لعل الإنسان لم يهبط على سطح القمر إلا بعد ان اكتشف أسباب قوته وأسباب ضعفه على الأرض, ومعرفة أسباب القوة تؤدي الى الثروة لان الطريق الى الغنى غير المشروع عن طريق الاستخدام غير المشروع للقوة .. لكن هل عظمة الانسان آتية من القوة أو من الثروة ؟. ان القوة آتية من عظمة الإنسان لأنها وليدة تفكير وبحث , وبهذا إمتازت قوة الانسان على قوة الحيوان لانها من رهابة الشعور وضياء العقل على حين قوة الحيوان وراثية فيه كوارث الضعف في فصائل اخرى , والقوه طريق الثروة .. كانت غابات الاسود مليئة بلحوم الضباء والغزلان وسواها من ضعاف الحيوان , وكانت اعشاش الصقور والبواشق مليئة بلحوم الحمام واليمام وسواها من الحيوانات العاجزة عن المقاومة .. فالثروة والقوة مستوان , القوة تحقق الثروة لكي تزيد الثروة من تجديد القوة , ومع هذا فهناك ماهو أبعد صوتاً من القوة وماهو فوق الثروة وأدمغة مخططيها وذلك هو الابداع الشعوري من الآداب والانتاج العقلي من الافكار الفلسفية والمخلوقات العاطفية من روائع الفنون، ذلك لأن الآداب والفنون والفلسفة أنفذ روائح من البارود وأبعد أصواتاً وأصداء من أقوى المدافع والطائرات , حتى لقد كانت هذه المبدعات أجمل مبرر لسوء استخدام القوة واروع مسوغ لحسن استخدامها , حتى لقد قامت اكثر القوى الطاغية على اقوى الاعمدة الوردية من ابتكار الادب والفلسفة والفنون , واي قوة اغشم من القوة النازية وعلى وحشيتها كان لها معجبون وبل آملون في حلاوة جناها ..فما السبب يا ترى ؟ اهم الاسباب عبقرية المكان الذي أبدع فيه. الفن أخصب الاعمال واجودها , فقد كان خلف ( هتلر ) خط ضوئي من الفلسفة وخط اصلي من الادب وخط شمسي من الفنون , ماذا ذكرت (المانيا ) اضاءت في الاذهان فلسفة (نتشة) واشعار(جونة) وسيمفونية (بيتهوفن ) , اذن فقد كان الاعجاب بالمانيا الهتلرية إعجاباً بالقيم والشوامخ التي شكلت خلفية النازية وعنصرتها وان اختلفت عنها وكانت رفضاً لتصرفاتها الا ان السياسة العدوانية تستغل كل جميل لكل قبيح , مثل ذلك (بريطانيا ) فعندما اصبح شوطها كشوط الشمس كانت تعتمد على تعبير (شكسبير) وروائع (بيكون ) وعلمانية (وبلز ) وروائية (بيكنز ) حتى كانت تختار بريطانيا مندوباً سامياً للهند يحمل اسم (وليم) او يعتبر ذلك الاسم لكي يذكر الهنود بوليم شكسبير مبدع الروائع الانسانية وعدوالشر بكل صور وتحت مختلف الازياء , ولكن السياسة الاستعمارية كانت تستغل سمعتها الفكرية والادبية والفنية , لان روائع (بيرون ) و(شللي ) و (كينس) كانت أبعد صدى من صوت القوة وفوق الثروة المكسوبة والمنتظرة ولكن كل هذه الثقافة العليا قد ادت ولومؤقتاً لتبرير الجشع الاستعماري او لتلطيفة على الاقل لان هذه القوى جاءت من اغني المنابع الثقافية ومن ارقي الذرى الادبية. حتى اكتشفت المجتمعات ان القوة لاترجع الى كثرة العدد ولا الي وفرة الثروة وانما للكنوز الثقافية وسوء استخدامها من قبل الساسة , والا فلم تكن (بريطانيا ) اكثر عدداً من (الهند ) ولا (فرنسا ) اكثر عدداً من شمال افريقيا , لكن بريطانياوفرنسا اكثر ثقافة كان من خلفية الاستعمار الفرنسي (روسو) و (فلتير ) وروايح الثورة البرجوازية التي شكلت مبادئها لغة ثورة العصر وكان من خلفية (بريطانيا ) موكب من الإبداع الادبي والفكري والفني الى جانب ماواكبها من ابداع حتى وصلت آثاره ومؤاثراته الى الشعوب المحتلة لكي تؤجج جحيم الثورة فيما بعد وحتى هذه الثورات التي تلاحقت كامواج المشاعل كانت الروائع الادبية أبعد من اصواتها وفوق ثروتها المادية والتخطيطية فقد كان وراء الثورة الروسية ابداع (دستوفسكي ) الروائي العظيم وفكر (تولستوي) وتنبه (بوشكين) و ما سوية (نورجنيف ) وقد كانوا هؤلاء تلامذة فرنسا لكي يصبحوا اساتذة اوروبا وكل العالم : فقد كان وراء ثورة اكتوبر الاشتراكية خط عريض من البدائع الفكرية والادبية , فلم تشكل هذه الفكرية والفنية ثورة روسيا وحدها وانما تتلمذ عليها ثوار يختلفون عن بعض غاياتها او كل غاياتها , كان (غاندي ) متاثراُ ب (تولستوي ) وكان ( محمد اقبال ) يقول لم اتعلم من اي كاتب كما تعلمت من تولستوي , وكان محمد اقبال شاعر الاسلام كغاندي في الاشتعال في الشرارة التولستوية : فاذا ذكرت روسيا تلالا في الاذهان الروائي المتفلسف (فوسكي) والفيلسوف الروائي (تولستوي ) الى جانب الذين كانوا شهادة ميلاد الثورة كجوركي و ماكوفسكي : ولم تكن الشعوب المتلقية لهذه الثقافات مجرد اوعية او اجهزة تسجيل وانما ابدعت ثقافة اخصبت جذور الثورة ودلت قطوفها على امتداد مسيرتها من امثال (طاغور) في الهند و(محمد اقبال ) في الباكستان والشاعر المحارب (عبدالكريم الخطابي ) في المغرب. وهناك امثلة اقرب والصق بنا فعندما انفجرت ثورة 23 يوليو في مصر تفجرت الافراح في كل شبر من آسيا وأفريقيا لان ذلك الحدث الناري كان شهادة الميلاد الثاني للامة العربية , ولم تكن مصر في ذلك الحين تتمتع بثروة عريضة ولا تملك قوة ساحقة وانما كانت تمتلك الازدهار الادبي والفكري الذي شكل عبقرية المكان , فقبل ثورية (عبدالناصر ) وفلسفة الثورة اضاءت الجو العام اصلاحية (محمد عبده ) و(قاسم امين ) ونظريات (المنفلوطي) ومقامات (الموليحي ) واشعار (شوقي )وايام (طه حسين ) فاذا ذكرت ثورة (عبدالناصر ) احتشدت هذه الاعلام المحلقة في الاذهان فامتزج صدى الثورة بعبير كتابات (طه حسين ) و (توفيق الحكيم ) و( صلاح عبدالصبور) , اذاً فقد تدفق هذا الرخاء الفني تدفق النيل فكون للثورة خلفية خضراء ومحيطاً ربيعياً : اذاً فصوت الفكر المبدع وعبير الادب الانساني ابعد صدى من القوة وفوق الثروة مهما امتدت. وكلنا نلاحظ ان تاريخنا العربي الاسلامي مدين لهذه القوى الروحية , فقبل القرآن الكريم كانت اسواق عكاظ وذو المجاز وأمثال حكماء الجاهلية كاتم ابن صيفي ولقمان ابن عاد وقس ابن ساعده فأحسن الناس تلقى بلاغة القرآن بفضل اشعار الجاهليين من أمرئ القيس الى (لبيد) وبتأثير القرآن والسنة النبوية قامت أعلى ذروات الثقافة من فكرية وفقهية وعمران وغناء ونحت.. وهل كان من الممكن ان يذكر للعرب تاريخ سياسي وفكري لولا (العمرين) في التاريخ السياسي ولولا الجاحظ وابو تمام والمتنبي والمعري في التاريخ الادبي ولولا مالك وابوحنيفه والشافعي وابن حنبل وزيد بن علي في التاريخ الفقهي ولولا الكندي والفاربي وابن سينا والغزالي والهمداني وابن خلدون في التاريخ الفكري ولولا الف ليلة وسيرة عنتره ومقامات الهمداني والخوارزمي في التاريخ الروائي القصصي وعن طريق هؤلاء افتتحت اوروبا لكي تفتحنا لكي نمتلك مفاتيح كنوز نفوسنا فقبل ان نملك ثروة كنا املك لاعجاب الاخرين لان قوة المال مهما كان اثرة قوة قابلة للمط والذوبان وقابلة للانتقال من يد الى اخرى ام قوة الثقافة العليا فلا يفتتحها الغزو ولا تشتريها نقود العالم .. ومثل قوة المال وقوة السلاح قابلة للانتقال والتميع , فمهما استغلت القوى عبير الثقافة ومجد الادب فانها قوة صلبة قابلة للكسر وقابلة للانتقال لان القوى يبقي في مركز محمي يقوي الضعيف, اما مملكة الفكر والادب فهي ثروة متجددة الخصب والنماء غير قابلة للانتقال وغير قابلة للتميع .. لهذا تحاول الامبريالية بكل اجهزتها ترويج الالهاء بدلا عن الثقافة , وتزويق السفسفات بدلا عن الابداع الانساني , ولكن هذه المحاولة محاولة قوة قابلة للكسر وقابلة لاحراق نفسها , لان سر الابداع الفكري والشعوري اقوى من كل قمع وابرع من حبل المعارف واوكارالمخبرين والمخبرات , كما كانت الثقافة قوة القوى او روحية القوة فسوف تبقى ابعد من القوة وفوق كل ثروة, مهما تنوعت الادمغة المستعارة لتخطيطها اوللإلهاء بفوائدها .. بلاشك ان القوة تختلف بإختلاف صانعها وحاملها, فالقوة التي يحملها الشعب من اجل الشعب كقوة الروح الادبي والانفاس الفنية لانها ابداع انساني من اجل الانسان , اما القوة من أجل القمع والسيطرة على الاخرين فقد يكون مشعلها اول رمادها .. مهما اختلفت المفاهيم والمقاييس فإن ابداع الفكر وعرائس الشعور فوق كل ثروة وابعد امدا من كل قوة , لانه العنصر السماوي في إنسان الارض والروح السماوية في أرضية الانسان.