كانت صنعاء حاضرة اليمن الغير سعيد في ساعة متأخرة من ظهر يوم الثلاثاء الحادي عشر من شهر أكتوبر 1977 م على موعد لم تكن تتوقعه مع جريمة بشعة مكتملة الأركان طالت حياة الرئيس الشهيد إبراهيم محمد الحمدي وشقيقه القائد العسكري البارز عبدالله الحمدي واثنين آخرين من مساعديه في حادث أكتنفه الكثير من الغموض وأثير حوله جدلا ولغطا كبيرين استمرا حتى اليوم. وقد كان لهذه الجريمة المروعة التي نفذت على أيدي قتلة محليين مأجورين مقربين من الرئيس الشهيد وبتخطيط وتمويل سعودي مباشر وبتنسيق عال مع أطراف وجهات إقليمية ودولية عدة بينها أجهزة استخبارات عالمية .. كان لهذه الجريمة الغادرة أثرها الكبير على كل اليمنيين الذين أحبوا الحمدي وارتبطوا به وبمشروعه الوطني الرائد لبناء الوطن والنهوض به ورأوا فيه بارقة ونافذة الأمل التي تتيح لهم الولوج إلى غد أكثر اشراقا وأحسن احوالا ولمسوا منه وفيه صدق النوايا والأقوال والأفعال إلى جانب الجدية والإخلاص والوطنية والوفاء التي جسدها الشهيد الحمدي وأكدها فعلا من خلال حرصه وإصراره على تحقيق طموحاتهم وأهدافهم في بناء الدولة اليمنية الحديثة التي شرع ببنائها في فترة وجيزة على أرض الواقع ولم يمهله قتلته من استكمال بنائها حسب الخطط التي أعدت لذلك. وكان لجريمة اغتيال الحمدي بتلك الطريقة والإسلوب الهمجي في مأدبة غداء دعاه إليها القتلة الغادرين في منزل سيئ الذكر المقدم أحمد حسين الغشمي بصنعاء وقعها العظيم على أبناء اليمن جميعا في شماله وجنوبه. بل إن نبأ اغتيال الحمدي قبل 42 عاما وقع على رؤوس اليمنيين كالصاعقة التي أتت فجأة وبلا مقدمات على تحطيم كل شيئ وبعثرت كل احلام اليمنيين ومطامحهم المشروعة في ساعة غدر لن تنتسي من الساعات والأيام والزمن والتاريخ !. ومن دون استثناء أدرك أبناء اليمن بالإجماع ان جريمة اغتيال زعيمهم المحبوب الحمدي وفي مثل ذلك التوقيت والفترة جاءت لتحرمهم حلما جميلا كان الرئيس الشهيد قد شرع في تحقيقه وخطى خطواته الأولى في ادراك غاياته المتمثلة بإنجاز مشروع حضاري يستهدف بناء دولة مؤسسات يمنية حديثة جامعة شاملة لكل اليمنيين يسود الجميع في ظلها النظام والقانون وهذا ماكان ولا يزال يتعارض هنا مع اعداء هذا التوجه والمسعى ويهدد مصالحهم الشخصية الضيقة وهو ماحدا بمن يمثلون هذه المصالح التي تتصادم وتتعارض مع مصلحة الوطن العليا إلى التعاون مع الرياض شريكهم الأساسي في الإثم والتآمر على اليمن وصولا إلى الإسراع والتعجيل في تنفيذ جريمة اغتيال الرئيس الحمدي والتخلص منه والقضاء على مشروعه الحضاري والوطني في مهده على النحو الذي تم في حينه . وإن ظلت جريمة اغتيال الشهيد إبراهيم الحمدي التي قيدت ضد مجهول غامضة بالنسبة للكثيرين إلا أنها قد مثلت بإتساق مختلف الآراء استهداف ممنهج ومباشر لطموحات اليمنيين وتطلعاتهم وآمالهم وتوجهاتهم في عهد رئيسهم المغدور به في بناء يمن الغد يمن المساواة وتكافئ الفرص والعدالة الإجتماعية في ظل دولة مثلى تسود الجميع بنظامها وقوانينها ومؤسساتها. وقد عمل الحمدي في بداية عهده على استعادة الدولة واستردادها من مغتصبيها والأوصياء عليها بسلسلة اجراءات وخطوات عملية اتخذها وأزاح بموجبها عدد من الرموز من الزعامات القبلية والقيادات العسكرية النافذة الذين كانوا يمثلون مراكز القوى ويعتبرون دولة داخل الدولة ولم يتردد في اعفائهم من مناصبهم متخذا في ذات الوقت خطوات اصلاحية واجراءات احترازية جريئة و غير مسبوقة استهدف بها القضاء على فساد الفاسدين ومستغلي النفوذ والمناصب في السلك المدني والعسكري لاقت استحسانا وتأييدا من عامة الشعب وكان لها اثرها ومردودها الإيجابي السريع في اصلاح الكثير من الإختلالات التي كان يعاني منها الجهاز المالي والإداري للدولة وتنمية الإيرادات ورفع معدلات التنمية والإنتاج في فترة بسيطة . وقد اعتبر الكثيرين ممن تضررت مصالحهم من اصحاب مراكز النفوذ الذين استهدفتهم حركة 13 يونيو التصحيحية التي قادها الشهيد الحمدي استهداف مباشر لهم ولمصالحهم وهو مادفعهم بالتالي للعمل ولو بالخفاء لتقويض مشروع الحمدي والتآمر عليه واحباط مساعيه في استكمال هذا المشروع الذي كان يؤسس لبناء دولة حقيقية حديثة مستقلة ومتطورة غير منتقصة ولا منتهكة السيادة وصولا إلى التفكير بقتل صاحب هذا المشروع الوطني العظيم والتخلص منه بإغتياله غدرا وغيلة في يوم مشؤوم ترك في القلوب وفي العقول وفي ذاكرة اليمنيين الكثير من التساؤلات والحيرة والذهول بل والجراح التي لم تندمل بعد مع الألم والحزن العظيمين والشعور بالخيبة والحسرة والمرارة لفقد رجل ورمز وطني بحجم إبراهيم الحمدي. وبعد مرور 42 عاما على جريمة اغتيال الحمدي والإجهاز على مشروعه الوطني الذي تبناه وبالنظر والتأمل مليا في ظروف وملابسات تلك الجريمة النكراء وأسبابها ودوافعها ونتائجها وتداعياتها الكثيرة نجد مع كل ذلك أنه لامناص ولا مفر من الإعتراف والإقرار بجملة من الحقائق التي تتكشف كل حين عن الجريمة ومرتكبيها بعد سنوات طويلة من التغييب ومحاولة تغييرها وتزييفها واخفائها ومنها مايؤكد اشتراك جهات محلية وعربية واقليمية ودولية اجمعت كلها بدافع من الشعور بالخطر والخوف من تضرر مصالحها بفعل مايقوم به الحمدي في شمال اليمن من خطوات اصلاحية طغى عليها الطابع الوطني والنزعة الإستقلالية . ومع تعاظم استشعار تلك القوى بخطر الحمدي وما يمثله مشروعه الوطني من تجاوز للخطوط الحمراء بنظرها آنذاك اتفقت تلك القوى على خطة وضعتها واعتمدتها للتخلص من الرجل والقضاء على مشروعه وتجربته الفريدة في اليمن التي منحته حب وشعبية لم يحظ بها حاكم يمني من قبل بالرغم ان فترة حكمه القصيرة لم تتجاوز ال 47 شهرا . ومن جملة الحقائق التي تكشفت اليوم بعد مرور سنوات طويلة على جريمة يوم 11 أكتوبر 1977 م ما يفيد ويؤكد ضلوع السعودية ودورها المباشر في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي وتحمسها الزائد للتخلص منه والغدر بمشروعه . ويقال ان السعودية قد انفقت بسخاء ومولت جريمة الإغتيال بل واشرفت على تنفيذها خطوة بخطوة وهذا ماأكده حضور وتواجد ملحقها العسكري بصنعاء صالح الهديان آنذاك في مكان تنفيذ جريمة اغتيال الحمدي بمنزل المقدم احمد الغشمي الذي خلفه في الحكم ووجدت فيه الرياض ضالتها المنشودة في العودة مجددا لفرض وصايتها على اليمن والتدخل في شؤونه. بإختصار فإن نزعة الحمدي الإستقلالية وتوجهاته القومية وخطواته الوطنية الجريئة التي عززت موقفه في الداخل ونجاحه في فترة وجيزة وقصيرة جدا في استعادة الدولة والسيادة اليمنية والحرية والإستقلال بإصدار القرار الوطني دون الرجوع للخارج وتبني مشروع حضاري ووطني رائد لو تم انجازه حسب ماخطط له لكان حال اليمن غير ماهي عليه الآن .. كل ذلك وغيره من الأسباب والدوافع كانت كفيلة بالقضاء على رجل استثنائي وفريد كالحمدي وقد تجاوز بها الخطوط الحمر بالنسبة لخصومه وأعدائه السياسيين في الداخل والخارج. وقد ذهب الرجل رحمة الله تغشاه وذهب معه مشروعه الحلم في رفع شأن اليمن دولة وشعبا ووطنا ولم يتبق من تجربة الحمدي الرائدة إلا الذكريات واحاديث الشجون الحسرى ووقوف النائحين عليها وعلى رجلها على الأطلال يبكون حلما جميلا تبخر واندثر في يوم عبوس مشؤوم الا وهو يوم 11 أكتوبر 1977 م والعزاء للشعب والوطن في فقيد غال قل ان يتكرر مثله!!.