذه كنا نسمعها قديماً من بعض أبناء المناطق الوسطى، ثم دارت الأيام وأخذ أبناء المناطق الوسطى حظوظهم كاملة من الوظائف والمناصب والأعمال، وإذا بنا اليوم نسمع ذات الشكوى من أبناء «الجبل»، وقد سمعنا أحد مشائخ حاشد قبل فترة يعلن عن وجود تحيز ضد قبيلته بدليل عدم أو قلة وجود وزراء من أبناء حاشد!.. والحقيقة أن هذا الباب لو فتح فلن تبقى قبيلة أو جهة إلا قالت نفس القول.. ويكفي هذا القول فساداً أنه يؤسس لشريعة القبيلة على حساب شريعة الدولة المدنية.. وليس من مصلحة أحد في الدولة بمن فيهم الأخ الرئيس أن يجعل نفسه محل اتهام من هذا النوع، ولا أعتقد أن لدعاوي المناطقية والطائفية كرامة تستحق التقدير!. هل نقول إننا نعيش زمن الأحلام الصغيرة، زمن «الميكرو أحلام»، وإن زمن الأحلام الكبيرة قد ولى؟ هل نتبدل اليمن الكبير بقبائل متناحرة؟ هل يعي طلاب الانفصال أنهم يؤسسون لتاريخ جديد من الصراع؟ وأنهم يسودون صفحاتهم بالعار أمام أجيال المستقبل؟. لا شك أنه منطق ضعيف ونظر أضعف، ومن حق الوحدة أن تدفع عن نفسها وأن تحمي أحلامها إذا أحست بالخطر! وستأتي اللحظة التي يكتشف فيها هؤلاء أنهم قد ارتكبوا حماقة في حق أجيال بعدهم، وإذا كانت الأجيال الحاضرة قد عجزت عن تحقيق كثير من أحلامها المرتبطة بالوحدة، فلا يجوز أن تيأس من تحقيقها على يد أجيال يمنية موحدة، ولا يجوز أن يكون ارتفاع الضغط وأمراض السكر عند بعض الحمقى سبباً في ارتكاب حماقة ضد الوطن الباقي قبلهم والباقي بعدهم.