اين فشل معمّر القذافي؟ كان الرجل قادراً على أن يفعل الكثير من أجل ليبيا. كل ما فعله ان غيّر اسمها وفرض البؤس والفقر على شعبها. بعد اثنين واربعين عاماً اكتشف القذافي، او على الاصح يرفض اكتشاف، ان الليبيين ما زالوا متعلقين بليبيا وليس ب"الجماهيرية". ربما تكمن مشكلة العقيد في انه في كل مرة يتحدث في موضوع ما، يتبين ان هناك شخصين في شخص واحد. هناك القذافي الذي يعرف تماما الواقع ويسعى الى التعاطي معه. وهناك قذّافي آخر يرفض الواقع ويصرّ على العيش في عالم خاص به لا علاقة له من قريب او بعيد بالحقيقة المرة التي يرفض شرب كاسها. ببساطة،لم يستطع معمّر القذافي تغيير ليبيا وطبيعة الشعب على الرغم انه بقي حاكما مطلق الصلاحية طوال اقلّ بقليل من نصف قرن. على سبيل المثال وليس الحصر يقول الزعيم الليبي في خطاب قبل ايام ان هناك اطماعا للغرب عموما في النفط الليبي وان هناك من يحاول استعمار ليبيا مجددا. هذا صحيح الى حدّ كبير. لكنه يقول ايضا في الخطاب نفسه ان احدا لم يتظاهر ضده في ليبيا وان الناس لا تزال "تحلف براسه". هذا ليس صحيحا في اي شكل بمقدار انه تعام عن الحقيقة ورفض لها ورهان على امكان قلب الوضع لمصلحته بعدما تبين انه لا يزال يمتلك آلة عسكرية قادرة على الدفاع عن طرابلس والسيطرة عليها عسكريا ومنع الخروج منها. اذا كان لا بدّ من استخلاص الدروس من التجارب التي مرّ فيها النظام الليبي منذ وصول القذّافي الى السلطة في العتم 1969، فان الدرس الاول الذي يمكن استخلاصه هو ان الزعيم الليبي لم يستطع فهم العالم او المجتمع الدولي، كان يفهم احيانا ويبدو كمن تعلّم الدرس. ولكن فجأة، كان يعود الى طبيعته الاولى، طبيعة المستبد الذي يظن ان عليه نشر البؤس والفقر في كل انحاء ليبيا كي يضمن بقاءه في السلطة. بكلام اوضح، رفض القذّافي فهم انه خضع لعملية اعادة تاهيل، وانه كان في استمرار تحت المراقبة. لم يدرك الزعيم الليبي انه كان عليه مباشرة اصلاحات في العمق والتخلي عن نظام اسمه "الجماهيرية" جلب على الشعب الليبي الويلات وجعله على استعداد لاغتنام اي فرصة للانقضاض على "الجماهيرية" بكل ما تمثله من تخلف. في مطلع التسعينات من القرن الماضي، وبعد فرض عقوبات دولية على ليبيا بسبب قضية لوكربي، طرح مفكرون وسياسيون مصريون فكرة اقامة وحدة بين مصر وليبيا تؤدي الى قيام كيان سياسي جديد لا تنسحب عليه العقوبات الدولية وذلك من منطلق ان ليبيا-القذافي ذابت في هذا الكيان. لم تكن الفكرة واقعية أو عملية، لكن مجرد طرحها كان كافيا لاثارة تساؤلات في أوساط معارضين ليبيين مرتبطين بشكل او بآخر بالاجهزة الاميركية، وقد توجه وفد من هؤلاء الى وزارة الخارجية في واشنطن للاستفسار عن مدى جديّة احتمال قيام الوحدة بين مصر وليبيا وما اذا كان يمكن ان يؤدي ذلك الى تمكين "جماهيرية" القذافي من تجاوز العقوبات الدولية. كان رهان هؤلاء المعارضين على العقوبات الدولية واستمرارها من اجل اسقاط النظام يوماً لكن المسؤولين الاميركيين الذين كانوا على اتصال بهم سارعوا الى طمأنتهم عن طريق تأكيد لا مجال لأي وحدة من أي نوع كان بين مصر وليبيا لسبب في غاية البساطة هو ان "ليبيا دولة نفطية، وليس مسموحاً لمصر بان تمد يدها الى النفط الليبي". نقل احد اعضاء الوفد الليبي عن مسؤول اميركي قوله انه مسموح لمصر بان يكون احد مواطنيها في موقع الامين العام للامم المتحدة، وقد شغل الدكتور بطرس غالي الموقع. كما مسموح لمصر ان تصر على ان يكون الامين العام لجامعة الدول العربية مصريا... اما ليبيا، فهذا شان آخر لا تساهل اميركياً حياله بسبب النفط! في مرحلة معينة، بدا القذافي وكانه فهم المعادلة وانه استوعب معنى الاهتمام الاميركي بالنفط الليبي. لعب اللعبة على اصولها، خصوصا في المرحلة التي مهدت لرفع العقوبات الدولية وتلك التي تلتها. كان اول ما فعله وقتذاك استمالة شركات النفط الاميركية مع مراعاة للأوروبيين، على رأسهم بريطانيا التي سارع رئيس الوزراء فيها توني بلير الى زيارة طرابلس بعيد رفع العقوبات عن "الجماهيرية". بدا في مرحلة معينة، مطلع القرن الواحد والعشرين، انه فهم الدرس اكثر مما يلزم الى درجة قرر فيها التخلي عن اسلحة الدمار الشامل بعدما اكتشف ان الاميركيين على علم تام بالتفاصيل المملةبكل مايقوم به،بما في ذلك العلاقةبين مساعديه والعالم النووي الباكستاني عبدالقدير خان. في السنة 2011، يتبين ان القذّافي فهم نصف المعادلة، فهم ما يريد فهمه من المعادلة. إنه يدفع حالياً ثمن الاعتقاد بأن الاستسلام للاميركيين يغنيه عن القيام بالاصلاحات المطلوبة وأن ليس ما يمنع ممارسة القمع، لم يفهم القذّافي ان رفع العقوبات عن ليبيا كان جزءاً من صفقة لا تشمل النفط فقط. كان مطلوبا تغيير النظام بشكل جذري والانفتاح على العالم وليس العودة الى استخدام اموال النفط لدعم هذا الديكتاتور الافريقي أو ذاك... لا شكّ ان معمّر القذّافي شخص ذكي، لو لم يكن الامر كذلك، لما بقي في السلطة اثنين وأربعين عاماً، لكن ذكاء العقيد توقف عند فهم المطلوب منه في مرحلة معينة، وقف حتى في وجه نجله سيف الاسلام عندما بدأ يطرح برنامجا اصلاحياً وذلك بغض النظر عن مؤهلات الرجل، وما اذا كان يحق له خلافة والده. لكن العقبة الاهم التي لم يتغلب عليها ذكاء القذافي هي الشعب الليبي، لم يستطع في اي لحظة التقاط ان الشعب ضد "الجماهيرية" وضد نظامه الذي انتهى بالطريقة التي انتهى بها. انتهى وليبيا تواجه خطر تدخل عسكري تبحث واشنطن حالياً عن غطاء دولي له...أو حرباً اهلية معروف كيف تبدأ وليس معروفا كيف ستنتهي..