تعب الشعب اليمني ودفع دم قلبه من أجل تأهيل هذا المثقف أو ذاك وصرف من الضرائب التي جمعت من عرق المواطن المغلوب، ما كان يعتقد أنها ستحقق هدفه المنشود ولكنه لم يكن يتصور أن هذه الأموال ستذهب لأعداد مثقفين من نوع خاص امتزجت ثقافتهم بفكر القبيلة - مع الاعتذار للشرفاء منهم - استعانة واستناداً إلى القبيلة للاحتماء بها أو لفرض وجود.. وقد كان المجتمع اليمني بكل بساطته ونخبه يأملون أن يكون لديهم مثقفين كما هي العادة يصبحون رواداً للعمل السياسي والثقافي والتربوي ويعملون على تنوير الآخرين لا أن يتحولوا إلى خشب مسوس لا يُتكأ عليه ولا يستوقد منه.. مثل هؤلاء الذين تحولوا من نخبة كان يعول عليها الوطن والشعب للاستفادة منها إلى كارثة عليه و إلى نقمة أضافت إلى مشاكل البلد منغصات نوعية معززة بمعرفتهم بمكامن الضرر الذي وظفوه بكثير من الخداع والاحتيال والابتزاز وكأنها سهام مسمومة وجهت إلى صدر هذه الأمة دون رحمة أو اعتبار. وهو ما يؤكد أن هذا التمازج الغريب والمفزع بين المثقفين والوجاهات القبلية - المتخلية عن القيم الأصيلة للقبيلة واستبدالها بقيم نفعية مريضة ووقتية - قد ألحق ضرراً بالغاً بالوضع العام للبلد حتى لكأننا نحن المغلوبون على أمرنا قد وقعنا في فخ لا فكاك منه.. وبدلاً من أن نطوّر المزايا الأصيلة للقبيلة وجدنا أنفسنا فريسة سهلة لمثقفي هذا الزمن الأغبر وقبائل الفيد العام.. فلا طلنا بلح الشام ولا عنب اليمن.. ولذلك فإن سعينا إلى الدولة المدنية الحديثة في ظل هذا الوضع هو ضرب من العبث والخيال طالما بقي هؤلاء المثقفون وجلاوزة المشائخ يتحكمون في مصير شعب جرّدوه من حوله وقوته وسخروه للتصفيق لهم من خلال تغييبه عن واقعه.. صحيح قد يقول البعض: إننا شعب مرت عليه قرون طويلة وهو يبحث عن ذاته وهويته التي ضاعت في شعاب مجهولة، وفي أروقة مسمومة للابتزازيين ولحمران عيون القصور على مر العصور.. وحتى الراهن من حياتنا الذي ابتلينا فيه بحمران عيون القصور ولكن بكرفتات وبدلات «مدرن» حيث وصلنا إلى مسألة متفق عليها أن المثقف قد تحول إلى سوط ضد شعبه - وهذا لا يمكن القبول به - بدل أن يكون صوت شعبه وشتان بين الثقافة واللقافة.. ونتيجة لما وصلنا إليه من حال لا يسر عدواً ولا صديقاً فإن أي بناء نحاول إقامته سرعان ما يتصدع مبكراً بسبب تنازع المصالح بين المتحالفين وهو ما يذكرني بقول شاعر اليمن الكبير الأستاذ عبدالله البردوني رحمه الله بأن السلطة الحقيقية في اليمن هي بيد المشائخ وأنهم الأقدر على تنفيذ أجندة الخارج، وقد قال قصيدة رائعة حول ذلك ماتزال تعبر عن مأساتنا إلى اليوم أسماها: «الغزو من الداخل»، وهذا يتوافق مع وجهة نظر الدكتور حسن مكي رئيس الوزراء الأسبق مستشار، رئيس الجمهورية في الحوار الذي أجريته معه مؤخراً ونشر الخميس الماضي في صحيفة 26سبتمبر حيث قال: إن ثوار 26سبتمبر استطاعوا أن يخربوا الجدار ولكنهم فشلوا في إعادة بنائه بسبب سيطرة المشائخ على مقاليد الأمور ويقصد أنهم نجحوا في القيام بالثورة وفشلوا في بناء الدولة الحديثة التي قامت الثورة من أجل تحقيقها. في الدول الأخرى يتحدثون عن المستقبل بثقة ويعتقدون أن ما سيأتي به هو الأفضل.. ونحن في اليمن كلما تقدمنا خطوة إلى الأمام نجد أن ما سبقها من خطوات هو الأفضل، وسأعود قليلاً إلى الوراء لأثبت من خلال ما شاهدته بنفسي بأن الماضي بالنسبة لنا كيمنيين كان هو الأفضل.. فعلى سبيل المثال: لقد عرفت العاصمة صنعاء لأول مرة عام 1976م في عهد الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي رحمه الله.. صحيح أن صنعاء في تلك الفترة لم تكن قد توسعت عشوائياً وأصبحت غابة من السلاح كما هي عليه اليوم، ولكنها كانت مدينة صغيرة جميلة ونظيفة حتى سكانها والوافدين إليها كان مظهرهم حضارياً وكانت ابتسامة الناس ترتسم على شفاههم تعبيراً عن السعادة ولا يُشاهد فيها مظاهر مسلحة، وحتى الفتيات كن يلبسن بالطوهات بحجاب إسلامي وسافرات الوجه.. وكان الشهيد الحمدي الذي يمثل رأس الدولة حينها يشاهده الناس في الشوارع يقود سيارته الفولكسواجن بنفسه ولا يوجد معه أي مرافق فيخرج الناس من دكاكينهم ليحيوه وهو يبادلهم التحية بابتسامة عريضة.. كان يوجد منتزه في التحرير أمام البنك اليمني للإنشاء والتعمير محاطاً بأشجار يبلغ ارتفاعها عشرات الأمتار يرتاده المسؤولون والمثقفون بما فيهم الأستاذ عبدالله البردوني، فيتحول هذا المنتزه إلى منتدى ثقافي، وقد تم القضاء عليه فيما بعد وقلع أشجاره بحجة أنه يذكّر الناس بعهد الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي.. أيضاً نادي ضباط القوات المسلحة في شارع الزبيري كنت أذهب إليه بعد الظهر فأجد الوزراء يلعبون كرة السلة وكثيراً ماكنت أشاهد الشهيد عبدالله الحمدي، قائد قوات العمالقة يأكل في مطعم النادي مع الناس العاديين ولا توجد معه حراسة.. وبالصدفة كنت في صنعاء حين جاء لزيارتها سمو الأمير سلطان بن عبدالعزيز وزير الدفاع والطيران في المملكة العربية السعودية آنذاك، فذهبت مع الجماهير لاستقباله وكان على رأس المستقبلين رئيس مجلس القيادة إبراهيم الحمدي، فحدثت مظاهرة بعد وصوله في جامعة صنعاء من قبل الطلبة - والتي كانت حينها الجامعة تتكون من أربع كليات فقط - احتجاجاً على ذهاب الحمدي إلى المطار لاستقباله وهو رئيس دولة بينما الضيف وزير.. فذهب اليهم الرئيس الحمدي وقال لهم: إن الدعوة كانت موجهة لجلالة الملك خالد بن عبد العزيز، رحمه الله، ولظروف خاصة لم يتمكن من أن يأتي بنفسه، فبعث نيابة عنه الأمير سلطان وذهبت لاستقباله في المطار احتراماً لجلالة الملك وقد اقتنع الطلبة وتوقفوا عن احتجاجهم.. وأذكر حينها أن الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر الذي كان معتكفاً في خمر طلب من الرئيس الحمدي أن يسمح له بالدخول إلى صنعاء للسلام على سمو الأمير سلطان، فاشترط عليه الرئيس الحمدي أن يدخل بلا مرافقين مسلحين، وفعلاً فقد شاهدنا سيارة الشيخ عبدالله ومعه السائق ومرافق واحد يحمل عصا بيده وبعد السلام على الأمير عاد إلى خمر. وحينما كنت أذهب إلى مدرسة سيف بن ذي يزن في فترة ما بعد الظهر لزيارة بعض أقاربي من الطلبة كنت أشاهد أولاد الرئيس إبراهيم الحمدي يدرسون في هذه الفترة الثانية ويلعبون مع الطلبة في ساحة المدرسة، ولا يوجد أي شيء يميزهم عن زملائهم، لا حراسة كما يفعل أولاد المسئولين اليوم، ولا زيّ خاص بهم ولا أحد ينتظرهم حتى خروجهم بل لم يكن أحد يعرفهم إلا من سأل عنهم.. فكان اليمنيون حينها سواسية كأسنان المشط لا فرق بين عامل ومسؤول.. وكانت أبواب الوزارات والمصالح الحكومية بما فيها القصر الجمهوري ومجلس الوزراء مفتوحة أمام الجميع ومن يريد الدخول إلى أي منها يسمح له ولا يسألون حتى عن بطاقته.. وكانت الشرطة العسكرية بمثابة بوليس مراقب على القوات المسلحة، فأي مواطن يتقدم بشكوى إليها ضد أحد أفرادها، أياً كان، جندياً أم ضابطاً تسبب في أذيته فإنه يتم القبض عليه ومعاقبته.. لكن مع الأسف الشديد انتهت تلك الأسس التي كان الشهيد الحمدي رحمه الله قد وضعها لبناء الدولة المدنية الحديثة بمقتله وعادت جمهورية القبيلة التي يديرها المشائخ لتتحكم في مصير اليمنيين ونهب خيراتهم وثرواتهم، فضعنا وضاعت الدولة وغابت قوانينها وما نعانيه اليوم ما هو إلا نتيجة تآمرنا على بعضنا. [email protected]