لا تقتصر الظاهرة على تلك المناطق فحسب إذ إن الجغرافيا المفاهيمية السائدة لم تشهد تغيرًا كبيرًا عمّا كانت عليه قبل الثورة وكما في السابق لا تُبدي القبائل رفضًا صريحًا لهذا النموذج البديل ولا يبدو أن لديها رغبة في ذلك ومن أبرز ما ورد في مقالات المثقفين والصحفيين حيث وضح اتفاق المشايخ أن هذه ظاهرة شريرة وإجرامية وإنها قديمة جدًا لا سيما في المناطق الشرقية والشمالية لكنها تضعف أو تتلاشى حين تكون الدولة حاضرة وقوية وتظهر من جديد حين تغيب السلطة أو تضعف ولو أن الدولة كانت قائمة بدورها وقت ارتكاب الجرائم وقامت بالقبض على الجناة وإنزال العقوبة بهم لما اضطر الناس إلى الانتقام من الأبرياء ، المشكلة تكمن في غياب الدولة عن بعض المناطق حيث لا توفر الحد الأدنى من الأمن وهنا تتداخل الممارسات القبلية مع هذا الغياب حتى لتبدو وكأنها انعكاس مباشر له ومع ذلك فالدولة نفسها تمثّل مصلحة من اختير لتمثيل القبائل فبينما لغة القبيلة تختلف عن لغة الدولة كما كان الحال في العصر الإمامي فإن الشخصيات السياسية التي تتقن اللغتين تجد نفسها مضطرة إلى الموازنة بينهما تبعًا للسياق والموقع ويزداد هذا التحدي مع تنامي الروابط بين المواطنين سواء عبر السفر أو الإعلام أو الاقتصاد النقدي مما يُحتّم نوعًا من التوفيق أو المفاضلة فإما أن تُدمج اللغتين بحيث تهيمن إحداهما على الأخرى أو يُفصل بينهما كليًا كما حدث خلال حكم الحمدي أو تُهمل لغة القبيلة تمامًا وهو ما يدعو إليه بعض الحداثيين. لكن في النهاية لا يمكن للغة الدولة والأمة أن تظل راكدة؛ فهي لغة متحركة بطبيعتها ولا بد لها من التطور وفي الفصل الخامس ناقشنا إحدى الركائز المفاهيمية السابقة للحداثة وهي تلك التي تُعنى بالمبادئ التي تحكم العدالة حيث يعتبر دائما رد الفعل في المجتمع ليس مجرد تفاعل بل يقف فوقه كما هو الحال في أماكن أخرى فإن اليمن شهد تحولًا في تفكير الناس فتحركت عقول الرجال على الرغم من أن ذلك لم يشمل الجميع بالطبع، لكن كان عددهم كافيًا ليكون له تأثير ملحوظ وكانت الفكرة السائدة هي أن المجتمع هو قاضي نفسه وسيده وتظل القومية المفهوم الموجه والمرشد الرئيس ، والطاقة التي تولدها الأغاني والتعبيرات القومية تظل أصيلة تمامًا ومع ذلك كما يقول احد الباحثين في الشأن اليمني بنبرة أكثر عمومية: القومية ليست في حد ذاتها نظامًا من المبادئ الذي يمكن من خلاله تنظيم الدولة أو المجتمع وبالتالي يجب أن تعتمد على أفكار أخرى يمكنها جذبها واحتضانها و البديل لذلك هو أن تصبح القوة هي القيمة الوحيدة المسيطرة ويبدو أن المضي قدمًا باتجاه نجاح ملموس يتطلب التفكير العميق في أهمية الماضي وفي هذا السياق نجد العديد من علماء الاجتماع اليمنيين قد تناولوا هذه القضية من بين المؤرخين ويعتبر عمل علي محمد زيد مثالًا على التأريخ الجديد، تأريخ لا يرتبط فقط بسلسلة من الأحداث أو مجموعة من القيم المتشابكة التي يُعتقد أنها ثابتة بل إنه يتساءل عن الماضي من منظور الحاضر ويقوم بفحص القيم الحالية في هذه العملية ، يكتب زيد عن ماضي التقاليد الزيدية المتعلمة في حين أن المهتمين بالقبائل من المؤرخين الذين تناولوا الشأن اليمني والقبلي بصورة خاصة يركزون بشكل أكبر على الحاضر ومع ذلك من المحتمل أن تتلاقى مجموعتا الاهتمام هذا في تحديد هوية التراث أو التراث الوطني وذلك في محاولة لحل مفارقة تتعلق بالممارسة القبلية التي تؤثر بشكل عميق في الشؤون المعاصرة التي تُعتبر في نظر كثيرين جزءًا من عصر مضى . مُنذ أكثر من خمسة عشر عامًا كما ذكر في الفصل الأول كان بإمكان علي صبرة أن يكتب عن المجتمع القبلي وخصائصه معبرًا عن قلقه الكبير بشأن مكانة القبلية في تاريخ البلاد ولكن رغم ذلك اضطر إلى قبول فكرة أن المجالس القبلية تمثل أساس الديمقراطية العربية الأصيلة وإن كان ذلك لأسباب شبيهة بتلك التي ذكرها العالم البريطاني توماس هوبز حيث اعتمد على نظرية العقد الاجتماعي في تحليل المجتمع فالموقف الفردي والمساواة الأخلاقية بين أفراد القبيلة وحبهم للعنف والاعتزاز به كلها عوامل حددت تأثير الفرد داخل المجتمع إلى حد كبير حيث العقد الاجتماعي، في جوهره، هو اتفاق بين مجموعة من الأفراد على التخلي عن جزء من حريتهم الطبيعية لصالح الإرادة العامة دون أن يتنازلوا بالكامل عن حريتهم لكن الواقع كما تبين لنا أكثر تعقيدًا بكثير فالتجنب والتلميح في بعض الأحيان لا يقلان أهمية عن الخلاف الصريح الذي يدور مسار الصراع في المجتمعات القبلية حول مجموعة من الافتراضات الضمنية وهي أبعد ما تكون عن نموذج حرب الجميع ضد الجميع . من هذا المنظور فإن الصورة الشائعة للمجتمع القبلي لا ينبغي أن تُفهم باعتبارها نقيضًا للدولة الموحدة أو مجرد بقايا من الماضي بل يمكن أن تُشكل مكمّلًا محتملاً لها فالمسألة القبلية لم تعد مجرد مشكلة كما كانت تُصوَّر سابقًا بل أصبحت قضية تمس الجميع ويجب التعامل معها كجزء من البنية الاجتماعية والسياسية وفي هذا السياق بدأت تتشكل مقاربات أكثر تعقيدًا في التاريخ وعلم الاجتماع متجاوزة ما طرحه علماء الاجتماع وهو ما يُمكن أن يُفضي إلى فهم أكثر واقعية ومع ذلك حتى وإن لم تكن القبائل ذات أهمية عملية الآن أو حتى لو تلاشت فإنها لا تُشكل بحد ذاتها بديلًا لما يدور في العالم من تحولات ففكرة العالم المفقود أو النموذج الرعوي الأزلي لا يُمكن أن يُقدّم بديلاً فعليًا عن العالم الحديث خلافًا للتصورات النمطية ولم تكن القبائل في أي وقت خلال الألف عام الماضية أنظمة مغلقة مكتفية بذاتها أو مجتمعات ذات تسلسل هرمي بسيط يمكن تشبيهه بصناديق الأدوات حيث لكل شيء مكانه فمقولة توكفيل الشهيرة وهو مؤرخ ومنظر سياسي فرنسي : الاهتمام بالسياسة في بعدها التاريخي عن زوال النظام القديم الأرستقراطية تصنع سلسلة مترابطة من جميع أفراد المجتمع والديمقراطية تقطع كل حلقة منها لا تنطبق هنا فالقطع والفصل كانا دومًا عنصران أساسيان في نظرة رجال القبائل إلى أنفسهم وعلاقاتهم ببعضهم . لقد استندت صورة الاستقلال التي تبنّتها القبائل إلى منظومة من القيم المشتركة بقي معظمها غير مُعلن ولا يظهر منها إلا جزء يسير غالبًا في اللغة البطولية التي يرتبط بها الخطاب القبلي ورغم ما قد يبدو من بدائل حديثة مثل الفوضى أو التوحيد القسري فإنها لم تكن حاضرة فعليًا ضمن المنظومة القبلية وعلى العكس تقدم القبائل نموذجًا فريدًا من بين نماذج عدة لفهم العلاقات الاجتماعية والسياسية في هذا النموذج حيث كان الأفراد والقبائل يُعتبرون متساوين أخلاقيًا بطبيعتهم لكن لم يكن هناك سعي حقيقي نحو مقياس دائم لهذه المساواة ولا كان ذلك ممكنًا فالتسلسل الهرمي الذي شكّل تصورات الرجال لعالمهم لم يُبْنَ على الأشخاص أو الرتب بل على السياقات المتغيرة التي تسمح بتجنب التناقضات الأخلاقية دون الحاجة إلى مقاييس موحدة لأهداف متباينة ولقد كان الاستقلال الذاتي هو الهدف الأعلى ولا يزال له حضوره حتى اليوم غير أن هذا الاستقلال في صورته القديمة لم يعد كافيًا في العصر الحديث فشرطه الأساسي كان قائمًا على استبعاد من لا ينتمي إلى القبيلة حسب النسب وهو مفهوم يصطدم بشكل مباشر مع المبادئ الحديثة للسياسة القائمة على المساواة والمواطنة لا على النَسَب والانتماء القبلي.