كلما حلّت علينا مناسبة عظيمة يحييها أبناء شعبنا اليمني العظيم بزخمٍ منقطع النظير، تجول وتصول في بالي مقولة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الإيمان يمان، والحكمة يمانية" ، ولكوني يماني أجدني أستغرق وأغوص في تفكيري العميق متسائلًا: هل الشعب اليمني هويته إيمانية أم أن الإيمان هويته يمانية؟! ومن الحقيقة بمكان أن الأمر سيّان، فالإيمان هويته يمانية، واليمني هويته إيمانية، وهو مؤمن وحكيم بطبيعته وفطرته التركيبية، ولعلّ هذا العطاء العظيم والمبارك من الله -سبحانه وتعالى- ورسوله -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين- لليمن وأهل اليمن لطالما استوقفني كثيرًا، ولربّما أعادني إلى التأريخ القديم إلى زمن أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم -عليه السلام- يوم أسكن ابنه إسماعيل -عليه السلام- وزوجته هاجر في وادٍ غير ذي زرع عند بيت الله المُحرّم، حيث أخبرنا الله في كتابه على لسانه قوله:[ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] ، ولم تكن تلك الأفئدة من الناس إلا قبيلة جرهم اليمنية التي قدِمت إلى مكة وسكنت فيها. فأيُّ اختصاص هذا الذي اختصّ الله -سبحانه وتعالى- به أهل اليمن؟! وليس ذلك فحسب، بل إن الله -سبحانه وتعالى- لمّا أراد أن تكون يثرب المدينةالمنورة هي مهجر سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أوحى إلى التُّبَّع اليماني أن يسكن قبيلتي الأوس والخزرج في يثرب ليكونوا فيما بعد "الأنصار" أنصار رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وأنصار دين الإسلام من بعد أن خيّبت قبائل الطائف ظن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فيهم. وهم الذين نصروا رسول الله والمهاجرين الذين معه وآثروهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وهم الذين بهم بدأت تنطلق راية الدين الإسلامي إلى أن نصروه فكان الفتح العظيم لمكة وتبعته بقية الفتوحات الإسلامية. فأيُّ فضلٍ عظيمٍ هذا الذي مَنَّ الله به على أهل اليمن؟ وأيُّ اصطفاء هذا الذي أكرمهم الله به؟! .. ولمَّا جاء الوقت الذي أراد فيه سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يرسل رسله إلى اليمن لدعوة الناس إلى الإسلام وتعليمهم دين الله، أرسل إلى منطقة "الجند" - التابعة الآن لمحافظة تعزاليمنية- الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه وأمره ببناء مسجدٍ في الجند والذي يعرف اليوم بجامع معاذ بن جبل، وأرسل إلى منطقة "تهامة" اليمنية أبو موسى الأشعري، وأرسل إلى "حضرموت" مالك الحضرمي، وأرسل إلى "همدان الكبرى وصنعاء وما حولها" خالد بن الوليد، لكن سرعان ما عاد خالد بن الوليد خائبًا من بلاد همدان وصنعاء وما حولها، وهنا أدرك سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أن "همدان الكبرى وصنعاء وما حولها" تحتاج إلى رسولٍ يكون منه كنفسه، فكان الإمام علي بن أبي طالب -عليه السلام- صاحب هذه المَهمَّة التي لا يقدر عليها ولا يفهم همدان وقبائل اليمن سواه، ولا يمكن أن تفهم هذه القبائل إلا الإمام علي سلام الله عليه، فأوكل سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إليه هذه المَهمَّة وأرسله من فوره، وأمره ببنا مسجد في صنعاء ، وأمره بأن يجعل قبلته إلى جبل ضين ويسمى اليوم بالجامع الكبير بصنعاء فلمّا وصل إلى بلاد همدان وأرحب وصنعاء فهمه الناس وأدركوه المراد الذي جاء به فآمنوا له وأسلموا على يديه، وعند دخوله صنعاء -في سوق الحلقة الذي لا يزال اسمه ومسجده التراثي قائمًا إلى اليوم- اجتمع بالقبائل اليمنية الذين تداعوا من كل مكان وأبلغهم كتاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وسرعان ما استجابوا له وأسلموا جميعٍا لله سبحانه وتعالى. وفي أول جمعة من شهر رجب الحرام أعلن اليمنيون إسلامهم ودخولهم في دين الله أفواجا ، هذا الشهر الذي له قدسيته وله حرمته عند الله سبحانه وتعالى، ولأنه كذلك فقد خصّ الله اليمنيين بهذا الشهر العظيم حيث من خصوصيته وفضله عند الله خصّه الله بتسبيح خاص به، ولا يقال إلا فيه، وهو من تسابيح الألوهية، وقد تعلمناه من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وآل بيته الأطهار، حيث يقول المسلم فيه مسبحًا لله سبحانه وتعالى: "سبحان الإله الجليل، سبحان من لا ينبغي التسبيح إلا له، سبحان العزيز الأكرم، سبحان من لبس العزة وهو له أهل". إنه شهر الله الحرام الذي جاء منفرداً عن الأشهر الحرم الأخرى، ففيه ليلة المسرى، وكان سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يصومه مع شهر شعبان ومن ثم رمضان شهر الصوم والإحسان، وهذا دليل على فضل هذا الشهر العظيم. وعلى مدى التأريخ ظلّ أبناء الشعب اليمني بكل أطيافهم ومذاهبهم يحتفلون في أول جمعة من هذا الشهر العظيم من كل عام، ويحييون هذا اليوم بالذكر والتسابيح والشكر لله على نعمائه عليهم تخليدًا لذكرى إسلامهم وذهابهم جميعًا مع الإمام علي -عليه السلام- إلى المدينةالمنورة للقاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويوم بلغ الخبر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بمقدمهم إليه كبّر وسجد لله شكراً، وبوصول هذه القبائل إلى المدينةالمنورة نزل جبرائيل الأمين عليه السلام بالوحي من الله سبحانه وتعالى بقوله تعالى: [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ○ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا ○ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]. فلم يكن هذا الاختصاص وهذا الفضل العظيم الممنوح من الله -سبحانه وتعالى- ورسوله لأهل اليمن؛ إلا لأنهم كانوا السبّاقين إلى دين الله، والمدركين لعظمة هذا الدين، فسرعان ما آمنوا به وأسلموا لله بالعقل دون أن يحتاج رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى السيف لقتالهم. ولم يكن الاصطفاء الربّاني للإمام علي -عليه السلام- بالمجيء إلى هذا البلد ودعوة هذه القبائل إلى الإسلام إلا لكي يكون هؤلاء العظماء هم أنصار دين الله -سبحانه وتعالى- في آخر الزمان، فهم الآن يمثلون أنصار سبط رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وحفيد الإمام علي سلام الله عليه، وهم الناهضون بالمسيرة القرآنية التي ستعيد دين الإسلام ومنهج القرآن إلى واقع الأمة نصرةً لِعَلَم الهدى سبط رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في مواجهة الطغاة والمستكبرين والظالمين، وفي مواجهة فرعون هذا الزمان ونصرة دين الله، هم من سيتحملون كل هذه المعاناة التي مازال يتحملها الشعب اليمني جرّاء هذا العدوان الآثم والحصار الظالم، الذي ما كان إلا لطمس هذه الهوية التي شرف الله بها هذا الشهر وهم من سيُغرِقون فرعون هذا الزمان في قعر البحر بقيادة علم الهدى وقرين القرآن سبط رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وحفيد الإمام علي عليه السلام، وهم من سيعودون بدين الإسلام إلى واقعه الحقيقي كما جاء وكما كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم من سيحملون الرسالة والمنهج على عواتقهم وسينهضون به وسيتحركون به؛ لتملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلمًا وجورًا.. وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.