تقفز بعض المصطلحات الى اللغة السياسية اليومية في حالات التوتر وعلى هامش الاحداث التي تتخللها اعمال شغب وعنف، وهي قفزت مؤخرا الى اللغة السياسية اليمنية في سياق التحذير من اللعب بنار التشطير ونشر ثقافة التشرذم والفئوية والمذهبية. وقد تم تداول مصطلحات اللبننة والعرقنة والافغنة والصوملة في هذا المعرض، و ربما تبدو هذه المصطلحات مجردة للوهلة الاولى من محمولها الخطير لذا اعتقد انها تحتاج الى تظهير حتى يصبح التأمل فيها مفيدا ورادعا ونبدأ بالصوملة. الصوملة وهي من الصومال في حالته الاحترابية الممتدة منذ العام 1991 تاريخ سقوط نظام الرئيس محمد سياد بري الذي نعت حينذاك بالديكتاتورية من اليمين واليسار معا ونسب اليه التمسك بالدولة المركزية وتدخلت قوى خارجية في تأليب فئات صومالية على الحكم ورفعت بوجهه مطالب ديموقراطية وليبرالية ليعتمدها في بلد كان يقف على حافة الافلاس. ومع تعرض الصومال لضغوط اقليمية من كل حدب وصوب بعد حرب اوغادين انهار النظام وانهارت معه البلاد وها هو الصومال يصارع منذ عقدين سكرات الموت على مرأى من العالم باسره ويتعرض اهله للمجاعة تارة وللهجرة تارة اخرى وللقتل اليومي على مدار الساعة. وما ان ينهض مشروع حكم فيه حتى يسقط ليليه مشروع اخر وبين المشروعين تندلع حروب و تهرق دماء ويتسع الدمار ويعقب الخراب الخراب بل يفيض الى الجوار والى طرق النقل البحرية الدولية حيث ظاهرة القرصنة ما برحت تتسع وينضم الى القراصنة صيادون عاطلون عن العمل بعد ان نهبت الشركات الدولية مخزون السمك الصومالي دون حسيب او رقيب. تلك هي حال الصومال اليوم فضاء بلا دولة مركزية ودويلات متنازعة واطراف خارجية مازالت تصر على اللعب بمأساة الصوماليين حتى صارت الصوملة ظاهرة مرضية يتوجب الوقاية منها والابتعاد عن الطرق التي تؤدي اليها. الأفغنة وهي من افغانستان البلد الذي دفع ثمنا باهظا لصراع الاقطاب في الحرب الباردة وهو الوحيد بين دول العالم الذي تعرض للاحتلال السوفياتي تارة والامريكي تارة أخرى واذ تسبب بانهيار الاتحاد السوفياتي فهو اليوم يضع الولاياتالمتحدةالامريكية والحلف الاطلسي في دوامة ما بعدها دوامة، ولعل الانقسامات الافغانية بين اثنيات متنازعة تسببت وتتسبب في تشطير هذا البلاد الى جهات ودويلات تبحث كل منها عن الدعم والتاييد الخارجي، فاذا كانت اثنيات الطاجيك والاوزبك متحالفة مع المحتل وتسيطر على الدولة في كابول فان اثنية الباشتون تحضن القاعدة والطالبان وتلقى تاييداً من قادة الباشتون الباكستانيين النافذين في اجهزة الاستخبارات والجيش الباكستاني فيما اثنية الهزارة الشيعية تتحالف مع ايران وكل من هذه الاثنيات تبحث عن مصالحها بمواجهة بعضها البعض وتستسلم لمشيئة اللاعبين الخارجيين في الشؤون الافغانية وتنمو في البلاد ظاهرة التطرف وتتفشى الامية ويتسع حجم الدمار والخراب وتنتشر زراعة الافيون ومن حولها تتشكل المافيات ومن غير المتوقع ان ينتهي حال التشرذم في هذا البلد في امد قصير ولو رحل المحتل ذلك ان النصر على المحتل السوفياتي لم يكن كافيا لتوحيد الافغان وصهرهم في مشروع وحدوي ترعاه دولة مركزية تبقى الاشارة الى ان ظاهرةالافغنة كما ظاهرة الصوملة تفيض عن حدود افغانستان لتصل الى اقاصي العالم ومنه عالمنا العربي الذي انتشرت فيه ظاهرة الافغان العرب ولا يبدو انها مرشحة للانحسار في القريب العاجل. اللبننة. وهي من لبنان وقد شاع استخدام هذا المصطلح في الغرب اكثر منه في العالم العربي بوصفه دليلا على المصيبة التي يمكن ان تحل ببلد ما عندما تسوده الولاءات الفئوية والطائفية. وعلى الرغم من الحاجة الماسة لاحصاءات دقيقة فان التقديرات المتدوالة تفيد بان ضحايا الحروب الاهلية والطائفية في لبنان وصل الى مئتي الف قتيل ومفقود فضلا عن عشرات الالاف من الجرحى والمعوقين فيما الدين العام يكاد يصل الى خمسين مليار دولار في بلد لا يتعدى عدد سكانه الخمسة ملايين نسمة ولا تزيد مساحته عن 10452 كلم مربع. واذا كان اللبنانيون قد عرفوا منذ استقلالهم فترة هدوء قصيرة امتدت من العام 1946 حتى العام 1958 تاريخ الحرب الاهلية الاولى بعد الاستقلال فان الفترة اللاحقة حتى العام 1967 تخللتها ازمات حكم طاحنة بسبب النزاعات الطائفية المنعقدة على تحالفات خارجية لتندلع الحروب الاهلية الطويلة منذ العام 1968 وحتى العام 1991 عندما كلف العرب والقوى الدولية سوريا باعادة بناء الجيش والقوى الامنية اللبنانية واجهزة الدولة اللبنانية. ولا حاجة للحديث عن التفاصيل اللاحقة للخروج السوري من لبنان اثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري فهي معروفة ومعروضة على الرأي العام العربي على مدار الساعة بواسطة الفضائيات اللبنانية المختلفة. واذا كان البعض يربط التشرذم والحروب الاهلية اللبنانية بانقسام المجتمع اللبناني الى 19 طائفة دينية واثنية لكل منها حقوق دستورية مستقلة فان البعض الاخر يرى في التعدد الطائفى غنى لهذا البلد والكلام صحيح في الحالتين فالغنى يمكن ان يصدر في حالة السلم والتفاهم ولكن المصيبة تسود في حالة التشرذم والاختلاف الحاد كما مر معنا منذ قليل وللذين يريدون البحث اكثر في عمق التشرذم اللبناني ربما عليهم العودة الى القرن التاسع عشر حيث كانت القوى الدولية الكبرى في حينه بريطانيا وفرنسا والنمسا وروسيا فضلا عن تركيا كل منها تعين نفسها حامية لطائفة من الطوائف المتصارعة وقد وصلنا اليوم الى عدد اكبر من الدول الحامية والمتدخلة في الشأن اللبناني حتى صارت اللبننة كأسا مرة يتوجب الحذر من تجرعها. العرقنة. وهي من العراق وقد دخلت حيز التداول بعد الاحتلال الامريكي لبلاد الرافدين وهي تفصح كيف ان بلدا عريقا وفخورا وموحدا يمكن ان تفككه قوة محتلة الى شراذم وطوائف واثنيات وان تشرع هذا التفكك وتحميه بمواد دستورية وبمناصب حكومية وادارية وان تحيله الى فضاء مفتوح لكل من هب ودب من القوى والحركات والدول الباحثة عن دور. ذلك كله على وقع المقاتل اليومية التي حصدت حتى الان مئات الالاف من الضحايا وملايين المهجرين والمشردين فضلا عن الخراب الاقتصادي والعمراني الذي يحتاج الى عشرات السنوات لاعادة البناء والانطلاق من جديد. هذه الظواهر الحزينة التي تدمي القلوب نعرفها جميعا لكننا ننسى في لحظات الشدة والضعف دروسها المفيدة. وما دمنا نتحدث عن انتشار مصطلحات الصوملة واللبننة والعرقنة والافغنة في اللغة اليومية للتحذير من مخاطر الخطب التشطيرية والانفصالية والمذهبية في اليمن وفي غيره من الدول العربية فان الحديث لايكتمل الا بالتزامنا المطلق جميعنا دولا ومؤسسات مدنية ورسمية ومجتمعات باعتبار التشطير والتشرذم والفئوية كالامراض السارية التي تحتاج الى وقاية وتطعيم دوري ولعلّ الطعم الشافي هو الوحدة ولا شيء غير الوحدة اما المطالب على اختلافها فهي مقدسة مع الوحدة وباطلة مع التشطير والتفكك والحقد والكراهية.