تبدو جرائم الاحتلال الاسرائيلي في غزة منظورا اليها من خلال الصور التي تنشرها الفضائيات العربية والدولية كرأس جبل من الجليد, واذا كان رأس الجبل على هذا النحو الكارثي المعروض في وسائل الاعلام فمابالك بجوفه وسفوحه.واذا كان الظاهر من الاثار الوحشية لحرب اسرائيل على غزة يتصل بالدمار الكبير و حجم الشهداء المرتفع من الاطفال والنساء والشيوخ فان الخراب غير المنظور يكمن في الاثار النفسية للحرب على الجرحى الناجين و عموم الذين تعرضوا لهذا الاختبار الذي سمته وزيرة الخارجية الاسرائيلية تسيبي ليفني ب «البلطجة». وإذا كان من الممكن اصلاح الخراب المادي وتوفير الوسائل الضرورية لاعانة ذوي الشهداء فان احدا لم يتحدث عن كيفية اعمار الخراب النفسي الذي احدثته الحرب في نفوس الاطفال الذين لايملكون الطاقة الكافية لمقاومة ذلك الخراب. ولعل تجربة حروب لبنان بينت لذوي الاختصاص ان الاطفال الناجين من الحرب يستبطنون اثارها طيلة حياتهم ما لم تتوفرلهم المساعدة الضرورية لمواجهة الضرر الذي اصابهم. والثابت ان الاضرار التي تتسبب بها الحروب خصوصا في وسط الناس من غير البالغين تحمل على الاعتقاد ان علاج الضرر يمر بتحديد المسؤول عنه وبالتالي معاقبته بالتعويض او الانتقام وبما ان المحتل هو المسؤول عن الضرر وهو الذي تسبب به ويواصل غطرسته وتعاليه ووقاحته وبما انه جاثم على حدود غزة وفي اجوائها وبجوار الصيادين في البحر فان اطفال غزة اليوم وشبانها سيلجأون حتما الى الاقتصاص من عدوهم.وللتذكير فقط نشير الى ان اطفال الانتفاضة الفلسطينية الاولى والثانية تحولوا الى قنابل بشرية من بعد وهم مقاتلو هذه الايام في غزة .هم الذين زرعوا القطاع بالانفاق الدفاعية وارسلوا الصواريخ الى المستوطنات الصهيونية. تبقى وسيلة اخرى للتعويض عن الاضرار النفسية الحرب وذلك باعادة الارض المسلوبة لاصحابها والاعتراف بحقهم في العيش احرارا مكرمين على ارضهم وبما ان هذه الوسيلة لم تداعب ولا تداعب مخيلة الصهاينة فان اطفال الحرب اليوم هم من سينتزع هذا الحق بالقوة كما اخذ من اهلهم بالقوة واذا كان لا بد من مثال يؤكد هذه الحقيقة فيمكن العثور عليه في لبنان حيث ان الذين حرورا ارضهم كانوا اطفالا يتلقون بصدورهم الغارات الاسرائيلية في اواخر الستينات والسبعينات على مختلف الاراضي اللبنانية ولعل الفلسطينيين من اقرانهم يفوقونهم عزما وتضحية وتصميما كما شاهدنا وشاهد العالم في حرب الاسابيع الثلاثة الاخيرة ولعلهم سيجعلون ليفني او ابنائها واحفادها يندمون على نتائج "البلطجة" التي حلت بهم وهذا ليس ضربا من ضروب الاحلام واضغاثها انه قانون ثابت في تاريخ البشرية يعرفه الصهاينة قبل غيرهم لكن "خمر القوة" على حد تعبير وزير الخارجية المصري احمد ابو الغيط اعمى ابصارهم فصاروا لايرون ولا يفقهون. بيد ان الحديث عن الاضرار النفسية ينبغي الا يحجب المعضلة التي يواجهها اهالي غزة جراء الخلاف على صرف تعويضات اعادة اعمار المساكن والبنى التحتية. فاسرائيل لا تريد لهذه التعويضات ان تمر عبر المقاومين وفي ذلك منتهى الغطرسة والاهانة والانتقاص من كرامة الشعب الفلسطيني. انها تقتل الغزاويين و تتجرأ بكل وقاحة على وضع شروط حول من يجب ان يعوض الشهداء وكيف ومن يجب ان يعمر فلكأن الفلسطينيين عبيد لديها تقتلهم وتقرر طريقة دفنهم . ومن المؤسف القول ان بعض اصحاب القرار في عالمنا يقولون ما تقوله اسرائيل في هذا المجال اي وجوب صرف اموال المساعدات والمعونات عن طريق اطراف اخرى غير "حماس" وفصائل المقاومة ويصر البعض على وجوب مرور الاموال عبر السلطة الفلسطينية او عبر البنك الدولي او ما شابه ذلك وكأن المطلوب مساعدته هو الساسة وليس ضحايا العدوان في مواجهة الوقاحة والغطرسة الاسرائيلية لابد للمعنيين في السلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة ان يعثروا على حل لطريقة وصول المساعدات بما يرضي المتضررين حصرا وبما يبعد اسرائيل عن هذه القضية الفلسطينية الخالصة. نعم يجب ان تصل المساعدات الى غزة في اقرب وقت لكن ليس بطريقة ترضي اسرائيل وذلك حرصا على كرامة الشهداء والجرحى وحفاظا على كرامة الناجين من هذه المجزرة وحتى لا يكافأ الصهيوني المجرم على جريمته عبر الاستجابة لطلبه بعزل المقاومين عن رعاية ذويهم. نعم يجب ان تصل المساعدات الى غزة اليوم قبل الغد وان يثبت الفلسطينيون في السلطة والمقاومة ان ارادتهم اقوى من ارادة عدوهم وانهم لن يسمحوا لهذا العدو باهانة شهدائهم عبر القبول بشروطه حول كيفية مساعدة الناجين والجرحى. ولعل ما يصح في قضية المساعدات يصح ايضا في قضية الطبابة وهنا يجدر بالقادة الفلسطينيين رفض العرض الاسرائيلي بمعالجة الجرحى واغاثة المتضررين فالمجرم يجب ان يدفع ثمن جريمته وان يقدم للمحاكمة والا يعطى فرصة للعب دور الطبيب والممرض بعد ان مارس دور جزار المدنيين من الاطفال والنساء على ارض المعركة. في حرب غزة برهن الفلسطيني انه قادر على مجابهة عدوه من موقع الند للند فصمد في ارضه صمودا اسطوريا لا يليق به خلاف حول من يتولى الاعمار وخلاف حول من يتصدر واجهة ما بعد الصمود. في هذه اللحظات يتطلع الجميع ان يتخذ القادة الفلسطينيون قرارات ترتفع الى مستوى صمود شعبهم البطولي في غزة واولها تشكيل حكومة وحدة وطنية على جناح السرعة تتولى اعادة الاعمار وبلسمة الجراح وتوفير مقومات الصمود الضرورية للمرحلة المقبلة خصوصا ان اسرائيل تتوعدهم بحرب جديدة ان رفضوا الخضوع والتخلي عن مقاومتهم. ومن كان عدوه من طينة هؤلاء القتلة لايجدر به الاستسلام للتنقاضات الداخلية والغوص في جدل عقيم حول مشاريع حلول سلمية افتراضية اخترعها العدو كي نصدقها ونحترب حولها. في هذه اللحظات يتطلع الفلسطينيون الى الوحدة بين قياداتهم ليس فقط من اجل ايصال المساعدات على اهميتها ولكن اولا واخيرا من اجل الارتفاع الى مستوى بطولة اطفال غزة الذين واجهوا اسلحة الدمار الاسرائيلي بصدورهم العارية.