لا ندري متى يعي بعض الحزبيين الذين احترفوا بيع الكلام وترديد الشعارات الجوفاء، أن هذا الشعب قد مَلَّ الشعارات والصراخ والزعيق، ونعيق الغربان والسوفسطائية العقيمة، والتهريج الإعلامي الذي لا ينتج عنه سوى فرقعات فارغة لاتسمن ولا تغني من جوع. ومتى يمكن أن يعي هؤلاء أن الانغماس في بيع الكلام والتنظير وترديد الشعارات أسلوب عانى منه أبناء الشعب اليمني كثيرا في المحافظات الجنوبية والشرقية إبان الحكم الشمولي الذي ظل يجرع الناس ذلك الصداع الدائم من الشعارات على غرار "تخفيض الراتب واجب" و"تحريق الشيذر واجب" فيما تناسى واجبه في ميادين التنمية والبناء والإعمار وإصلاح الاقتصاد، وبناء الإنسان وإنجاز المشاريع الخدمية من طرق ومستشفيات ومدارس وجامعات ومعاهد ومرافق رياضية وشبابية ليورثهم بدلاً من كل ذلك ويلات التسلط ودورات من الصراعات السياسية والمناطقية والقبلية، التي أفضت إلى كوارث ومحن ومجازر جماعية أودت بحياة الآلاف من أبناء هذا الشعب من مختلف شرائحه ليضطر الأغلبية من أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية إلى التشرد خارج وطنهم أو الانزواء والانكفاء في الداخل والانتظار لأمر كان مفعولاً، ليأتي الفرج في ال22 من مايو العظيم بإعلان الجمهورية اليمنية الذي شكل الثورة الثالثة في التاريخ اليمني المعاصر. ومتى تدرك تلك المؤثرات الصوتية من بائعي الكلام أن الشعب اليمني لم يعد يريد كلاماً أو شعارات بل عملاً وإنجازاً ووعوداً صادقة؟ ومتى يفهم هؤلاء أن بيع الكلام صار بضاعة كاسدة لا سوق لها ولا رواج، وأن شعبنا العظيم أصبح لديه من الوعي والحصافة ما يجعله يميز بين من يجيدون الكلام ومن يجيدون العمل، وأن هذا الشعب الذي صنع تلك الملحمة الوطنية الراقية وهو يلتف حول قيادته من أجل تحقيق الوحدة والدفاع عنها وبالأمس القريب على إنجاح فعاليات خليجي 20 وبصورة أذهلت وأدهشت الأشقاء والأصدقاء على حد سواء يتطلع بعد هذه الانتصارات والنجاحات الكبيرة إلى نجاحات وانتصارات أكبر وأن ما يهمه اليوم هو إكساب كل خطواته القادمة تلك الدلالات من الرقي والتعاضد والتكاتف والوحدة الوطنية. وبالتالي فإن هذا الشعب لن يقبل بأي حال من الأحوال أن ينازعه أحد على حق من حقوقه السياسية والديمقراطية والدستورية، ولن يسمح لحزب أو جماعة بالتلاعب باستحقاقه الانتخابي القادم، خاصة بعد أن تأكدت له النوايا البائسة والخاسرة لهؤلاء الذين ظلوا يرفعون يافطة الحوار بغية الالتفاف على هذا الاستحقاق، وجر البلاد إلى فراغ دستوري ومع ما يرتبط به من مخاطر كبيرة، والحق أن هؤلاء الذين لجأوا مؤخراً إلى الزعيق والنعيق وإصدار البيانات وعقد المؤتمرات الصحفية يعيشون ديماغوجية سياسية تبني توجهاتها على رهانات بائسة أساسها التخريب ونشر الفوضى والعنف والمشاريع الصراعية. وقد تعززت قناعة الجميع بهذه الحقيقة وهم يجدون بعض تلك القوى السياسية والحزبية تتناقض كل يوم فيما تطالب به وفيما تطرحه، وأكبر الشواهد على ذلك أنهم وعلى الرغم من كونهم الذين اقترحوا معظم مواد مشروع تعديل قانون الانتخابات والاستفتاء والذي تم فيه استيعاب ملاحظات بعثة الاتحاد الاوروبي، إلا أنهم وبمجرد طرح هذا المشروع للتصويت النهائي داخل مجلس النواب انقلبوا عليه رأساً على عقب في استخفاف مريب بمشاعر هذا الشعب الذي لولاه لما كانوا. والشاهد الثاني نجده أيضاً في موقفهم من تشكيل اللجنة العليا للانتخابات والاستفتاء من القضاة، مع أن ذلك كان طلبهم، وقد تم تضمين هذا الطلب في اتفاق المبادئ الموقع بين أحزاب اللقاء المشترك والمؤتمر الشعبي العام قبيل الانتخابات الرئاسية والمحلية عام 2006م، والذي قضى بتشكيل لجنة مستقلة من القضاة ممن تتوفر فيهم النزاهة والكفاءة، على ألا تقل درجة عضو اللجنة عن عضو في محكمة الاستئناف، ومع ذلك هاهم يشككون في نزاهة هذه اللجنة حتى قبل تشكيلها. فهل هناك ما هو أفظع وأبشع من هذه الديماغوجية السياسية التي تسيطر على هؤلاء الذين جعلوا من الحوار شماعة كحائط المبكى ليذرفوا عليه دموع التماسيح فيما هم يضمرون الشر لهذا الوطن، ويترصدون له بكل ما أوتوا من الحيل، وما يحملونه في نفوسهم من زيف وخداع. فلو كانوا يريدون حواراً جاداً وناضجاً لمضوا في طريق الحوار، ولما عملوا على زرع الأشواك في طريقه، وإعاقته وتعطيله لمدة عامين كاملين بشروطهم التعجيزية، التي لا يقبلها عاقل أو يحمل الحدَّ الأدنى من الرشد السياسي. ليظهروا من خلال ذلك أن ما يسعون إليه هو الارتداد عن الديمقراطية والانقلاب على استحقاقات الشعب الدستورية والقانونية، وذلك هيهات هيهات أن يحدث فالشعب اليمني العظيم لن يفرط أبداً في حق من حقوقه الانتخابية، وسيتصدى بكل حسم لكل من يحاول الانقلاب على إرادته. والمؤسف حقاً أن يصل الجهل بهؤلاء درجة جعلتهم غير قادرين على استيعاب وظيفة الأحزاب السياسية التي يقودونها الأمر الذي جعل هذه الأحزاب تترك وظيفتها الحقيقية، لتتفرغ لإصدار البيانات وعقد المؤتمرات الصحفية وتنظيم الاعتصامات التضامنية مع المخربين وقطاع الطرق والخارجين على القانون وبيع الكلام وترديد الشعارات الجوفاء، التي لم تعد جماهير الشعب تلقي لها بالاً. وسواء فهم هؤلاء أو لم يفهموا فإن الأحزاب السياسية هي مؤسسات وطنية تتحدد أهميتها بمقدرتها على تحديث نفسها من الداخل، وبمدى قدرتها على خدمة الناس والتعبير عن تطلعاتهم، واستيعابها لدورها في عملية البناء والنهوض بالوطن، وإنجاز أهدافه في التطور والنمو وصون مكاسبه وثوابته وأمنه واستقراره والتضحية من أجله. وفي هذا المعنى المتحضر يبرز البون الشاسع بين من يبيعون الكلام ويرددون شعاراتهم ومزايداتهم كالاسطوانات المشروخة وبين من يجيدون العمل ويؤثرون الوطن على أنفسهم في كل وقت وحين وهذا ما يدركه الشعب الذي يميز بوعيه بين الغث والسمين. *افتتاحية الثورة