الخدمة المدنية توقف مرتبات الموظفين غير المطابقين أو مزدوجي الوظيفة بدءا من نوفمبر    انتقادات حادة على اداء محمد صلاح أمام مانشستر سيتي    سؤال المعنى ...سؤال الحياة    برباعية في سيلتا فيجو.. برشلونة يقبل هدية ريال مدريد    بوادر معركة إيرادات بين حكومة بن بريك والسلطة المحلية بالمهرة    هل يجرؤ مجلس القيادة على مواجهة محافظي مأرب والمهرة؟    صدام وشيك في رأس العارة بين العمالقة ودرع الوطن اليمنية الموالية لولي الأمر رشاد العليمي    الأربعاء القادم.. انطلاق بطولة الشركات في ألعاب كرة الطاولة والبلياردو والبولينغ والبادل    العسكرية الثانية تفضح أكاذيب إعلام حلف بن حبريش الفاسد    غارتان أمريكيتان تدمران مخزن أسلحة ومصنع متفجرات ومقتل 7 إرهابيين في شبوة    إحباط عملية تهريب أسلحة للحوثيين بمدينة نصاب    العدو الصهيوني يواصل خروقاته لإتفاق غزة: استمرار الحصار ومنع إدخال الوقود والمستلزمات الطبية    عدن.. هيئة النقل البري تغيّر مسار رحلات باصات النقل الجماعي    الدوري الايطالي: الانتر يضرب لاتسيو في ميلانو ويتصدر الترتيب برفقة روما    دائرة الرعاية الاجتماعية تنظم فعالية ثقافية بالذكرى السنوية للشهيد    الشيخ علي محسن عاصم ل "26 سبتمبر": لن نفرط في دماء الشهداء وسنلاحق المجرمين    انها ليست قيادة سرية شابة وانما "حزب الله" جديد    فوز (ممداني) صفعة ل(ترامب) ول(الكيان الصهيوني)    مرض الفشل الكلوي (27)    فتح منفذ حرض .. قرار إنساني لا يحتمل التأجيل    الأمين العام لجمعية الهلال الأحمر اليمني ل 26 سبتمبر : الأزمة الإنسانية في اليمن تتطلب تدخلات عاجلة وفاعلة    الأستاذ علي الكردي رئيس منتدى عدن ل"26سبتمبر": نطالب فخامة الرئيس بإنصاف المظلومين    ثقافة الاستعلاء .. مهوى السقوط..!!    تيجان المجد    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    الزعوري: العلاقات اليمنية السعودية تتجاوز حدود الجغرافيا والدين واللغة لتصل إلى درجة النسيج الاجتماعي الواحد    الدولة المخطوفة: 17 يومًا من الغياب القسري لعارف قطران ونجله وصمتي الحاضر ينتظر رشدهم    سقوط ريال مدريد امام فاليكانو في الليغا    قراءة تحليلية لنص "مفارقات" ل"أحمد سيف حاشد"    الرئيس الزُبيدي يُعزي قائد العمليات المشتركة الإماراتي بوفاة والدته    محافظ العاصمة عدن يكرم الشاعرة والفنانة التشكيلية نادية المفلحي    الأرصاد يحذر من احتمالية تشكل الصقيع على المرتفعات.. ودرجات الحرارة الصغرى تنخفض إلى الصفر المئوي    في بطولة البرنامج السعودي : طائرة الاتفاق بالحوطة تتغلب على البرق بتريم في تصفيات حضرموت الوادي والصحراء    جناح سقطرى.. لؤلؤة التراث تتألق في سماء مهرجان الشيخ زايد بأبوظبي    تدشين قسم الأرشيف الإلكتروني بمصلحة الأحوال المدنية بعدن في نقلة نوعية نحو التحول الرقمي    وزير الصناعة يشيد بجهود صندوق تنمية المهارات في مجال بناء القدرات وتنمية الموارد البشرية    صنعاء.. البنك المركزي يوجّه بإعادة التعامل مع منشأة صرافة    اليمن تشارك في اجتماع الجمعية العمومية الرابع عشر للاتحاد الرياضي للتضامن الإسلامي بالرياض 2025م.    شبوة تحتضن إجتماعات الاتحاد اليمني العام للكرة الطائرة لأول مرة    الكثيري يؤكد دعم المجلس الانتقالي لمنتدى الطالب المهري بحضرموت    رئيس الحكومة يشكو محافظ المهرة لمجلس القيادة.. تجاوزات جمركية تهدد وحدة النظام المالي للدولة "وثيقة"    خفر السواحل تعلن ضبط سفينتين قادمتين من جيبوتي وتصادر معدات اتصالات حديثه    ارتفاع أسعار المستهلكين في الصين يخالف التوقعات في أكتوبر    كم خطوة تحتاج يوميا لتؤخر شيخوخة دماغك؟    أوقفوا الاستنزاف للمال العام على حساب شعب يجوع    عين الوطن الساهرة (1)    سرقة أكثر من 25 مليون دولار من صندوق الترويج السياحي منذ 2017    هل أنت إخواني؟.. اختبر نفسك    جرحى عسكريون ينصبون خيمة اعتصام في مأرب    مأرب.. فعالية توعوية بمناسبة الأسبوع العالمي للسلامة الدوائية    في ذكرى رحيل هاشم علي .. من "زهرة الحنُّون" إلى مقام الألفة    مأرب.. تسجيل 61 حالة وفاة وإصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام    على رأسها الشمندر.. 6 مشروبات لتقوية الدماغ والذاكرة    كما تدين تدان .. في الخير قبل الشر    الزكاة تدشن تحصيل وصرف زكاة الحبوب في جبل المحويت    صحة مأرب تعلن تسجيل 4 وفيات و57 إصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام الجاري    الشهادة في سبيل الله نجاح وفلاح    "جنوب يتناحر.. بعد أن كان جسداً واحداً"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مستقبلية الأدب.. والأدب المستقبلي:أدب المستقبل هو الذي لا يعطي أسراره من أول قراءة والحكم على هذا الأدب يصدر من داخله مستعيناً بالفترة الزمنية
نشر في 26 سبتمبر يوم 17 - 09 - 2019

عندما أصبح الشعر الجديد مستقر الأصول في الستينات وعندما انتقلت الرؤية من التقليدية إلى الفلسفية في الفترة نفسها, راجت أفكار لهذا الأدب وعليه, فردد التقليديون الذين توقفوا في الخمسينات على أن هذا الأدب الشعري الروائي غير مفهوم وكأن الأدب عندهم موضوع مفهوم كالصحافة فرد أنصار هذا الأدب على أنه فن المستقبل وأن إدراك مراميه وبنيته يتكشف من خلال النفس واستقرار قضايا العصر واستدعى هذا التجادل إلى قياس أدب هذه الفترة بآداب فترات سابقة, فالذي كان غير مفهوم في فترة أصبح مفهوماً مدروساً في فترة أخرى, فقد كان الكلاسيكيون في العشرينات والثلاثينات يستغمضون الأدب الرومانتيكي العربي, وفي الأربعينات والخمسينات تجلت قيمة الأدب الرومانتيكي وأصبح موضع البحث والإثارة, لان ذلك الفن الرومانتيكي نشأ عن فلسفة ثورية ضد التقليدية, وبرغم غلبة المدرسة الواقعية الجديدة, فإن الرومانتيكية الثورية ظلت من عناصر الواقعية الجديدة.
عرض/ المحرر الثقافي
هل الأدب المستقبلي هو الذي لا يسلم اسراره إلى قرائه في فترة انتاجه من اول قراءة؟
إن العمق والغموض الشفاف من لوازم الأصالة الابداعية, وان الأدب المكشوف المسطح لا يثير تساؤلاً ولا يمتلك حتى لحظة قراءته الأولى.
فمن هم الذي استغمضوا الشعر الجديد والرواية الفلسفية في الستينات؟
انهم الذين توقفوا في الخمسينات وتحرك الزمن من حولهم تاركاً اياهم عند تلك الفماهيم المزمنة بسنواتها, اما الذين تابعوا مسيرة الأدب ومجيء بعضه من بعض فرأوا في الرواية الفلسفية والشعر الجديد أدب المستقبل, لانه عبر عن الضروري ولم يقتصر على السائد من الافكار والظواهر من القضايا, ولقد صدق تنبؤ الذين سموا الأدب الجديد “فن المستقبل” لان قراء هذا الأدب واكبوا التحرك الاجتماعي والزمني واستيطان الفن لهذا التحرك, فظلت الرواية الفلسفية والقصيدة الجديدة أدباً للستينات نتيجة التطور الادبي والتطور الثقافي عند الجمهور, ولما أغرقت القصيدة الجديدة الرواية الفلسفية في عبادة الشكل وحده والانسياق وراء بريقه, استجدت في السبعينات شبيبية القصيدة العمودية, فرد البعض هذه الظاهرة الادبية إلى التراجع السياسي, ورأى البعض انها تنتسب إلى متابعة الاشكال بلا فلسفة, دون الممكن اجتماع السببين, فقد تسبب التراجع السياسي في احياء التقليدية الادبية كانعكاس للتقليدية السياسية, وبالاخص بعد خمسة حزيران 67 لكن هل هناك سبب آخر؟.
إن الحكم على الأدب يصدر من داخله مستعيناً بالفترة الزمنية, ومن المعروف ان الشعر العمودي الذي انتجته السبعينات مختلف النوع والروح, فهناك من مال إلى الشعر العمودي التوصيل الاكثر, نظراً للرجعية الثقافية التي صاحبت الرجعية السياسية, وهناك لون عمودي اراد تكريس التقليدية لذاتها.
من هنا تبدي ان أدب المستقبل أصبح موضع اختلاف في السبعينات, لان بعض الشعراء الجدد بدأوا ينتجون الفن العمودي بعدة اشكال, كما في كتاب “البحر” للبياتي ومجوعة “اعراس” لمحمود درويش, وفي هذه الفترة نفسها شجعت الانظمة المحافظة الشعر الجديد, فاختارت لمجلاتها الثقافية ولصفحاتها الادبية في صحفها السياسية اكثر الادباء معاصرة مثل “محمد الماغوط” في صحيفة “الخليج” ومثل الطيب صالح ورجاء النقاش في مجلة الدوحة.
فهل سقطت دعوة المستقبلية الادبية؟
وهل مستقبلية الأدب مجرد دعاية يمكن ان يقتادها غير المستقبليين؟..
لقد اثبتت التجارب الثقافية ان مستقبلية الأدب لا تكمن في الشكل الجديد ولا في الشكل الموروث وانما تكمن في مضمونه الثوري ونبوءاته الواقعية وبعد رنوه إلى المستحيل من خلال الممكن, ولابد ان يكون الغموض الشفاف والتعقيد التركيبي من لوازم الأدب المستقبلي ومن شروط مستقبلية الأدب في كل فترة من تواريخ الفنون القولية, لان ذلك الغموض الشفاف وذلك التعقيد اللغوي بفضل ما في الأدب من أفكار ومن قدرة فنية على اخفاء الافكار وعلى استيعاب عصر الفنان, وليست هذه مقصورة على أدب عصرنا وانما على اداب كل العصور ولعلنا اليوم اعرف بالادب الجاهلي من الذي عاصروه وجايلوا انشاء بدائعه, بفضل هذه الكثرة من الكتب والبحوث والندوات والمحاضرات حول الشعر الجاهلي.
فلماذا تزايدت الدراسة للشعر الجاهلي؟
هل تتوخى توضيح غموضه او شرح مفرداته؟.
انها تتوخى تفسير الثوابت الفلسفية التي انطلق منها الشعر الجاهلي وطاقته التعبيرية على الافصاح عنها, ومن المعروف ان الشعر الجاهلي كان ينطلق من فلسفة الشعور بالهشاشة ومحاولة مغالبة الكون ومراوغة الدهر والموت, حتى تمنى ابن مقبل لو ان الفتى حجر.
فهل كان للشعر الجاهلي جوانب غموض تعلو على فهم عصر.
لاشك ان القصائد التي انتجتها مرحلة نضج كل شاعر عصية الاسرار على كل المتلقين وانما يفهم كل متلق بمقدار نصيبه من الفهم والثقافية وبمقدار تتبعه نتاج الشاعر من اولى بواكيره, وبعد هذا يبقى من كل عصر جوانب كثيرة يستكنهها ويسير قاعاتها تفسير العصور التالية, فلكل أدب عظيم مستقبلية: اما توضح غموضه, واما تفلسف رؤيته, واما تمذهب مناهجه.. ولعل الذين شغلوا الدارسين هم الاوفر اصالة واكثر غموضاً بفعل الاصالة, فقد كانت تشبيهات “امرئ القيس” شغل النجاة والبيانيين والمدونيين في القرن الثالث والرابع للهجرة , على ان تلك التشبيهات جماليات لغوية وقدرة اشتقاقية على حين لم تلفت تشبيهات “امرئ القيس” ادباء عصره, لانهم رأوها مجرد تشبيه شيء بشيء يشاركه في وجه او وجوه من المتشابهة, ولم يتبد هذا التشبيه كتفرد ابداعي الا بعد ثلاثة قرون من موت “امرئ القيس” فهذه مستقبلية الابداع او ضرب واحد من مستقبليته كذلك حكميات زهير فلم تكن في عصره طيعة الاسرار لكل سامع وقارئ, وانما تبدت كأصول عقلية في فترة ازدهار العقلية الاعتزالية, كالشعر الجاهلي شعر العصر الاموي فقد كانت الاضافات إلى الصور الجاهلية والبناء على تقاليدها المع البراعات الفنية, ولما تلامع مجددون انكرهم ادباء عصرهم من امثال الشاعر الحساس: ذو الرمة فقد كانت تشبيهاته وغرابة تركيبه تثير الانتباه وتعلو على الرؤية التنويعية, حتى قيل في اشعار ذو الرمة اغرب الاوصاف فتارة وصفها بتنقيط العروس وتارة ببعر الظباء وتارة برياحين البساتين, لان هذه الاشعار كانت تروع وقت سماعها او قراءتها, ثم يقصر سامعوها وقراؤها عن سر فهمها, فيعتبرونها خالية من اي مضمون مثير, فوصفوها بنقط العروس التي تروق في اول رؤية ثم تنمحي بمرور ليلة او ببعر الظباء التي يخفت عبيرها بحدوث جفافها, او برياحين البساتين لانها سريعة الذبول, كان هذا مفهوم ادباء العصر الاموي في غرابة شعر ذو الرمة, ولم يكد ينسلخ عصر من موت ذو الرمة حتى اكتشف نقاد العصر العباسي وشعراؤه قية ذو الرمة وجودة ابداعه.
فهل كان ذو الرمة غير مفهوم في عصره؟
كانت قصائده العادية والتي لا تتجاوز المفهوم السائد شهيرة في زمانه كأمثالها من الشعر العادي وعندما اوغل هذا الشاعر في التفنن الابداعي تجاوز عصره الى مستقبلية أدبه, فاصبح موضع الإعجاب عند المولدين فحذا حذوه العتابي وابن تمام حتى تكونت المدرسة التهامية في البديع وبالمدرسة التهامية تألقت مستقبلية شعر ذو الرمة لكي تغصن منها مستقبلية ابي تمام.
فلماذا لا يحظى امثال جرير والفرزدق بمستقبلية ذي الرمة هل كان قل شهرة منهما في عصره ولم يحقق غير المستقبلية؟ وانما الذي ادهش منه هو منه هو ذلك التركيب وتلك الاستعارات من مثل قوله: “واجدع انف الكبرياء عن الكبر” فهذا الذي استغمضه اهل زمانه هو الذي حببه الى ادباء العصور ودارسي اللغة, ايام كان يهتم الدارسون بسر الاعجاز في اللغة وعناصر الابداع في تركيبها, فلابد ان يتفوق الاديب المبدع على جملة اهلة بيئته لكي يكون ادبياً مستقبلياً لا يملك عصره منه الا بواكير اعماله واقل بديعاته الفنية.
هكذا قبل التدوين ثم زاد هذا المفهوم ازدهار باتساع الثقافية التاريخية والفلسفة وربما كان الشاعر المفهوم في عصره او عند اكثر اهل عصره مضحياً لمستقبله او ضحية وضوحه المتناهي ولعل اقرب مثل هما البحتري وابو تمام فقد كانت اشعار البحتري تعتمد على الديباجة البيانية انس الموسيقي والمعاني القريبة المأخذ, فاشتهر البحتري في الاوساط الفنية والبيئات الادبية التقليدية اكثر من ابي تمام لانه اعتمد اللفظ السهل للمعنى السهل عن منهج تقليدي كقوله في رسائل الزيات:
حزن مستعمل الكلام اختياراً
وتجنبن ظلمة التعقيد
وركبن اللفظ القريب فأدركن
به غاية المرام البعيد
لكن من يهتم اليوم باشعار البحتري كاهتمامه بغرابات ابي تمام وفكريات المتنبي وفلسفيات المعري؟.
ان البحتري شاعر ما في ذلك شك ولكنه لم يحقق من الهم المستقبلي ما حققه شعراء التعقيد الفكري او شعراء المعاني كما كان يصنفهم القدامى.
فهل كان هؤلاء الشعراء مغمورين في زمانهم؟
لقد كانوا من المشاهير بفضل بواكيرهم او بنتاج السنوات الاولى من اعمارهم الفنية كان أبو تمام يبدو واضحاً في اكثر ابيات قصيدته ثم يشغل الاذهان ببعض ابيات من كل قصيدة نتيجة الفوضى في المعاني والتجنيس في التركيب والاستنباط لكي تنطوي الفكرة في غمار الشعر حتى قال ابن عربي في شعر ابي تمام: اذا كان هذا شعراً فكلام العرب كله باطل فما سر هذا الانكار على شعر ابي تمام؟.
لعل السبب انه تجاوز المألوف من الاستشعارات والتشبيهات في عديد من الابيات وجانس بين دخائل النفوس وضمير المشهودات, من المثل هذا النص:
فكأنما قلبي بمخلب طائر
وكأنما عللته بطلاء
ألف الأسى وكأنما بين الأسى
قرب وبين غوامض الاحشاء
فالبيت الاول من الاستعارة المألوفة والبيت الثاني مولد منها وتلك هي عبقرية شعر التوليد.
لهذا اشتهر ابو تمام في عصره بشعره السهل من مثل قوله:
وان أقبح من تشكو إليه هوى
من كان أحسن شيء عنده العذل
واشتهر في العصور التي تليه بشعره الغريب الذي استغمضه معاصروه من مثل قوله:
وضربت الشتاء في اخدعيه
ضربة صيرته عوداً ركوبا
فكان شاعر عصره وقدوة شعراء اربعة عصور حاولوا تقليده وتفصيل اجماله وولدوا من توليده حتى وقعوا في التجنيس عن غير فكر تماميه اما ابن الرومي معاصر ابي تمام فلم يحقق شهرة في عصره تساوي تفوقه الابداعي او تقرب منه وانما تبدى شعره او اكثر مستغرباً نتيجة تبسيطه وتفصيله وتجسيده للمعنويات وتشخيصه للأشياء حتى قال الوزير المهلبي في احدى قصائد ابن الرومي: انها دكان بطيخ لأنه رمز الى الحسن الانثوي بالحسن الطبيعي في الغصون واثمارها وشبه في قصيدة اخرى حفيف الاغصان بالتناجي بين الاحباب:
هبت سحيرا فناجى الغصن صاحبه
سراً بها وتشاكى الطير إعلانا
ولم يشتهر من شعر ابن الرومي في عصره الا اقل وبالأخص الذي يتناول وصف المأكل والمشارب وصخب العربدة او ما يتصل بالتشبيه والاستعارة حتى توليده في الهجاء الذي تفنن فيه ولم يشهره الا على انه مجرد شاعر هجاء كالحطينة او دعبل على حد قول المعري.
لو انصف الدهر هجا نفسه
كأنه الرومي او دعبل
اذن فلم يتجاوز ابن الرومي في عصره مكان الشاعر العادي حتى كشفت ثقافة عصرنا جوانب عبقريته فصدر عنه الى الان نحو ستين كتاباً وبحثاً اهمها كتاب ابن الرومي حياته من شعره للعقاد ابن الرومي لعلي شلق.
فما هو الفن المستقبلي في شعر ابن الرومي؟
انه تعبيره عن كادحي الشعب كقصيدة: قالي الزلابيا, الخيال, عنت الدهر.. ثم ان ذلك الإبداع كان مرتبطاً على فلسفة من أمثال هذا البيت:
لولا علاج الناس أخلاقهم
اذن لفاح الحمأ اللازب
ثم ان شعر ابن الرومي انتظم نقائض عصره بكل ما فيه من جدل ديني وصراع سياسي فما أكثر البديعات الرومية التي فلسفت صراع الطين والنور في الانسان واقتحام المتسلطين على المتسلطين في عصره مضحين بالاتباع الفقراء فلا تخلو اعظم قصائده من هذه الرؤية الفكرية.. بعد ابن الرومي المتنبي فقد تجاهله اكثر ساسة عصره وأدباءه وكان هذا التجاهل دليل خطورته وعلى وفرة اعدائه فد شغل بشعره المعادي والموالي وربما كان اكثر اقلاقاً للأعداء واعنف اثارة للخصومات ولما التفتت الدراسات الى المتنبي من منتصف القرن التاسع عشر إلى الآن, كادت الدراسات أن تجمع على أن أجود شعر المتنبي ستة عشر قصيدة قالها في سيف الدولة وظل هذا المفهوم سائداً حتى وضع طه حسين كتابه مع المتنبي فاعتبره في المرحلة الأولى من شعراء القرامطة وفي المرحلة الثانية شاعراً فاق سابقيه ومعاصريه وفي المرحلة الثالثة شاعراً مختلفا عن مرحلتيه السابقتين لانه في المرحلة الثالثة شاعر الحزن والوجدان العكيم ورأى شعر المرحلة الأخيرة ابداعاً مختلفاً عن ابداع ما قبلها وليس متخلفاً عنها وكان في شعر المتنبي كله تحليق خيالي وغموض فكري وتعقيد إبداعي .. فكانت هذه النماذج مثار الخصومات والطعن على شاعريه المتنبي في عصره وكل التي كانت تسمى نقائصه في عصره أصبحت مزاياه في ضوء الثقافة المعاصرة لان الشعر الذي تجاوز به عصره كون مستقلية أدبه فكما شغل الاصدقاء الخصوم في عصره شغل كتاب العصر بسعة افاقه وثقاتة تجربته وفلسفته الدموية حتى توالت فيه المؤلفات إلى ان تجاوزت المائة من البحوث والكتب.
فهل كان المتنبي شهيراً في عصره كشهرته اليوم؟
لقد كان زوبعة عصره كما أنه موضع تفكير عصرنا لأنه إبداع لعصره ولمستقبل العصور وربما أعانتنا مقاييس أدب اليوم على فهم أدب الأمس والغد لتشابه جملة الجماهير على اختلف أزمنتها فقد أن الأوائل يعجبون بالشعر السهل والتعبير القريب المآخذ والمعنى الأدبي إلى الذهن حتى قالوا: أحسن الشعر مالاً يحوجك إلى السؤال عن معناه, أما الأوربيون فيقولون: أجود الأدب هو الذي يعلمك كيف تفكر ويشبه هؤلاء الأوربيون بعض النقاد العرب القدامى إذ فطن إلى هذا المفهوم الجرجاني في كتابه الوساطة ما من شعر جيد إلا وهو متعسر المعنى يحتاج الى كد الذهن واجهاد الخاطر فالجرجاني مثقف جاد يعرف ان الفن اسهل اقرب إلى حكايات الأسواق وكتابات الصحافة.. فمرض متابعة السهولة يصيب كسالى العقول في كل عصر فلا يعرفون من انتاج كل اديب إلا التجارب الأولى فاذا سألت القارئ المصري العادي عن أهم روايات نجيب محفوظ فسوف يعدد لك عناوين وآياته التقليدية: بداية ونهاية زقاق المدق خان الخليلي وربما وصل إلى الثلاثية: ولا يتجاوز القارئ العادي نجيب محفوظ حدود الثلاثية لأنه لم يتمكن من متابعة تحوله الفلسفي في رواياته الفلسفية من أمثال: أولاد حارتنا ثرثرة فوق النيل الشحاذ ماري مار.. أما المجاميع المثقفة التي تواكب الأديب خطوة خطوة فتجاريه إلى اخر الشوط فاذا سألت المثقف الحقيقي عن أهم روايات نجيب محفوظ فسوف يبدأ من اخر رواياته لأنها موسم نضجه وخلاصة تجاربه وما وقع فيها من غموض أو اختلاط في المواقف فبفضل تطور الروائي وتطور فن الرواية ومتابعة المثقف الجاد لهذه الاطوار المتتابعة فهذه الروايات المعتمدة على التحليل والحوار النفسي هي أدب المستقبل ولن يرجع الذي يكتب عن نجيب محفوظ في الثمانينات إلى قصصه التاريخية ورواياته التقليدية إلا لكي يجاري مجرى تطوره اما سبب دراسته فهي الروايات التي لم يفهمها القارئ العادي أو لم يصل بها إلى مستوى رواياته المفهومة..
ومثل نجيب محفوظ الشاعر الذي يتطور داخلياً وتعبيراً عن الداخل فلا يمكن أن يرجع دارس أودنيس إلى مجموعته قصائد أولى إلا لكي يساير مسيرته الفنية من أول الشوط فالأدب المستقبلي هو الذي يعدد افاقه ويعطي العصور القادمة من الاثارة الفكرية اكثر مما اعطى عصره وقد لا يقصد الاديب هذا وانما قصدته اصالته لان المبدع لا يفكر في لحظات التماهي الفني لمن ينتج وكيف يستقبل الناس عنه ولأى جيل يكتب انما البديعات الفنية هي التي تنجب الادب المستقبلي من خلال استيعابها عصرها والمحاها إلى الاتي فهي تخلف مستقبلية ذلك الادب فهناك مستقبلية لكل أدب جيد كم أن كل أدب نضيج التجارب مستقبلي بالضرورة لأنه يهتم بالضروري من حنين الناس وبالأهم من صبوات العالم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.