من نافل القول ان ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات تمكنت خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين من نقل العمل الاجتماعي من مجال الإنتاج الصناعي إلى مجال الإنتاج الاليكتروني، وتجديد مُدخلات الصناعة إذ غدت تعتمد على المواد الخفيفة بدلاً من المواد الثقيلة ، فيما تغيّرت الوسائط المنظمة للعَلاقة بين الإنتاج والتسويق والاستهلاك بواسطة إحلال إدارة المعلومات محل إدارة العمليات والأشياء ، وما ترتب على ذلك من تحولاتٍ جذرية في معايير الأرباح بوصفها المصدر الرئيسي لتراكم الثروة ، خصوصًا بعد أن أسهمت التجارة الاليكترونية في تحقيق التحول من فائض القيمة الذي اكتشفته الماركسية إلى القيمة المضافة التي استولدتها العولمة!! أما بُنية العمل والملكية فقد تبدلتا على نحوٍ مدهش، حيث اتسع الطابع الإجتماعي للملكية على نطاقٍ عالمي من خلال أسواق الأسهم والتجارة الاليكترونية، بطريقة أكثر فعالية من صيغة " الاشتراكية والثورة البروليتارية " التي كانت الماركسية تراهن عليها، فيما تراجع دور الطبقة العاملة التي تلعب دور القوة المحركة للعمل في ظل المعطيات التقنية للثورة الصناعية وأصبح العمل اليوم يعتمد على قوة محركة جديدة هي العاملون الذين يقرأون المعطيات الرمزية والرقمية والمعلوماتية على شاشات أجهزة الحاسوب، ثم يقومون بتحويلها إلى صورٍ وأصواتٍ وأوامر ورسائل وقرارات وتعليمات تنتقل بسرعة الضوء من مواقع الإدارة إلى مواقع الإنتاج والتسويق داخل البلد الواحد وعلى مستوى الكوكب الأرضي بأسره. في هذا السياق تبدو صورة الحضور العربي على تخوم الألفية الثالثة قاتمة ومضطربة، مقابل الحضور الفاعل لأممٍ وشعوب وثقافات أخرى نجحت في اختراق مشهد النظام العالمي الذي تحوّل إلى نظام كوني بلا حدود، على نحوٍ يصعب تجاهله والإنعزال عنه أو مقاومته ورفضه، فيما أصبح معيار الدخول إليه والحضور الفاعل فيه هو مدى القدرة على امتلاك الحيوية الذهنية والفكرية، والاستفادة من الفتوحات المعرفية والمنجزات التقنية التي يتشكل على أساسها العالم الجديد في الزمن الجديد. ما من شك في أنّ العقدين الأخيرين من القرن العشرين شكلا محطة هامة على تخوم الألفية الثالثة التي دشّنت بداية انتقال الحضارة الحديثة من زمن الثورة الصناعية التي حققت خلال ثلاثمائة عام ما لم تحققه حضارات البشرية خلال آلاف السنين إلى زمن الفتوحات اللامتناهية لثورة الاتصال والمعلومات التي نقلت الحضارة الصناعية الحديثة من العالمية إلى العولمة. والثابت أنّ تكنولوجيا المعلومات تفاعلت على نحوٍ مثير للدهشة مع غيرها من المعطيات المادية والمعرفية التي أفرزتها تكنولوجيا الصناعة والزراعة والطب والدواء والنقل والمواصلات والفنون والتعليم والإعلام، ثمّ فتحت بعد ذلك أفقاً واسعاً لولادة شبكة معقدة من العَلاقات البنيوية بين مختلف الفئات الاجتماعية والمهنية والمنظومات السياسية والاقتصادية، وتوليد قدرات معرفية جديدة تساعد على إعادة اكتشاف عالم الواقع، وتعميق معرفتنا بهذا العالم وبذاتنا وبغيرنا، وتنمية قدراتنا الذهنية، وتسريع عملية اكتساب الخبرات وكسر احتكار النخب الثقافية والسياسية القديمة للمعرفة. تأسيسا على ما تقدم يقتضي التعامل مع هذه المعطيات تخليص النخب الثقافية والسياسية القديمة من عزلتها الرهيبة عن متغيرات العصر المتسارعة وحقائقه الجديدة غير المسبوقة، وإعادة بناء الجهاز المفاهيمي لمختلف التيارات الفكرية والسياسية بما يؤهلها لتجديد طريقة فهمها للعالم وتصويب مواقفها السياسية من أحداثه ووقائعه ومتغيراته. لا يجوز إنكار ما أحدثته تكنولوجيا الاتصال والمعلومات من تحولاتٍ جذرية في مفهوم الثقافة وبُنيتها ووظائفها، بما في ذلك انعكاس هذه التحولات على المثقف نفسه . ومما له دلالة عميقة أن يتزامن ظهور معطيات ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصال في نهاية العقد الاخير من القرن العشرين المنصرم مع سقوط الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية الدولية بمختلف أطيافها، جنبا ً الى جنب مع فشل المشاريع القومية، وانتكاسة المشروع الراديكالي المشترك للحركات الإسلامية المتطرفة والمعتدلة في آن واحد نتيجة فشلها في قراءة التاريخ ومعرفة إشكاليات علاقتها بالواقع المحلي والبيئة العالمية، بالاضافة إلى انعدام المبادرة والقدرة على الفعل من لدن كافة التيارات السياسية والفكرية التي رفعت خلال النصف الثاني من القرن العشرين شعارات الاشتراكية والوحدة العربية والتنمية المستقلة والدولة الإسلامية. ثمّة من يصف القرون الأربعة الماضية منذ انطلاقة الثورة الصناعية الأولى والثانية والثالثة، بعصر الحداثة فيما يتم وصف ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات التي تزامنت مع ولادة الألفية الميلادية الثالثة بعصر ما بعد الحداثة.. ولئن كانت تكنولوجيا الصناعة قد أفرزت الدولة القومية والاقتصاد الرأسمالي والاستعمار وأسواق المال وحروب الإبادة الجماعية على امتداد القرون الأربعة الماضية، فمن غير المستبعد أن يتغير شكل ومحتوى المجتمع البشري تحت تأثير تكنولوجيا المعلومات، خصوصاً في البلدان النامية والفقيرة. مما له دلالة أن التقرير السنوي لليونسكو لعام 2000م خلص إلى التأكيد على أنّ الخيال السياسي والاجتماعي في مجتمعات البلدان النامية والفقيرة يتسم بالخمول والاغتراب عن التحولات العميقة التي تحدث على الصعيد الواقعي في البلدان المتقدمة بتأثير الخيال العلمي، وهو ما يفسر جانباً من أسباب تخلف المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية في مجتمعات البلدان النامية والفقيرة، واغترابها عن المخرجات الثقافية لثورة العلم والتكنولوجيا، التي تتجسد في غياب او تغييب البُعد الثقافي عن مظاهر الحداثة السطحية في حياة هذه المجتمعات، الامر الذي يستوجب ضرورة إعادة صياغة العَلاقة بين الإنسان والمجتمع والعالم، على أساس المعايير الحديثة لثقافة المعلومات، وبما يؤمن التفاعل الحي مع عالم الفضاء المعرفي والاندماج فيه، وامتلاك المبادرة والقدرة على اتخاذ القرارات وبلورة الخيارات. والحال إنّ النخب المثقفة والسياسية القديمة اكتسبت مشروعيتها خلال القرن الماضي من انسلاخها عن بيئة الأمية الأبجدية والثقافية.. وعلى تربة هذا الانسلاخ مارست هذه النخب وظائفها (الدعوية والدعائية) بصرف النظر عن فشل المشاريع والأفكار التي دعت إليها وتولت مهمة حراستها .. بيد أنّ المعايير الخاصة بالأمية الثقافية والسياسية تغيرت اليوم، حيث يتوقف الانتساب إلى ثقافة المعلوماتية - وهي غير نخبوية بطبيعتها - على محو أمية التعامل مع الكمبيوتر ونظم المعلومات، ومحو أمية الشكل والرمز وأمية الثقافة العلمية.. وهو ما يوحي بأفول عصر النخب المثقفة القديمة التي كانت تشتغل على الآيديولوجية والخطابة والتعبئة والتحريض! لم يعد خافياً أنّ النخب المثقفة سواء أكانت دينية أو قومية أو ليبرالية أو يسارية او يمينية، تصدّت على مدى مائة عام لأسئلة النهضة وصدمة الحداثة الأولى ولم تتمكن من بلورة إجابات حاسمة على إشكالياتها وتناقضاتها، ثم بلغت ذروة مأزقها في نهاية القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين لتواجه أسئلة صدمة ما بعد الحداثة الثانية، وتحديات عصر العولمة وثورة المعلومات دون أن تتمكن من الإجابة عن أسئلة الصدمة الأولى. وبتأثير تحولات عصر العولمة ومعطيات ثورة المعلومات طالتا الثقافة وبالتالي فاعليها وهم المثقفون يتشكل عالم جديد بطريقة غير مسبوقة، بالتزامن مع ولادة ثقافة إنسانية جديدة بطريقة مختلفة، فيما تتغير عَلاقة الإنسان بعالم الحقيقة الواقعي انطلاقاً من التغيير الحاصل في معايير الأمية والمعرفة، وما يترتب على ذلك من ضرورة إعادة صياغة العَلاقة بين دور فاعلي الثقافة وسائر الفاعلين الاجتماعيين في المجتمع. يقيناً أنّ النخب المثقفة القديمة في العالم العربي آلت إلى وضعٍ مأساوي من العجز والإفلاس، بموازاة الدور الذي توخت إنجازه من خلال قيادة المجتمع وتبني مشاريع النهضة والتحديث.. واللافت للنظر أنّ هذه النخب استقرت على أفكارٍ قديمة ومشاريع بالية، واكتفت بدور شرطي الحراسة لتلك الأفكار، وتصر في الوقت نفسه على الدوغمائية في التعاطي مع الجهاز المفاهيمي لتلك الأفكار والمشاريع وما ينطوي عليه هذا الدور من خطاب شعاراتي شعبوي و تحريضي و دعوي، متجاهلةً حقيقة أنّ المثقفين لا يصنعون عالم السياسة والاقتصاد في هذه الحقبة من عصرنا الراهن بواسطة الأيديولوجية والنظريات السياسية، بقدر ما يصنعه فاعلون اجتماعيون آخرون مثل العلماء في المختبرات والمعامل ورجال الأعمال في الأ سواق، ومهندسو البرمجيات ولاعبو الكرة ونجوم الغناء وحواريو الفضائيات الجادة وقادة المصارف والمؤسسات الثقافية والإعلامية الكبرى الخ. لم يُعد بوسع النخب المثقفة تنصيب نفسها لممارسة الوصاية على الثورة والحرية والحقيقة والدين والعقل.. ولا يحتاج المرء إلى جهدٍ كي يقتنع بأنّ هذه النخب فشلت في كل مشاريع التغيير التي بشرت بها وسعت إليها وغرقت في أوهامها، وعزلت نفسها عن العالم بعد أن داهمتها الصدمات والمفاجآت والهزائم!!. قد يكون هذا الاستنتاج قاسيا ً ومؤلما ً، لكن الجهر به يستمد ضرورته واهميته من المأزق الذي وصلت اليه النخب المثقفة القديمة بعد ان تكلست وعجزت عن إنتاج المعرفة بالإنسان والمجتمع والعالم.. وما من شكٍ في أنّ هذا العجز يعود إلى حقيقة أنّ مشكلة هذه النخب المثقفة القديمة لم تكن مع الإنسان أو المجتمع أو العالم، بل مع أفكارها.. فمهمة المثقف تتحدد في الاشتغال على الأفكار واجتراح طرائق جديدة للتفكير، وإنتاج أدوات تحليل معرفية تتيح إنتاج أفكار واقعية وفاعلة وقابلة للتطبيق..! وحين يصل المثقفون إلى مأزق حادٍ، بسبب عجز الأفكار عن إنتاج المعرفة بالواقع، تفشل تبعاً لذلك العجز كافة المشاريع التي تصاغ على أساس تلك الأفكار.. وهي نتيجة طبيعية ما كانت لتحدث لولا انتقال المثقف من وظيفة الاشتغال بالتفكير وإنتاج الأفكار إلى الاشتغال في مهنة الدعاية وحراسة الأوهام و تسويق الشعارات الشعبوية والوعود الجاهزة والمطلقة