بعدما قرر المجتمع الدولي الانتهاء بالقوة من نظام العقيد معمر القذّافي او على الاقلّ حصره بطرابلس والمنطقة المحيطة بها في انتظار الاجهاز عليه، يبدو منطقياً التساؤل ما هو الدرس الذي يمكن استخلاصه من الحدث الليبي؟ الجواب بكل بساطة ان هناك دروساً عدة يمكن استخلاصها وليس درسا واحدا يمكن تعلمه وحفظه عن ظهر قلب بعد كل ما شهدته ليبيا في اقل من شهر، لكن هناك درساً واحداً في غاية الاهمية لا مفر من ابقائه في الذهن، يتمثل هذا الدرس في ان على الدول الصغيرة، مهماً كانت غنية، ومهما اعتقدت ان في استطاعتها لعب ادوار على الصعيد الاقليمي الاهتمام بشعبها ورفاهه اولاً، تكمن مشكلة العقيد القذّافي في انه لم يعرف يوماً ان ليبيا مجرد دولة صغيرة، على الرغم من مساحتها الشاسعة، وانها لا تمتلك ما يسمح لها بلعب ادوار تفوق حجمها. عاش في وهم الدور وهو يدفع حالياً ثمن هذا الوهم.. بل ضحيته. باسم الحفاظ على الاستقرار في منطقة شمال افريقيا وتدفق النفط الليبي، اعطى المجتمع الدولي، على راسه الولاياتالمتحدة واوروبا، ليبيا- معمّر القذّافي فرصة لاعادة تاهيل نفسها بعد رفع العقوبات الدولية عنها، لم يحسن الزعيم الليبي استغلال تلك الفرصة. اعتقد انه يستحيل على العالم الاستغناء عنه، لم يقدم على اي اصلاحات من اي نوع كان تشير الى انه مهتم بشعبه. استمرّ في اهمال ليبيا والليبيين على الرغم من انه استعاد في مرحلة معينة القدرة على التعاطي مع المستجدات الدولية بما يسمح له بادراك ان العالم تغيّر، وان ليس في استطاعته ممارسة عملية هروب مستمرة الى امام تقوم على الظهور في مظهر انه صاحب دور على المستويين الاقليمي والعالمي. تمكن القذّافي، بفضل ذكائه الفطري وبعض مساعديه الذين احتكوا بالولاياتالمتحدة والغرب عموماً، فهم ان لا مكان في العالم لدولة صغيرة تعمل من اجل تخزين اسلحة الدمار الشامل والوصول الى امتلاك السلاح النووي، دعا مساعديه في العام 2003 الى فتح كل ما لديهم من ملفات متعلقة باسلحة الدمار الشامل بعدما اكتشف ان الولاياتالمتحدة على علم بكل الجهود التي يبذلها من اجل تخزين اسلحة كيماوية ومن اجل الحصول على التكنولوجيا التي تسمح له بانتاج قنبلة نووية. نزع القذّافي ورقة التوت حتى طلب من مساعديه القبول بكل ما يطلبه الاميركيون من دون طرح اسئلة من اي نوع كان. بدا الزعيم الليبي وكانه بدا يتعاطى مع العالم ومع موازين القوى السائدة فيه بطريقة علمية وواقعية بدليل انه انتهى من قضية الممرضات البلغاريات بعدما تبين له ان المشكلة في النظام الصحي المتخلّف في "الجماهيرية"، وليس في ممرضات اجنبيات اتهمن زوراً بحقن المواليد بجراثيم تؤدي الى اصابتهم بمرض فقدان المناعة (ايدز)، هناك باختصارعرب شرفاء ساعدوا القذّافي في تلك المرحلة على تجاوز مرحلة ما بعد العقوبات الدولية التي فرضت على ليبيا بسبب قضية لوكربي. كان مفترضاً في "الجماهيرية" التي انتفض الليبيون في وجهها ان تعي ان العالم تغيّر فعلاً وان ذلك يستوجب اصلاحات حقيقية تؤدي الى مصالحة بين الشعب و"القائد"، اعتقد القذّافي الذي كان يعشق تسمية "القائد" ان الولاياتالمتحدة استسلمت له، وان اوروبا تقبل يده بدليل ان رئيس الوزراء الايطالي سيلفيو برلوسكوني فعل ذلك. لم يستوعب ان ذلك لا يغنيه عن التصالح مع شعبه. ليست اوروبا وحدها التي خذلت القذّافي بعدما استقبلته في الاحضان، ليست اوروبا وحدها التي سعت الى تصفية حسابات قديمة معه من منطلق ان الرجل استعاد عاداته القديمة، وان من المستحيل اصلاحه. كانت الصدمة الاكبر تلك التي تلقاها الزعيم الليبي من افريقيا التي اعتقد انه وضعها في جيبه بعدما نصّب نفسه "ملكاً لملوكها"، لولا العضوان الافريقيان في مجلس الأمن التابع للامم المتحدة وهما جنوب افريقيا ونيجيريا، ما كان للقرار الذي صدر عن المجلس وحمل الرقم 1973 ليمرّ، ومن دون القرار ما كان ممكناً للقصف الذي تتعرض المواقع العسكرية التابعة للقذّافي ان يحظى بغطاء الاممالمتحدة، كان القرار الذي فرض حظراً جوياً على ليبيا يحتاج الى الصوتين الافريقيين، استجابت جنوب افريقيا ونيجيريا لارادة اميركا وفرنسا وبريطانيا، فالبلدان ينتميان الى العالم الحقيقي، حيث لكل دولة مصالح خاصة بها، وليس الى العالم الذي في مخيلة معمّر القذافي. عاجلاً ام آجلاً ستنتصر ليبيا على "الجماهيرية" التي تمثل نظاماً لا علاقة له من قريب او بعيد بما يدور في العالم او بالموازين الدولية، يبقى السؤال هل تبقى بلداً موحداً؟ هل تدخل مرحلة الحروب الاهلية التي حذّر منها، عن حقّ، سيف الاسلام القذّافي؟ الاكيد ان الكثير سيعتمد على ما تريده اميركا واوروبا، حتى اشعار آخر ان ليبيا بلد نفطي مهماً من اجل النفط، كان مسموحاً للقذّافي بالقاء خطاب طويل في الاممالمتحدة، وان يمزق ميثاقها امام زعماء العالم الذين راحوا يضحكون من منطلق ان المشهد مسلّ ليس الاّ، تبين ان من يضحك حقيقة هو من يضحك اخيراً.. وان العالم على استعداد لغض الطرف عن تصرفات اي زعيم ما دام يعرف اصول اللعبة الدولية، ويعرف خصوصاً اين الحدود التي يجب ان تتوقف عندها الدول الصغيرة! لم يعرف القذّافي، الذي لم يتعلّم شيئاً من مجيئه الى المدينة، كيف يفرّق بين الحقيقة والوهم!.