عندما شنت طائرات بدائية الصنع تابعة لنمور التاميل الانفصاليين الذين يطالبون بدولة "إيلام" مستقلة عن سري لانكا أو "الجزيرة المباركة" غارات على كولومبو، قال العديد من المراقبين إن دحر الحركة أو القضاء عليها بات مستحيلاً. وقلت في حينها إن الوضع في جزيرة الشاي التي كانت مستعمرة بريطانية وقبل ذلك هولندية أصبح أكثر تعقيداً خصوصاً وأن إمكانيات الحكومة العسكرية كانت محدودة وديونها تتراكم. وسماها العرب الأوائل جزيرة سرنديب الخيالية. لكن الذي حدث في الواقع أن التاميل في تماديهم وطغيانهم ربما حفروا لأنفسهم خنادق لن يتمكنوا من الخروج منها إلا كهياكل عظمية ولو بعد حين. وكأن حكومة كولومبو قد استيقظت من سباتها الطويل الذي دام ربع قرن وتنبهت إلى الخطر الداهم الذي يشكله النمور حتى أصبح يهدد مطاراتها وأسواقها الرئيسية ليس فقط بالهجمات الانتحارية التي كانوا من أوائل مخترعيها بل بطائرات صنعوها في مجال شمال الجزيرة المتاخمة للهند. ولأنها كذلك فإن باستطاعتهم استغلال الجوار مع أربعين مليون تاميلي في جنوب الهند واستيراد المال والسلاح وقطع الغيار بالإضافة إلى العمال المهرة القادرين على تركيب طائرات صغيرة قادرة على الإقلاع من شمال الجزيرة إلى أجواء مطار كولومبو لتدمير سلاح طيرانها على غفلة لأن لا أحداً كان يتوقعها وأيضاً تهديد الطيران المدني برمته حتى أن بعض خطوط الطيران العالمية فضلت الامتناع عن مواصلة خدماتها إلى واحدة من أجمل بقاع الأرض وأروع المقاصد السياحية في العالم كما كانت قبل استفحال الحرب الأهلية. ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. استطاعت حكومة كولومبو أن تستعين بعدة دول صديقة مجاورة –مثل باكستان– وبعيدة مثل إسرائيل والولايات المتحدة، لإعادة بناء قواتها المسلحة وتغيير الإستراتيجية العسكرية بالكامل باللجوء إلى الهجوم المتواصل بأحدث الأسلحة المناسبة لحروب الغابات ومكافحة العصابات وتدمير الألغام بالجملة كتلك التي لجأت إليها القوات الأمريكية خلال حرب تحرير الكويت من الاحتلال العراقي. فالسلاح المضاد يلف ويدور في كل أنحاء المنطقة الموبوءة بها ويفجر كافة الألغام كما شاهدناها على الأفلام حتى قبل بداية الحرب وكانت أمريكا تود إبلاغ رسالة إلى العراق بأن مئات الألوف من الألغام التي زرعتها بين الكويت والسعودية لن تفيدها قيد أنمله لأنها ستفجر بالكامل قبل دخول أول جندي أمريكي أو عربي من القوات المشتركة. ولما أمنت كولومبو من الألغام بدأت تستخدم طائرات ومدفعية جديدة للقضاء على كافة المواقع التي كانت تكمن لقواتها في الطريق الممتدة إلى إيلام – وهو الاسم الذي كانت تطلقه على الوطن المزمع إنشاؤه للنمور. وبدأت بالزحف أولاً خطوة خطوة ثم ضاعفت السرعة حتى وصلت إلى أطراف "الجمهورية" المنشودة. وبسرعة مدهشة وصلت إلى مشارف الجمهورية القريبة جداً من الهند التي لا يفصلها عن سري لانكا سوى خليج ضيق تقول الأساطير الهندية أن أحد الآلهة بنا فيه جسراً وترك آثاره هناك حتى الآن. وانهارت دفاعات إيلام بين ليلة وضحاها بعد سقوط ألوف الضحايا من النمور والأهالي الذين كانوا يقفون أمام القوات مثل الدروع البشرية واحتلت القوات النظامية مخابئ تحت الأرض كان القائد العام "براباكاران" يقيم فيه ليلاً ونهاراً ويدير منه كافة أنشطة الحكومة التي ضمت جيشاً وشرطة ومحاكم ومدارس وكليات وكل ما يشبه المؤسسات الحكومية المعتادة. وقد نشرت الحكومة صوراً عجيبة لحكومة أو حكومات ما تحت الأرض أثارت إعجاب الشعب السري لانكي أكبر مصدر شاي وأحجار السفير في العالم حالياً. صحيح أن الهند تنتج أكثر منها شاياً لكنها تستهلك معظم إنتاجها نظراً لعدد سكانها. وبالمناسبة فإن التاميل هم سلالة العمال الهنود – من فصيلة التاميل الهندوس – الذين نقلهم الإنكليز إلى سري لانكا قبل مائتي عام لزراعة الشاي في الجزيرة بأجور زهيدة وفضلوهم على السكان الأصليين من فصيلة السنهاليين البوذيين مما أثار أحقاد الغالبية كما حدث في العديد من المستعمرات البريطانية والأوروبية السابقة. ولما زرتها في الأعوام السابقة للحرب وتجولت في جبال كاندي البديعة على بعد بضع ساعات عن كولومبو ثم طفت شواطئها القريبة لأن العاصمة تقع على البحر، توصلت إلى ما يشبه القناعة إلى أنها من أجمل بقاع الدنيا لأنها جمعت كل ما من شأنه أن يحولها إلى مصايف لا مثيل لها. البحار والجبال والأنهار والغابات والفواكه وأهمها الأناناس والبهارات والأجواء الصافية والفنادق المتهاودة الأسعار المشرفة على البحر في كولومبو وعلى النهر في كاندي وهي إحدى مصادر أحجار السفير الخالدة حتى بلغ معدل دخل الفرد 1600 دولار سنوياً أو ضعف المعدل اليمني. وقلت في أكثر من مقال نشرته في جريدة "الشرق الأوسط" بعنوان "عالم بلا حدود" أن سري لانكا ستكون واحدة من أعظم المقاصد السياحية في العالم. كان ذلك عام 1976 قبل اشتعال الحرب الأهلية عند تشكيل جبهة التحرير باسم "إيلام". ومن ثم اندلعت النار في الشمال حتى وصلت إلى العاصمة نفسها وتفاداها السياح حتى خمدت حركتهم كما يحدث عندنا بعد كل اختطاف أو تدمير أنابيب النفط. وكان الشعب هو كالعادة الخاسر الأكبر. ولما زرتها مرة أخرى في عهد الرئيس جايوردين تركت مكتبه بحالة اكتئاب أشبه بحالته ذاته كما رأيته خلال اللقاء إذ كان يعاني من اليأس الشديد جراء الوضع العسكري والاقتصادي والقوات المسلحة مشرفة على التفكك. وخلال الأعوام التالية تفاقم الوضع ووصلت حوادث الهجمات الانتحارية إلى البنك المركزي واغتيال رئيس الجمهورية برمدا سا عام 1993 وتدمير نصف طائرات الخطوط الجوية في المطار عام 2001 واستمرار هزائم الحكومة حتى بلغ السيل الزبى قبل حدوث المعجزة الحالية. قد يكون من السابق لأوانه وضع خاتمة أبدية لنمور التاميل وحرب سري لانكا لأن احتمالات بعثهم من جديد لا تزال قائمة بقرب أربعين مليون تاميلي في الأراضي الهندية المتاخمة وإن كان من غير المحتمل عودة الثورة الانفصالية إلى سابق عهدها. والأوضاع المشابهة لها في بلدان أخرى مثل الفلبين تنذر بإمكانيات استمرار عمليات نزيف متفرقة هنا وهناك بتدفق المال من المغتربين في أوروبا وتهريب السلاح الخفيف من جنوب الهند حيث يتعاطف الناس مع الثوار رغم استنكارهم للوحشية التي اتسمت بها قيادتهم تحت إمرة براباكاران الذي اختفى من الساحة وربما قضى نحبه.