جرحان غائران لن يندملا، وصدمتان كبيرتان موجعتان لن تأبلا، وخسارتان فادحتان لن تعوضا.. مني بهما الوطن العزيز الغالي في حياة ورحيل الكاتب الكبير والصحفي القدير فارس فرسان الكلمة الحرة المسؤولة صالح بن عبده الدحان يرحمه الله رحمة الابرار. الاولى يوم اعتكف في خلوته الاخيرة وحين توقف عن الكتابة وممارسة المسؤولية في حضرة السلطة الذكية. والثانية يوم ارتقى الى الرفيق الاعلى بعد معاناة شديدة مع المرض الذي استفرد به وطال بآلامه واحزانه قلوب كل محبيه وقرانه!!. ومثل الفقد الاختياري الاول خسارة كبيرة للوطن.. وللصحافة الوطنية الحرة والمسؤولة.. وللكلمة الصادقة البناءة ولكل من عرفوا الراحل الكبير واهل الصحافة والفكر والادب، والذين ظلوا يترقبون عودته الى عرينه في 26سبتمبر وكل الصحف التي كان يكتب فيها.. ومانفك الحزن يعتصر قلوبهم عليه!! والاسئلة في اذهانهم تأتي وتروح لموقف فارس جليل اراد ان يسدل الستار على تاريخه المعطاء عنوة، وعن سبق اصرار وترصد وكأنه اكتفى بما اعطاه وقدمه في خدمة وطنه وقضايا الثورة والحرية والوحدة والتقدم الاجتماعي والتطور الاقتصادي وحاضر ومستقبل الامة العربية.. وكأنه ايضاً كان قادراً على ايقاف حركة تاريخه وانهاء صلته بالحياة الابداعية والانتاجية ودون رجعة.. برغم انه يدرك بان تاريخ امثاله من المبدعين الافذاذ والفوارس الرواد لا يمكن ان يتوقف.. وان شاء ذلك!! وهو يعلم بان لكل انسان تاريخه الذي لا يمكن ان يتخلص عن فقرة من فقراته.. وتبقى مفاصل التاريخ لأي فرد او اي مجتمع او شعب او امة مثل العمود الفقري الذي تتماسك به هيئة الكائن الحي!!. ولاشك بأن الراحل العظيم.. فارس ميدان الكلمة الحرة والمسؤولة والصادقة صاحب تاريخ متجدد فهو مصدر المجموعة القصصية الاولى في وطننا «انت شوعي» وبهذه المعلومة عنه بدأت صلتي به واخذت اسأل عنه ومازلت طالباً ادرس في كنانة العرب.. وابحث عن مجموعته القصصية، وكنت حين ذاك بدأت اجرب ايضاً كتابة القصة القصيرة بشغف كبير!! واهتم بمتابعة الكتابات القصصية والتي كانت سبيل معرفتي المبكرة ايضاً بالمغفور له الكاتب الكبير والقاص المتميز والمهني الاول في حقل الصحافة الاستاذ محمد ردمان الزرقة!! غير ان مفتاح الصلة العميقة بالكاتب القدير.. والصحفي الرائد والمتميز صالح الدحان كانت عبر كتاباته الصحفية التي قدمت المعرفة الاغنى والاكثر اهمية بالاستاذ الجليل صاحب القلم الذكي والنابه والمهاب.. ولا يكفي في حق كل ما قدمه في مجال الصحافة ان يقال عنه بانه صاحب مدرسة خاصة سواءً في لغته اولاً.. وفي اسلوبه.. واتقانه لما يعمل على نشره.. كان شديد الحرص على الكمال وهو يذكر في ذلك بالرعيل الاول من الصحافيين العرب سواءً في مصر.. او في لبنان.. احب لغته حباً جما.. وحصن كتاباته بالصياغات البديعة في اختيار الكلمات وبناء العبارات.. وحتى عندما يستخدم بعض الكلمات العامية او يركب كلمة جديدة من مفردتين فهو لا يفرط في ضبط دلالاتها الفصحى وعند البحث يجد الانسان انها قادمة من صلب القاموس الدقيق لفصيح اللغة وعندما اختار «البورزان» اسماً لصحيفته وبعد نقاش طويل حول المعنى او الدلالات التي ارادها من ذلك!! قال لي: سوف تكتشف الدلالات المقصودة مع الايام وتوالى اعداد الصحيفة ولم يتعد فهمي حتى الآن لحدود التنبيه وشد الانظار والاسماع!!. وقد كان في اسلوبه يحرص على التركيز وعدم الاسهاب او الافراط في هدر الكلمات وكأنه يخاطب القارئ ذا الصلة الحميمة بالقراءة.. وجاهد من اجل تكريس قدسية مهنة الصحافة.. واحترام خطورة مسؤولية الكتابة وربما ان الوضع الذي آلت اليه المهنة الصحفية لدى البعض ورفضه للانحراف بها هو ما دفعه الى ان يتخذ موقفاً حاداً وحاسماً من الكتابة الصحفية وان يعتكف في سدرة الصمت الرهيب.. الصمت القاتل ببطئ وكان ذلك درس رحيله الاول الذي احزن الكثيرين وادمى قلوب المحبين.. والمتابعين.. صامداً في عرينه كأسد جريح اسير احزانه وتأملاته وصبره اليتيم وعذابه المبرور لم تتعثر به الكلمة في حياته الابداعية ومسيرته العملية والمهنية ولم يخذله القلم.. وظل صلب العود.. قوي المراس في جهاده الوطني العظيم تحت راية الحرية والفكر المستنير.. والمسؤولية الحقة.. ولكن حذلته الرأسمالية الوطنية التي كان يأمل فيها الخير كله بالنسبة لتطوير الصحافة، حيث سعى خلال الثمانينات بكل قدراته في اقناع البعض من رجال المال والاعمال من اجل انشاء مؤسسة صحفية خاصة وبحيث تصدر عنها صحيفة يومية خاصة ومنافسة للصحافة الرسمية.. لتقدم النموذج الافضل الذي بدأ يترسخ في تجربة الكويت ودولة الامارات العربية المتحدة وبالنسبة للصحافة الخاصة وبدا انه اراد ان تكون «البورزان» مشروعاً في هذا الاتجاه.. غير ان هذا المشروع ايضاً تعثر.. وكان فارس فرسان السلطة الذكية قد هزم في معركة مصيرية بالنسبة له ليس لأن الاسلحة فاسدة.. ولكن لأن الرأسمالية الوطنية خذلته ولم تجاريه في خوض غمار هذه التجربة التي كان ينتظر ان يكتب بها تاريخاً جديداً ومتميزاً للصحافة في بلادنا وعبر مؤسسة صحفية متكاملة بمطبعتها وكوادرها لتستطيع ان تتجاوز كل أوضاع الصحف الاسبوعية الخاصة.. المضطربة الصدور.. ولكن دون جدوى. كانت دهشته اكبر حين تداعت بعد ذلك صور من الاصدارات الصحفية الخاصة والاهلية والحزبية الاسبوعية.. والمنتظمة الصدور غير انها مغلقة على موضوعات محددة واسيرة صراع اعلامي وسياسي غيبها عن الهدف الجوهري الاول وهو خدمة المجتمع والمساهمة في تنميته وانهاضه!! ووجد انها لم تستجب في نظره للحلم العظيم الذي ظل يتوق اليه بالنسبة للصحيفة اليومية التي تكون قراءتها كل صباح من أوجب الاعمال التي يستهل بها الانسان نهاره الجديد!!.. ولنا وقفة مع الرجل الكبير فقيد الصحافة الخاصة المغفور له بإذنه أحمد عوض باوزير.