سبق لي أن تطرقت إلى مضمون هذا المقال في عدد سابق وكنت اعتقد أن من أشرت إليهم ستتغير مواقفهم لاسيما بعد مضي ستة أعوام للعدوان على اليمن وشعبه العظيم والذي مازال مستمرا إلى اليوم وقد أصبحت الحقائق واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار ولكنهم مع الأسف الشديد ما يزالون مصرين على موقفهم المتصدر لمشهد التآمر على اليمن وتأييد العدوان عليه من فنادق الرياض ومن الداخل أيضا وهم من يعتبرون أنفسهم مثقفين من الذين يمثلون أيديولوجيات سياسية متعددة وكانوا يرفعون شعارات تقدمية إلى وقت قريب.. قومية واشتراكية وناصرية وأممية .. وكانوا يعلنون أنهم ضد العدو التاريخي لليمن وضد الامبريالية والرجعية قبل أن يرتموا في أحضانها وينضمون إلى صف العدوان مقابل ثمن بخس وهو ما يجعلنا نقول بتحسر : ان الشعب اليمني تعب ودفع دم قلبه من أجل تأهيل هذا المثقف أو ذاك وصرف عليه من الضرائب التي جمعت من عرق المواطن المغلوب ، ما كان يعتقد أنها ستحقق هدفه المنشود .. ولكنه لم يكن يتصور أن هذه الأموال ستذهب لإعداد مثقفين ومسئولين من نوع خاص امتزجت ثقافتهم بفكر تآمري واتضح أنهم بلا مبادئ - مع الاعتذار للشرفاء منهم - متحالفين مع وجاهات قبلية وعسكرية عرفت بعمالتها للاحتماء بها ولغرض فرض الوجود .. في وقت كان المجتمع اليمني بكل بساطته ونخبه يأملون فيه أن يكون لديهم مثقفين ومسئولين كما هي العادة يصبحون رواداً للعمل السياسي والثقافي والتربوي ويعملون على تنوير الآخرين لا أن يتحولوا إلى خشب مسوس لا يُتكأ عليه ولا يستوقد منه . مثل هؤلاء الذين تحولوا من نخبة كان يعول عليها الوطن والشعب للاستفادة منها إلى كارثة عليه وإلى نقمة أضافت إلى مشاكل البلد منغصات نوعية معززة بمعرفتهم بمكامن الضرر الذي وظفوه بكثير من الخداع والاحتيال والابتزاز وكأنها سهام مسمومة وجهت إلى صدر هذه الأمة دون رحمة أو اعتبار. إن هذا التمازج الغريب والمفزع بين المثقفين المتآمرين والفاسدين في الدوائر الحكومية وبعض الوجاهات القبلية المتخلية عن القيم الأصيلة للقبيلة واستبدالها بقيم نفعية مريضة ووقتية وارتباطها بالخارج قد ألحق ضرراً بالغاً بالوضع العام للبلد حتى لكأننا نحن المغلوبون على أمرنا قد وقعنا في فخ لا فكاك منه . وبدلاً من أن نطوّر المزايا الأصيلة للثقافة والسياسة وجدنا أنفسنا فريسة سهلة لمثقفي وسياسي هذا الزمن الأغبر ووجاهات الفيد العام فلا طلنا بلح الشام ولا عنب اليمن ولذلك فإن سعينا إلى بناء الدولة المدنية الحديثة في ظل هذا الوضع هو ضرب من العبث والخيال طالما بقي هؤلاء المثقفون وجلاوزة الساسة والمشايخ يتحكمون في مصير شعب جرّدوه من حوله وقوته وسخروه للتصفيق لهم من خلال تغييبه عن واقعه ويضاف اليهم الفاسدين في الدوائر والمصالح الحكومية الذين يستثمرون دماء الأحرار المجاهدين من أبناء الجيش واللجان الشعبية في مختلف الجبهات فيعبثون بمقدرات هذا البلد التي أصبحت محدودة جدا في ظل الحصار الاقتصادي المفروض من قبل دول تحالف العدوان . صحيح قد يقول البعض إننا شعب مرت عليه قرون طويلة وهو يبحث عن ذاته وهويته التي ضاعت في شعاب مجهولة ، وفي أروقة مسمومة للابتزازيين ولحمران عيون القصور على مر العصور .. وحتى الراهن من حياتنا الذي ابتلينا فيه بحمران عيون القصور الملكية الجديدة ولكن بكرفتات وبدلات «مدرن» حيث وصلنا إلى مسألة متفق عليها أن المثقف قد تحول إلى سوط ضد شعبه وهذا لا يمكن القبول به بدل من أن يكون صوتا لشعبه وشتان بين الثقافة واللقافة .. ونتيجة لما وصلنا إليه من حال لا يسر عدواً ولا صديقاً فإن أي بناء نحاول إقامته سرعان ما يتصدع مبكراً بسبب تنازع المصالح بين المتحالفين الذين أصبحوا يشكلون وجهان لعملة واحدة وهو ما يذكرني بقول شاعر اليمن الكبير الأستاذ عبدالله البردوني رحمه الله بأن السلطة الحقيقية في اليمن هي بيد المشايخ وأنهم الأقدر على تنفيذ أجندة الخارج ، وقد قال قصيدة رائعة حول ذلك ماتزال تعبر عن مأساتنا إلى اليوم أسماها : «الغزو من الداخل» ، وهو ما يتوافق مع وجهة نظر الدكتور حسن مكي رئيس الوزراء الأسبق في الحوار الذي أجريته معه ونشر في صحيفة 26 سبتمبر قبل وفاته رحمه الله حيث قال : إن ثوار 26 سبتمبر عام 1962 م استطاعوا أن يخربوا الجدار ولكنهم فشلوا في إعادة بنائه بسبب سيطرة المشايخ على مقاليد الأمور ويقصد أنهم نجحوا في القيام بالثورة وفشلوا في بناء الدولة الحديثة التي قامت الثورة من أجل تحقيقها بينما في الدول الأخرى يتحدثون عن المستقبل بثقة ويعتقدون أن ما سيأتي به هو الأفضل .. ونحن في اليمن كلما تقدمنا خطوة إلى الأمام نجد أن ما سبقها من خطوات كانت هي الأفضل . وإجمالاً نقول بثقة : أن حال اليمن لن يستقيم ولن يتحقق له إحداث تغيير حقيقي ما لم يكن هناك قصاص عادل من منظومة الفساد والمتآمرين واجتثاثها من السلطة نهائيا ليتمكن الشعب اليمني من بناء دولة مدنية ديمقراطية مؤسسية حديثة تجسد التغيير الحقيقي الذي ناضل من أجله الشعب اليمني طيلة اكثر من خمسة عقود ومازال يناضل حتى اليوم .. وبدون ذلك القصاص والاجتثاث فإننا في هذا الوطن ذاهبون إلى المجهول الذي لا أحد يدري منتهاه لاسيما أن تحالف العدوان على اليمن مصر على استمرار عدوانه البربري الذي لم يتوقف منذ ستة أعوام بهدف إشغال اليمنيين عن التفرغ لبناء دولتهم الوطنية الحديثة المستقلة بقرارها السيادي وغير الخاضعة لتبعية الخارج كما كان عليه الحال في العقود الماضية لاسيما بعد قيام ثورة 21سبتمبر الشعبية عام 2014م بإرادة يمنية خالصة ليس للخارج فيها أية تدخلات فأعادت للشعب اليمني اعتباره وحررته من الوصاية الخارجية وفي نفس الوقت أحيت أهداف ثورة (26سبتمبر و14أكتوبر) التي ظلت طيلة ما يقارب ستة عقود مصلوبة على الورق نتغنى بها اعلاميا ولم يتم ترجمتها على ارض الواقع .