حسب الدستور اللبناني كانت شهر سبتمبر 1958م هي آخر اعوام حكم الرئيس اللبناني كميل شمعون إذ تنتهي فترة الست سنوات التي كان يسمح بها الدستور وهي غير قابلة للتجديد . وفي حديث صحفي اجراه شمعون مع إحدى صحف فرنسا حيث اكد : ( إنني لا أريد تجديد مدة رئاستي لكنني إذا لم أتأكد من وجود رئيس من بعدي قادر على تحمل مسئولية المخاطر الجديدة بلبنان فسوف أستجيب لنداء الواجب والوطن) . فكان هذا التصريح بمثابة القنبلة التي القيت على الشارع اللبناني فأثارت المواقف واشتدت المعارضة من الأحزاب وفي الصحف حتي أمر شمعون باعتقال أعنف وأشهر المعارضين لتعديل الدستور واعتقل الصحفي نسيب المتني فاندلعت المظاهرات احتجاجا على اعتقاله حتى افرج عنه وبعد ثلاثة أيام من الإفراج تم اغتياله في 8 مايو 1958م . فوصلت الأحداث إلى درجة الغليان واتحدت معظم الطوائف على مطلب أن يستقيل كميل شمعون وتتألف حكومة وطنية مؤقتة حتي يحين موعد الانتخابات بعد ثلاثة اشهر رفض شمعون الاستجابة لمطالب المعارضة وقام بحشد انصاره لمواجهة الأزمة وصارت البلاد على وشك اندلاع حرب أهلية ولم يكتف بذلك ففي 11 مايو ارسل شمعون رسالة إلى الرئيس الأمريكي ايزنهاور يحثه فيها على إنزال قوات امريكية إلى بيروت لحفظ الأمن فيها أحداث اقليمية طلب ايزنهاور فور تلقيه نبأ الثورة العراقية ان ينعقد مجلس الأمن القومي في مكتبه في الحال وفي ذلك الاجتماع تم استعراض اوضاع القوات الامريكية القريبة من الشرق الاوسط لتجهيزها فورا تحسبا لبدء التدخل الأمريكي بشكل عسكري مباشر . منهيا الاجتماع بقوله : ( إن الوقت أمامنا بالدقائق والساعات وليس بالأيام والأسابيع) قام بتكليف مجموعة عمل لتقديم له تقريرا مستعجلا عن التحرك المحتمل وتداعياته ففي نص التقرير جاء في احد فقراته ( ناقشت المجموعة الآثار المحتلة لتدخل الولاياتالمتحدة عسكريا في المنطقة فقد اهتمت اللجنة بصفة خاصة بطلب شمعون للتدخل في لبنان باعتبار طلباً رسمياً يعطي أساسا قانونيا للتدخل كما أن التدخل في لبنان يمكن أن يتم بدون مقاومة وهو ما يرجح ان يكون لبنان هو الاتجاه الأول لأي عمل عسكري ) . فما بين ليلة وضحاها صارت لبنان مهددة بالشيوعية وبالفتنة الطائفية وبالتدخل الناصري بشؤونها الداخلية كل تلك مبررات واهية شرعنتها امريكا لعدوانها العسكري الأول على لبنان منتصف 1958م . وهكذا مع تسارع الأحداث الإقليمية كالوحدة بين مصر وسوريا ومن ثم قيام الثورة العراقية في 14 يوليو 1958م ضد الملكية التي كانت إنذارا جادا باحتمالات سقوط الأردن ذات الموقع الاستراتيجي وصاحبة أطول حدود مع الكيان الصهيوني فسقوطها تهديد لأمن الكيان الصهيوني كذلك سيقود إلى سقوط السعودية المصدر الأهم للحصول على البترول في الشرق الاوسط بل وربما قيام انظمة جمهورية على ساحل الخليج العربي بدلا من الإمارات والمشيخات المتفرقة على طول الشاطئ .. ففي 15 يوليو 1958 م أصر الرئيس الأمريكي أيزنهاور أوامره بالتدخل العسكري في لبنان بعد أن شرع له مستشاروه القانونيون بأن يصف ذلك الغزو للبنان بعملية تمركز حتى لا يسئ للموقف الأمريكي امام الرأي العام والتي لا توحى بالغزو او الاعتداء . وفي اليوم التالي من العدوان على لبنان كتبت صحيفة "النيويورك تايمز" : ( لقد بررنا تدخلنا في لبنان بأنه استجابة لنداء شمعون ولحماية الرعايا الأمريكيين ... هذا من الناحية النظرية لكن في الواقع فعلنا ذلك لمحاصرة الثورة العراقية داخل حدود العراق ومنعها من الانتشار). العدوان الأمريكي جاء العدوان الأمريكي للبنان بدون موافقة من الأممالمتحدة أو تصريح منها بدأت تلك العملية الامريكية بمشاركة سبعين سفينة ومئات الطائرات وتم إمداد الحكومة المفروضة على الشعب والمفروضة منه بالأسلحة الأمريكية . وبحلول 25 يوليو وصل عدد القوات الأمريكية على أرض لبنان إلى أكثر من عشرة آلاف جندي وارتفع العدد إلى 14 ألف جندي في 13 اغسطس 1958م وهو ما كان يفوق آنذاك تعداد الجيش والشرطة في لبنان مجتمعين . وبدأت الطائرات الأمريكية تقصف شمال لبنان بالقنابل مما استدعى قائد الجيش اللبناني اللواء فؤاد شهاب لمقابلة مبعوث الرئيس الأمريكي الدبلوماسي روبرت ميرفي بمقر السفارة الأمريكية في بيروت يحذره فيها من ان الشعب اللبناني مستاء ومصمم على ضرورة استقالة رئيس الدولة شمعون ومغادرة القوات الأمريكية من لبنان على الفور وإلا فإن اللواء شهاب لن يكون مسؤولا عن العواقب خاصة وأن بعض ضباطه قد يتمردون ويبدأون في مهاجمة القوات الأمريكية. وخلال استماع ميرفي إلى تحذيرات اللواء شهاب قام من مقعده في هدوء واصطحب معه فؤاد شهاب إلى نافذة نهاية المكتب المطل على البحر المتوسط ثم أشار بإصبعه إلى حاملة الطائرات ساراتوجا الرابضة امام ساحل بيروت وقال في برود : ( إن أيا من الطائرات الموجودة على سطح ساراتوجا يمكن تحميلها بأسلحة نووية وانها قد تمحو بيروت وضواحيها من على الأرض في دقيقة واحدة ... وأن الحكومة الأمريكية قد أرسلته خصيصا إلى لبنان حتى يتأكد من عدم وجود ضرورة للقوات الأمريكية لأن تستعمل مثل تلك الأسلحة) . فأدرك قائد الجيش اللبناني اللواء شهاب أن مشكلة لبنان المتمثلة بإقالة رئيس الدولة لم يعد هي الأساس لتواجد القوات الأمريكية بسبب طلب الرئيس للتدخل الأمريكي فوطنه ادخل في ميدان الصراع الدولي بين الاتحاد السوفيتي وامريكا . فكان هذا التدخل الأمريكي الأول في لبنان لتعود بعد ربع قرن للتدخل مرة ثانية في الشؤون الداخلية للبنان آواخر عام 1982م وإن كانت تكلفتها باهظة بهذا التدخل والتي ذكرها بمأساتها بفيتنام . اوضاع لبنان تولى كميل شمعون عام 1952 م رئاسة جمهورية لبنان وكانت له علاقات خاصة بالولاياتالمتحدةالأمريكية وبالغرب عامة منذ انتخابه . وفي نهاية عام 1956م ظهر ذلك بوضوح اثناء العدوان الثلاثي على مصر فقد كان لبنان هو البلد العربي الوحيد الذي رفض قطع العلاقات مع بريطانياوفرنسا وقد لاقى ذلك معارضة شديدة من معظم الطوائف اللبنانية آنذاك . وفي ابريل 1957م منحت امريكا 10 ملايين دولار معونة اقتصادية خاصة للبنان مقابل انضمام لبنان في الكفاح ضد الشيوعية الدولية المتمثلة بالاتحاد السوفيتي . ومع قيام الوحدة في مطلع عام 1958م بين مصر وسوريا تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة تزايدت اهمية البلدان المجاورة لها بالنسبة لأمريكا . فالنفوذ السوفيتي كان موجودا في سوريا قبل الوحدة والمصريون على علاقات طيبة مع الروس . لذا جاء الحرص على كل من مملكتي العر اق والأردن والجمهورية اللبنانية خوفا من انجرافهم خلف التيار الناصري او الشيوعي . وفي مذكرات ايزنهاور حينما ارسل له الرئيس اللبناني شمعون بضرورة التدخل الأمريكي اعتبر ايزنهاور ان شمعون هو من تسبب في تفاقم الأوضاع بإصراره على مخالفة الدستور . ورغم ذلك وفي 21 مايو 1958 م اعلن كميل شمعون في تصريح مفاجئ انه لن يرشح نفسه لفتره رئاسية ثانية وتزامن تصريحه هذا مع شكوى قدمتها الحكومة اللبنانية إلى الأممالمتحدة تتهم فيها رسميا الجمهورية العربية المتحدة بإرسال متسللين وأسلحة عبر الحدود بغرض التدخل غير المشروع في شؤون لبنان .. مما استدعى الأممالمتحدة ان تكلف داج همرشولد السكرتير العام للأمم المتحدة بتشكيل قوة مراقبة للنظر في شكوى لبنان على أرض الواقع فارسل فريق المراقبة إلى منطقة الحدود بين لبنانوسوريا ليقوم بالتحري وتقديم تقرير إلى همرشولد ليقوم بعرضه على مجلس الأمن . وفي 18 يونيو 1958م التقي همرشولد في بيروت بفريق المراقبة وأسفرت التحقيقات التي أجراها الفريق واطلع عليه همرشولد عن عدم وجود دليل واحد يدين الجمهورية العربية المتحدة وفور الإعلان عن نتيجة التحقيقات اواخر يونيو 1958م بدأت حملة صحفية امريكية تهاجمه وتتهمه بالتخاذل . وفي فجر 14 يوليو قامت الثورة في العراق واطاحت بالملكية واعلنت الجمهورية عند ذلك اختلطت الأوراق ولم يعد ممكنا ان تتفرج امريكا على الشرق الأوسط وهو يتسرب بلدا بعد الآخر من تحت سيطرتها أو سيطرة حلفائها .