درج جزء مهم من المجتمع الحزبي والسياسي في البلاد على نوع من الخطاب يشبه الى حد بعيد «العلاج بالضرب» الذي يمارسه ويزاوله بعض ممتهني الطب الشعبي ومداواة المس. وحيث يفتقر هؤلاء إلى خبرة طبية وعلاجية من أي نوع فإنهم لا يترددون مطلقا في إعطاء التشخيص نفسه في كل مرة ومع اختلاف المرض والمصابين وتنوعهم. ولا يخرج التشخيص عن وصف الحالة بأنها «مس شيطاني» أو «تلبس روحاني» أو حتى «تعشق الجان بالانس». التشخيص الموحد والعبقري هذا يفيد هؤلاء المتحذلفين و«سراق المهنة» كثيراً فهو يضمن لهم حق وحرية تحديد نوعية الدواء وطريقة أخذه، فبدلاً من ورطة التوهان في تفاصيل العقاقير والعلاجات المخبرية التي لا خبر لهم عنها أو خبرة لديهم، يذهبون الى العلاج اللائق بهم وبالتشخيص المزعوم. وسيكون الضرب المبرح أو اللطم واللكم هو الخيار الأفضل والمتاح عمليا، والنتيجة المتوقعة - أو قل غير المتوقعة - هي إكساب المريض مزيداً من الأمراض والعلل في الجسم والروح والعقل والنفس . وقد يحدث أن يموت المريض، كما قرأنا أكثر من مرة عن حالات وفاة للأسباب المذكورة، ليبقى الجان أو الشيطان حيا ويموت المريض الذي ساقه سوء حظه وجهل مرافقيه إلى الموت المحقق بدلاً من الذهاب به الى الطبيب والمستشفى. هناك من السياسيين والحزبيين والمنظرين - أو المناضلين - من هم على هذه الشاكلة وهذا الضرب من الاحترافية المكتسبة أو الحرافة المتخلقة. لن تعدم في اليوم الواحد بياناً واحداً على الأقل، عن هذا الحزب أو تلك الجهة أو التكتل، أو حتى تصريحاً أو خطاباً وكلمة وخطبة، يتطوع بفدائية - ليست مطلوبة منه أو ملزما بها - لمعالجتنا بنفس الطريقة والأسلوب. هناك اليوم أناس كثر وجهات ومسميات كبيرة وكثيرة تمتهن الترويع والتجريع تجاه المجتمع والرعية وجماهير المواطنين بخصوص قضايا السياسة والأمن والاقتصاد والحياة المشتركة والمصير المشترك أيضاً. لا يزالون يشخصون العلل والمشاكل والحالات المستجدة والطارئة على المجتمع بنفس القدر والأسلوب الاستفزازي الأول، فهناك دائما «كارثة» محققة و«مصير أسود» ومجهول ينتظرنا على مسافة خطوتين أو يومين لا أبعد. وهناك دائما «أزمة» أو «شبح أزمة» يوشك أن يتلبس بنا - والتعبير الأخير ليس من عندي بل هو سياسي بامتياز وقرأناه مؤخراً لأمين حزب سياسي كبير وحاضر في الساحة. والبلاد في خبرتهم وسائر تشخيصاتهم مقبلة - على الدوام - على أزمات سود ومصائر سوداء ومصائب لا آخر لها، بل وهناك حروب وانقسامات ونزاعات وجوع وعطش وأرق وانعدام أمن وأمان وأمل. هكذا درج خطاب سياحي معروف وحاضر على الدوام، وهكذا غدت أو أمست النضالية الحزبية الطارئة خبيرة في شؤون التيئييس والتحبيط وتدمير النفسيات والمعنويات ولم يعد بعد حكاية «شبح الأزمة» واخواتها إلا أن يقال لنا صراحة أننا أمة من الموبوئين بالتلبس والمس، وبالتالي فهم يقترحون علينا العلاج المناسب. ولا يخرج العلاج عن إحدى اثنتين: إما الموت من الغلب و«الفجعة» والتشاؤم وكراهة الحاضر قبل المستقبل والغد، أو أن نتداوى بالطريقة الوحيدة وهي «الضرب» وقد يكون الأمر متنوعاً فيدفعوننا إلى التعارك والتضارب والتخاصم وإدماء وإنهاك بعضنا البعض ويكتفون هم بالفرجة والضحك، إما علينا أو على أنفسهم. هل كان المتوقع والمطلوب من الأحزاب والمجتمع الحزبي والسياسي أن ينتج لنا هذه الكائنات الكلامية الانهزامية المطبوعة على رؤية الشوك دون الندى، والغرق دون النجاة والكارثة دون الانفراج. وهل كسبت الحياة والبلاد كثيراً أو قليلاً من الامتيازات الحقيقية التي تمثلها المسميات والكيانات الحزبية والتنظيمية والسياسية، أكثر من وقوعها في مرمى منذر حرب وتبشر بكارثة ومؤذن بأزمة ما حقة وانكسار مؤلم. لماذا هذا الاصرار على تسويد كل شيء وسد كل منافذ الأمل وتجريعنا مرارات الإحباط والتيئييس وزراعة الوقيد في الأرض والجو والنفوس. وحتى لا نخدع أو نخذع، فإن التحديات المتراصة والمتراكمة أمام الدولة والشعب والحياة لا يجب أن تفقدنا روح التفاؤل والعزم على تجاوزها واجتياز مصاعبها لأن هذا هو شأن سائر المجتمعات والأمم سابقاً وحاضراً ولاحقاً بالتأكيد، فلا أحد معافى من تحديات لا أول لها ولا آخر. إن القول بالأزمة أو التحديات التي تتشكل بها ومنها شيء، والقول بالانهزام لها واستحالة التعامل العلاجي معها وتخطيها الى الغد شيء آخر ومختلف تماماً. ليس من الحكمة إشاعة أجواء اليأس وتدمير المشاعر والنفسيات بهذا القدر من الانهزامية والتجمد الحزبي عند مفردات الأزمات والكوارث والنكبات. وعوضاً عن ذلك، كان مطلوباً من المجتمع السياسي والحزبي أن يقولوا لنا كيف نتقدم ونسير ونحل مشاكلنا وليس فقط إحباطنا بأننا مرضى ويستحيل العلاج والشفاء. لن تتوقف الحياة أو تنهزم الجماهير .. والطريق دائما لم تكن مفروشة أمامنا نحن اليمنيين بالورود، بل خضناها عنوة وثقة وجهاداً وأملاً، فما الذي تغير اليوم حتى ننهزم وننخذل. في كل الأحوال فإن خيار العلاج بالأزمة واليأس أو «الضرب» غير مقبول للصرف في هذه البلاد، ويجب أن لا يكون هو الخيار الحزبي الوحيد الذي قتلوه حكاية وحياكة عليهم أن يتعلموا طب السياسة بأصولها أو أن يتعبدوا الله بأشياء أخرى أمثل وأنفع