في الثمانينات من القرن الماضي التقيت جمعاً من الأخوة الحضارم المغتربين في المملكة العربية السعودية عقدوا العزم على مساعدة الطلبة من أبناء الجالية على الالتحاق بالجامعات في الخارج لدراسة العلوم والرياضيات بتكاليف متوسطة شريطة أن تكون الجامعات من الدرجة الجيدة. اقترح عليَّ أحد الحاضرين أن أبذل جهدي لتأمين مجموعة من المقاعد الجامعية في الهند إذا أمكن نظراً لصعوبة الالتحاق آنذاك وارتفاع تكاليف الدراسة والسكن الجامعي التي لا تزال في ازدياد. ولما كنت على علاقة طيبة ببعض الأساتذة الهنود وأيضاً بالسيدة نجمة هبة الله التي كانت في ذلك الحين نائب رئيس مجلس الشيوخ في دلهي ومن أبرز زعماء حزب الكونجرس مما قربها إلى رئيس الوزراء الراحل راجيف غاندي الذي اغتاله نمور التاميل بعد لقائي به عام 1991، توجهت إليها في مقر عملها ومنزلها في العاصمة حيث يقع الحي الدبلوماسي ومنازل أعضاء البرلمان للاستفادة من آرائها ومساعدتها في الوصول إلى بعض رؤساء الجامعات لأن الالتحاق أصلاً كان أصعب من تدبير الرسوم حتى ولو كان الأخوة الحضارم على استعداد لتقديم المال اللازم بصفة هبات واشتراكات سنوية. وشاء حسن حظي والطلبة الحضارم الذين تجاوز عددهم الثلاثين لم يتمكنوا من تأمين مقاعد في الجامعات العربية آنذاك، أن أحمل توصية من السيدة نجمة – وهي نفسها كانت تحمل الدكتوراه في العلوم – إلى زميل لها كان يدير جامعة أليجار الإسلامية الهندية الراقية الواقعة على بعد بضع ساعات بالسيارة أو بالقطار من دلهي. وهناك ولأول مرة دخلت الجامعة زائراً وساعياً للعون في تأمين ثلاثين مقعداً لطلبة حضارم في كليات لا تدرس إلا بالإنكليزية وهم في الغالب لا يعرفون منها إلا النزر اليسير. لكنهم ثابروا بتنفيذ مقترحات مدير شئون الطلبة الأجانب بضرورة دراسة اللغة الإنكليزية لمدة سنة بدون توقف حتى للإجازة الأسبوعية. المهم في الأمر أنهم قُبلوا في السكن الجامعي ثم التحقوا بعد سنة بالكليات المطلوبة، ومنهم من أكمل تعليمه ومنهم من تخلف وعاد إلا أن معدل النجاح كان مرضياً إلى حد ما. لكن المهم في الأمر هو أن جامعة أليجار كانت غرسة لمشروع تعليمي جبار قام به زعيم هندي مسلم اسمه أحمد سيد خان الذي ظل ينادي إخوانه بضرورة التعليم الحديث وبالإنكليزية بعد أن كان معظم المسلمين في الهند أيام الإمبراطورية البريطانية ينادون بتحريم التعليم لأسباب واهية تاركين المجال واسعاً للهندوس ليملأوا كل المقاعد المتاحة ثم الجامعية حتى لم يعد هناك من الشباب المسلم من يستطيع ضمان الحصول على مقعد في كلية طب أو هندسة أو حقوق. وبذلك تخلف المسلمون قبل وبعد قيام أول ثورة استقلالية عام 1857 ضد الاحتلال البريطاني إبان حكم آخر ملوك المغول بهادر شاه وكادوا أن يدحروا القوات البريطانية وأعوانها من الهندوس والسيخ لولا المدفعية الحديثة التي سحقت الانتفاضة بكثير من الوحشية دمروا خلالها العديد من المدن الهامة ومنها دلهي ولكناو ونفوا بهادر شاه إلى ما كانت تسمى برما أو مينمار حالياً. عندئذ أدرك سيد أحمد خان، الذي ينتهي نسبه إلى سيدنا علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه وكان قد درس اللغات العربية والفارسية والإنكليزية والتحق بالخدمة الحكومية وتخرج بالحقوق، خطر التخلف التعليمي بعدما فشلت الثورة الإسلامية وانتهى بها الأمر إلى سقوط الحكم الإسلامي بعد أربعمائة سنة من الملكية المغولية. "وتكشفت الأمور على حقيقتها أمامه فالمسلمون ضعاف متفرقون يحتاجون إلى نهضة وإصلاح قبل مواجهة قوات الاحتلال وأحوالهم المتردية وتخلفهم في ميادين الحياة لا يصنع نصراً ولا يحقق أملاً". فأخذ على عاتقه النهوض بالمسلمين عبر التعليم الذي كان يشير إليه بالتثقيف والتهذيب ولو بالاستعانة بالسلطة الاستعمارية وعدم التعجيل بالاصطدام بها. ونشر عدة كتب وجمع القليل من التبرعات بل أنه حمل على عاتقه المسئولية الكبرى في طلب المعونات شخصياً وظل لفترة طويلة يقف أمام الموقع الذي تحول إلى جامعة، حيث تجولت يوماً ما، ويتسول إن صح التعبير هبات المحسنين ليبدأ بناء أربعة جدران بدائية كنواة للمعهد الذي كان يحلم به طيلة عمره في وقت كان كبار المسلمين يعارضون برامجه التعليمية والاستعانة بالحكام الأجانب والمناهج الحديثة مثل الحساب والفيزياء والكيمياء التي جعلت من بريطانيا نفسها دولة عظمى سيطرت على الهند ذاتها بالعلوم والتقنية وهي لا تساوي واحدة من ولاياتها حجماً وسكاناً. وما أن أنهيت حديثي وطلبي ورجائي لثلاثين مقعداً للطلبة قبل أن يتموا الثانوية بالإنكليزية حتى قمت بجولة مطولة في سكن الطلاب وصفوفهم لأضمن لهم سرراً ومقاعد بأقل التكاليف الممكنة. وزرت بعض الحجرات التي كانت تضم أربعة طلبة كل واحد منهم مضطر إلى طبخ وجباته لوحده أو لزميل أو زميلين له. وزرت حجرات يسكنها طلبة فقراء ينامون ويصحون على نكهات وجبات الأرز والكاري ولا يجدون حتى فواكه تكفيهم لسد حاجاتهم لذلك كان معظمهم يعاني من سوء التغذية وضعف البنية إلى أقصى الحدود. ومع ذلك كانوا يدرسون والكتاب بأيديهم وبعضهم يردد معلومات علمية وهم يقلبون البيض أو يقدمون الطعام للضعاف منهم الذين لا يكادون يتحركون إلا بصعوبة جمة. ومن طبقة اجتماعية إلى أخرى أعلى تجولت في أرجاء جامعة أليجار التي شيدها سيد أحمد الذي منحته بريطانيا بعد فترة طويلة لقب فارس أو سير اعترافاً منها بفضله وجهاده وإصراره على نشر التعليم في أوساط المسلمين الذين كانوا يعارضون كل علم جديد في ذلك الزمن مما جعلهم يتخلفون مائة سنة عن بقية الناس من الهندوس والسيخ والفرس. وبعد جهد جهيد بل جهاد مرير استطاع أن يقنع الأثرياء من المسلمين ومن هم أقل قدرة مادية على التبرع للمشروع الجديد الذي يضم حالياً أكثر من ثلاثين ألف طالب وطالبة وتخرج منها بعض جهابذة الزعماء المسلمين وعدد لا يستهان به من الطلاب العرب ومنهم كوكبة من عدن كان يرأسها والدي محمد علي لقمان رحمه الله رحمة الأبرار رغم الإمكانات المحدودة التي كانت تحت تصرفه في الثلث الأول من القرن الماضي.