" التغيير" خاص احمد صالح غالب الفقيه: أكبر إخفاقات الكثير من الأنظمة العربية، ومنها نظام الحكم في بلادنا، هو الإخفاق في بناء الدولة الحديثة. إن الأمة كيان سياسي له مقومات طبيعية، كرابطتي الدم والإقليم، أو مقومات ثقافية، أو كل ذلك معا. ويدلنا استقراء التاريخ أن أهم ما يعزز الوحدة الوطنية ويحافظ عليها، هو اقتناع الشعب بنظام الحكم. وأن أنجح أنظمة الحكم هو نظام الدولة الحديثة التي يسود فيها حكم القانون الذي يفرض المواطنة المتساوية، وأن أفضل الأنظمة الناجحة هو نظام الدولة الديمقراطية الحديثة. ينقسم الجنس البشري على هذا الكوكب إلى آلاف من الشعوب والجماعات التي تتميز كل واحدة منها بلغة أو لهجة، وتاريخ وتقاليد وعادات مشتركة، وقد تنحدر- كل جماعة تربط بينها هذه الروابط - من اصل مشترك وقد تدين بالدين نفسه أحيانا. وقد تنقسم كل جماعة أو شعب من هذه الشعوب إلى أقسام قبلية وطائفية تميز نفسها داخل الشعب أو الجماعة بفوارق ضئيلة الأهمية. ولكن ما يميز الأمة أو القومية الواحدة اكثر من كل هذه الروابط هو شعور المجموعات والأفراد الذين تضمهم بأنهم يشكلون شعبا واحدا أو أمة واحدة. ومن بين الآلاف من هذه الشعوب والجماعات الكبرى لا يتمتع بدولة خاصة إلا قلة منها لا يكاد يصل عددها إلى مائة ونيف . وعلى سبيل المثال فان المصريين او اليمنيين أو الألمان أو الفرنسيين يعيشون في دولتهم الخاصة ولكن هناك شعوبا أخرى تشارك غيرها في دولة واحدة مثل فرنسيي كوبيك في كندا الذين يشاطرون الإنجليز الكنديين الدولة الكندية. وهناك شعوب أخرى تعيش كأقليات حيث يكون كل منها في وطن تحكمه جماعة إثنية أخرى أو شعب آخر كما هو الحال مع الأكراد في تركياوالعراق وسوريا وإيران أو التاميل في سيريلانكا. وعندما تتم معاملة أفراد الأقليات والجماعات المختلفة في أي دولة على أساس من المواطنة المتساوية فان الجميع يعيشون بسلام. ولذلك فان أهم عامل للسلامة الوطنية والسلام الاجتماعي هو المساواة الصارمة في الحقوق والواجبات وهو ما تؤمنه في حده الأدنى الدولة الحديثة التي يسود فيها حكم القانون بواسطة أجهزة الدولة المؤسسية التي تراعي الدستور والقوانين وتطبقها بصرامة على جميع المواطنين دون استثناء، وهو أيضا ما تؤمنه في حده الأعلى الديمقراطية التمثيلية كما هي عليه في عصرنا هذا باعتبارها الأداة المثلى بين التجارب البشرية المعروفة. وفي الدولة التي يتمتع فيها مواطنوها جميعا بالمساواة ينشأ لدى الجميع شعور بالانتماء يسمى الحس الوطني أو الكبرياء الوطنية. أما عندما لا يتوفر شرط المساواة، حتى في الدولة المكونة من شعب واحد تربطه كل الروابط المتصورة كما هو الحال في اليمن، وعندما تسيطر جماعة ما عسكرية كانت أو قبلية أو دينية على الحياة السياسية والاقتصادية على حساب الجماعات الأخرى التي يتكون منها شعب الدولة - الوطن ينشأ الشعور بالاضطهاد ويتطور حتى ينفجر. وقد شهد العصر الحديث قيام دول حديثة على أساس من المساواة في المواطنة وحدها حتى بدون توفر الروابط الأخرى كما في الاتحاد السوفييتي الذي انهار لغياب الديمقراطية فيه،أو بالمساواة والديمقراطية معا كما في الولاياتالمتحدة ثم سويسرا التي هي أفضل النماذج والتي يعيش فيها الألمان والفرنسيون الإيطاليون بسلام ووئام، وهو النموذج الذي يبدو أن الدولة الاوروبية الاتحادية القادمة تبنى على مثاله. وهي تجارب عابرة للروابط القومية الكلاسيكية والتي تحمل مفاهيم عنصرية.وبدلا من ذلك تعانق مفاهيم إنسانية ارحب تشبه المفاهيم الإسلامية التي تحرم التمييز بين الأفراد على أساس العرق أو الجنس أو اللون أو الدين أو المنبت الاجتماعي أو الثروة أو المنصب. الحس الوطني والشعور الوطني إذا كان الحس الوطني والشعور بالكبرياء الوطنية يفهم على انه حب الإنسان للبلاد التي يدعوها وطنه؛ فان الشعور الوطني من جهة أخرى قد يعبر عن حب الإنسان للبلاد التي لا يستطيع أن يدعي أنها ملكه، وعن حبه لوطن يشعر انه محتل من قبل الأجنبي او مستولى عليه من قبل جماعة وطنية أخرى . ومثل هذا الشعور الوطني المعبر عن السخط قد يصبح عاطفة خطرة قد تتضمن المطالبة بإقليم معين لصالح مجموعة وطنية مضطهدة فتقاومها الجماعة الأخرى التي تشعر بأحقيتها في الوجود في الإقليم نفسه فتنشأ الحرب الأهلية أو حرب التحرير اعتمادا على ما إذا كانت الجماعات المتصارعة وطنية أو أن أحدها أجنبي.
وقد كان هذا هو الحال في الصومال الذي اسبتد فيه النظام العسكري القبلي في عهد زياد بري بالحكم لحساب حفنة من القبائل المتحالفة واستبعد القبائل الأخرى، وهو ما حدث في البوسنة عندما أعلنت استقلالها عن يوغوسلافيا عام 1992م نظرا لعدم ثقتها في النظام القومي الصربي الفاشي لميلوسوفيتش فقام الصرب بقمع البوسنة عبر عمليات التطهير العرقي البشعة التي يعرفها الجميع. وهو أيضا ما فعله صدام حسين في عمليات الأنفال المشؤومة في حرب الخليج الأولى، الأمر الذي أدى في النهاية إلى توفير ظروف ملائمة للتدخل الأجنبي بدعوى حماية الأكراد والى الفصل الواقعي ( بالأمر الواقع ) للمناطق الكردية عن العراق . وهي الحالة التي يعيشها عدد من الأقطار العربية والإسلامية المبتلاة بآفة الاستبداد. من تاريخ الوطنية والقومية تعرف الوطنية والقومية في التاريخ الحديث باعتبارها تيارا سياسيا يرى في دولة الوطن أو الأمة العامل الأعظم والاهم لتحقيق طموحات الشعب الاجتماعية والثقافية والسياسية . وقد كانت الدول في أوروبا ما قبل القرن السابع عشر قبل ظهور الحركة الوطنية والقومية كتيار سياسي متميز قائمة على أساس من الدين أو الرابطة الملكية للأسر الحاكمة، كان الناس يمحضون ولاءهم للكنيسة أو العائلة المالكة ويركزون جل مشاعر الانتماء على العشيرة والقرية والمقاطعة وهو ما يتوافق مع نظام الدولة الإقطاعية المقسمة إلى مقاطعات ومناطق. فكانت انتماءات الناس مناطقية ضيقة ونادرا ما كانت لهم اهتمامات أو هموم تشمل الوطن كله. وقد نشأت الوطنية والقومية وترعرت في أوروبا بفعل التقدم في المجالات التقنية والسياسية والاقتصادية وهو تقدم ادخل الإنسان العادي إلى قلب الحراك الثقافي والسياسي وهو التطور الذي اصطلح على تسميته بالتنوير ثم بالثورة الصناعية ، فقد كان الشعب قبل ذلك خارج عملية الحراك السياسي والثقافي ولم يكن إلا وسيلة وأداة للطبقة الإقطاعية والاكليروس الديني والأسر الملكية الحاكمة. وكانت هذه الفئات الثلاث مرتبطة بديانة موحدة وهي الكاثوليكية الرومانية، وبلغة مشتركة للثقافة لا تعرفها شعوبهم وهي اللغة اللاتينية التي كانت لغة العلوم والفنون والدين . فكانت هذه الفئات منفصلة عن الشعوب وكانت تعاملها على أنها داخلة ضمن ممتلكاتها المادية. لقد أدي تطور وسائل المواصلات إلى توسيع معرفة الناس بالآخرين المقيمين خارج قراهم ومقاطعاتهم. وأدى انتشار التعليم والطباعة باللغة الوطنية والشعبية بين أكثرية السكان في إقليم كل شعب إلى خلق شعور لديهم بالاشتراك في موروث ثقافي مشترك. ومن خلال التعليم تمكن الناس من التعرف على تاريخهم المشترك وعاداتهم وتقاليدهم واخذوا بالإحساس بهوية متميزة مشتركة مبنية على الاستمرارية التاريخية المشتركة. وهو ما قاد إلى الإصلاح الديني بدءا بمارتن لوثر ثم الإصلاح السياسي بدءا بالثورة الفرنسية. وأدي النمو الصناعي والاقتصادي إلى ظهور وحدات اقتصادية يمتد نشاطها إلى خارج البلدة والمقاطعة وهو ما أدي كله بالناس إلى وعي مصيرهم المشترك كأمة واحدة والى شعورهم بالمسؤولية تجاه مستقبل الأمة . ولتفصيل المجمل، يقول الدكتور توماس كايزر بروفيسور التاريخ بجامعة آركنساس بان اللغة الفرنسية المعروفة اليوم لم تتشكل نهائيا إلا في القرن التاسع عشر، وكان ربع السكان آنذاك لا يتكلمون اللغة الفرنسية الشائعة اليوم. وحتى المذهب الكاثوليكي الذي يدين به الفرنسيون لم ينتشر إلا بصورة تدريجية وبطيئة. ويقول كثير من المؤرخين أن الفرنسيين لم يتقبلوا هذه الديانة بشكلها الارثوذوكسي كليا إلا في القرن الثامن عشر. وقد عاش الفرنسيون حتى العام 1789م تحت حوالي أربعمائة نظام قانوني مختلف تبعا للإقطاعيات. ولم يكن من الممكن وصفهم بأنهم منتمون إلى أمة بل مجرد رعية ملك. و لم يتكون لفرنسا اقتصاد وطني موحد بدلا من اقتصاديات المقاطعات المتعددة إلا في القرن الثامن عشر. ولم يكن لفرنسا تاريخ خاص ذي هوية محددة يمتد بعيدا في الماضي، بل كان تاريخا مشوشا يفتقر إلى الوحدة كتاريخ لوطن أو شعب محدد الهوية حتى القرن السابع عشر. وقد خضع تاريخهم لعمليات تطور متعددة حولت الناس في تلك الرقعة المسماة اليوم بفرنسا إلى فرنسيين خلال القرون القليلة الماضية، ونتيجة للصدف السياسية على الأغلب، لا عن تصميم وتخطيط مسبق . وبالمثل كانت ألمانيا حتى القرن التاسع عشر مقسمة إلى تسعة وثلاثين دويلة وأربعة مدن حرة ولم تظهر كدولة موحدة إلا على يد رئيس وزراء بروسيا الأمير اوتو فون بسمارك الذي وحدها بالقوة في 18 يناير 1871م . الوطنية والوحدة اليمنية في الميزان وبالمقارنة فان اليمنين كانوا يعدون شعبا واحدا لآلاف السنين. وعلى الرغم من انه مرت عليهم فترات من التمزق السياسي إلا انهم كانوا في معظم الألف السنة السابقة على القرن السابع عشر على الأقل موحدين بشكل أو بآخر في ظل الدولة الإسلامية، ناهيك عن التاريخ القديم المشترك الذي يرجع إلى عدة آلاف من السنين .
وتربط اليمانيين روابط اللغة والدين والأصل الواحد إضافة إلى التقاليد والعادات، واللغة المشتركة والتاريخ المشترك، والإحساس العميق المتجذر بيمنيتهم والضارب في أعماق تاريخهم، والمعبر عنه بوضوح في إنتاجهم الثقافي القديم الحديث.
ولذلك كله فان الوحدة السياسية لليمن الطبيعية ليست إلا تحصيل حاصل ولا تحتاج إلى اجتهادات حول مبرراتها. فما يجمع اليمنيين أكثر بكثير مما يجمع شعوب روسيا أو الولاياتالمتحدة أو الإتحاد الأوروبي. وينطبق هذا على العرب في كل أقطارهم بل وعلى المسلمين أيضا. إلا انه ومن جهة أخرى حفل التاريخ اليمني بدوام النظام القبلي مع ما يؤدي إليه من تقوقع وانعزال وعداء للآخر الذي لا ينتمي إلى القبيلة. وتميز أيضا في الكثير من فتراته بالتسلط والإحتراب القبلي حتى عندما كان موحدا سياسيا في الماضي وهو ما يعاني منه اليوم أيضا. فبعد تحقيق الوحدة اليمنية في العام 1990 أدى الصراع على السلطة بين الاشتراكي والمؤتمر إلى نشوء تحالف بين القوى القبلية والعسكرية الحاكمة في الجمهورية العربية اليمنية السابقة على دولة الوحدة، والمشاركة في حكم الدولة الوليدة، لتدبير سيناريو حشر الشريك الاشتراكي في الحكم في الزاوية عن طريق الاغتيالات التي استهدفت قياداته على أيدي الجماعات الإسلامية المتطرفة (الأفغان اليمنيين والعرب)، حتى تم خلق الظروف للحرب عام 1994م للقضاء على قوة الحزب الاشتراكي؛ الذي كان رد فعله (نتيجة الإحساس بوجود المؤامرة) أن ساهم في دماره الخاص بتذمره من نتائج الانتخابات النيابية للعام 1993. فتحدث قادته عن رفضهم للديمقراطية العددية، وماطلوا في دمج القوات المسلحة، وتوحيد العملة، وحاولوا اللعب على التناقضات القبلية بين حاشد وبكيل، وعملوا على خلق حالة من الاضطراب في الجهاز الحكومي عن طريق تجميد البت في المسائل الملحة، فمنحوا شريكهم المؤتمر ذريعة الإنتقال إلى مواقع العداء السافر ضمن مؤامرة بدأت بالاغتيالات، حسبما دلت عليها اعترافات أبي الحسن المحضار ومنشورات (المتعاطفون مع القاعدة)، والكتابات الكثيرة في صحيفة الثوري، وهي التي لم ينف المؤتمر الشعبي أياً منها. وقد اتفقت في تلك المؤامرة التي قادت إلى حرب العام 94م أهداف الأفغان العرب والإسلاميين المعادين لكل ما هو اشتراكي آو علماني، واهداف الطغم العسكرية والقبلية الممثلة في قيادات المؤتمر الشعبي العام وحزب الإصلاح، مع أهداف حليفة الجميع وراعيهتم الولاياتالمتحدةالأمريكية؛ التي كانت تعمل ضمن مخطط واسع للقضاء على جميع القوى السياسية والأنظمة التي كانت حليفة للاتحاد السوفيتي قبل انهياره، ومنها بطبيعة الحال الحزب الاشتراكي اليمني، سعيا منها إلى تامين مصالحها في منابع النفط والمناطق الاستراتيجية تحسبا من أي مفاجآت مستقبلية. واضطرت الحرب قيادات الاشتراكي في خطوة غبية قصيرة النظر إلى إعلان الانفصال عن دولة الوحدة الأمر الذي أتاح لخصومه ذخيرة قوية للتنديد بالحزب والإساءة إلى صورته لدى الجماهير. وقد أدى الوضع الذي أعقب الحرب إلى شعور عميق بعدم المساواة لدى سكان المحافظات الشرقية والجنوبية على خلفية النهب الشرس للأراضي والممتلكات العقارية وممتلكات الدولة الأخرى من قبل الشرائح المتنفذة في النظام الحاكم. وهو ما أدى إلى بروز تيارات ذات نفس انفصالي في عدن إضافة إلى تيار أقلية في الحزب الاشتراكي تؤسس خطابها السياسي على أساس من الوضع السابق للوحدة . وان كان الحزب الاشتراكي بأغلبيته قد اتخذ الموقف الصحيح باعتباره نضاله نضالا وطنيا ديمقراطيا يشمل اليمن كله من اجل إقامة دولة حديثة يسودها القانون، وانطلاقا من تحليل صحيح يعتبر المعاناة من ممارسات النظام الحاكم تشمل الغالبية الساحقة من المواطنين في كل محافظات الجمهورية. لقد كان اقتران الوحدة اليمنية بالديمقراطية التمثيلية خطوة ونقلة رائعة تشكل ضمانة أكيدة لمستقبل زاهر لدولة الوحدة لولا قصر نظر ونفس قيادات الحزب الاشتراكي من جهة، وسوء نوايا القيادات في التحالف المقابل التي عملت بدأب على إفراغ الديمقراطية من مضامينها عبر الغش والتزوير والممارسات غير القانونية، وبالمخالفات المستمرة للدستور حتى بعد أن أدخلت عليه تغييرات جمة قللت من فعاليته وهيبته من جهة أخرى. لقد دفع الشعب اليمني ثمناً باهظاً جراء الصراعات السياسية لحكامه في صورة تدهور مريع في مستويات معيشته وقيمة عملته، وضرر بالغ لحق باقتصاده الوطني. وأكبر من ذلك وأنكى أنه دفع ثمناً أفدحً على شكل تسويات حدودية مجحفة جداً بالحقوق اليمنية، لم تكن لتحدث لو كان لدى القادة ما يكفي من الوعي والنزاهة للتعايش ضمن العملية الديمقراطية ومبدأ التداول السلمي للسلطة، والإدارة النزيهة والنظيفة لمقدرات الوطن.
فقد اضطرتهم ممارساتهم السيئة إلى التفريط بالحقوق الوطنية درءاً لمخاطر التأثير الخارجي على مجريات صراعاتهم السياسية الداخلية، وهو تفريط سيحاسبهم عليه التاريخ إن لم يحاسبهم عليه الشعب في قادم الأيام. اشكالية الدولة الحديثة في اليمن تمثل إشكالية الدولة الحديثة والوحدة الوطنية في اليمن جزءا لا يتجزأ من إشكاليتهما في العالم العربي والإسلامي كله وتتمثل في البنية القبلية والدولة الريعية القبلية. وتبيان هذا القول يحتاج إلى تفصيل. لقد أوجد الإقطاع في الغرب نوعا من جنين المفهوم الوطني للولاء، حيث أصبح المالك الإقطاعي محوره، وهو الذي يمتلك الأرض وما عليها بدلا من العشيرة والقبيلة التي تلاشت بتلاشي ملكيتها للأرض. وقد نشأت الإقطاعيات المتعددة في أنحاء أوروبا داخل الإمبراطوريات القديمة التي تفسخت إلى ممالك إقطاعية ثم تحولت فيما بعد إلى دول قومية نتيجة للتقدم التقني والسياسي و الاقتصادي كما أسلفنا. أما في العالم الإسلامي، فإن قرار الخليفة الراشد عمر بين الخطاب رضي الله عنه بإبقاء الأراضي الزراعية التي استولى عليها المسلمون من الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية ملكاً للدولة قد أدى إلى منع نشوء الملكيات الإقطاعية الواسعة. ومن جهة أخرى أدى الموقع المتميز للعالم الإسلامي كعقدة للمواصلات العالمية بين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب إلى إيجاد مصادر كبيرة للدخل من الضرائب والمكوس، وجعل التجارة العربية تنطبع بطابع الوساطة التجارية التي لا تزال إلى اليوم سمة للرأسمالية العربية، مقابل النشاط وروح المغامرة التي اتصف بها تجار الغرب. وقد كان لهذين العاملين نتائج بعيدة المدى على مستويات عدة:
فعلى المستوى الإجماعي ظل الطابع القبلي لبنية المجتمعات الإسلامية ثابتاً على حاله دون تغيير . وقد استشعر القادة المسلمون قديما خطورة الانقسام القبلي في الجيش فعمدوا إلى استبدال الوحدات العسكرية القبلية بالمماليك من العبيد البيض والسود الذين يشتريهم بيت المال والسلاطين بغرض تحويلهم إلى جنود وهم العبيد الذين أصبحوا حكام العالم الإسلامي في ظاهرة فريدة للمساواة الإسلامية لم يعرف التاريخ الإنساني مثيلا لها. وقد أدى استمرارالبنية القبلية إلى التأثير حتى على جيوشنا الحديثة في الوقت الحاضر.
وعلى المستوى السيكولوجي أدى ذلك كله إلى حالة أصبح فيها للإنسان العربي والمسلم مستويان من الوعي: وعي أممي إسلامي لا يعترف بالدول القطرية والحدود القائمة فيما بينها، ووعي مغرق في محليته إلى درجة إعلاء الرابطة القبلية أو الطائفية على الرابطة الوطنية.
ومن الناحيتين الإقتصادية والعمرانية أدى ذلك إلى خلق الدولة الريعية التي تعتمد على خراج الأراضي والضرائب والمكوس (تعتمد الآن على النفط)، مما أدى إلى تمركز الثروة في حاضرة الخلافة أو المملكة أو السلطنة أينما كانت، ولما كانت هذه الحاضرة كثيرة التنقل بتغير الحاكمين، فقد أدى ذلك إلى ما يمكن تسميته بالنمو الاقتصادي اللامتساوي في العالم الإسلامي، حيث تتدهور الحاضرة بمجرد انتقال المركز إلى غيرها، وهو ما أخذ يتغير نتيجة لنشوء الدولة القطرية التي أدت إلى تقليص النمو اللامتساوي بين اقطار العالم الاسلامي من جهة، وبين الأرياف والمدن في كل قطر من جهة أخرى.
وقد أدت العوامل المذكورة إلى حدوث تشوه في المجتمع الإسلامي، يتمثل في أن السلطة السياسية أصبحت مصدر الثروة على عكس ما حدث في المجتمعات الغربية..
وقد استمر هذا التشوه حتى يومنا هذا، وهو ما جعل الأنظمة السياسية في مجتمعاتنا تعتمد على الجباية المتعسفة من المواطنين وسرقة المال العام لتحقيق الثروة لأعضاء الإدارة الحاكمة، وهو ما جعل الفساد المالي والإداري مؤسسة تاريخية. ولكن الثروات المتكونة من الفساد لم تتصف بالثبات وقد أعاق ذلك نمو الرأسمال لدى هذه الشريحة، نظراً لأن الثروات كانت تصادر مع تغير الحكام.
ومن الناحية الثقافية والعلمية أدى إلى جعل دور المثقفين والعلماء مقصوراً على تولي بعض الوظائف الحكومية وتزيين مجالس الأمراء فيما يشبه الدور الترفيهي، فالدولة الريعية لم تكن معنية بزيادة الإنتاج أو ما نسميه اليوم بالعلم التطبيقي.
ولم تنشأ الدولة الحديثة مبكرا هنا لأن الاستعمار حال دون ولوج العالم الإسلامي إلى عصر الحداثة الصناعية مبكرا، ولكن إنشاءها تم في بعض أقطاره بعد الاستقلال وتعثر في البعض الآخر. (فالفارق الحاسم) لنشأة الدولة الحديثة هو كونها دولة مؤسسات في قدرتها فرض سيادة قوانين الدولة على جميع مواطنيها وبحيث يتم التعامل مباشرة بين أجهزة الدولة وبين المواطن الفرد أو الشخصية القانونية الاعتبارية دون وسيط من شيخ قبلي أو متنفذ محلي. وبدون توفر هذا الشرط (الحاسم) لا يمكن أن تكون الدولة دولة حديثة مهما قالت الدساتير او روجت أجهزة الإعلام. كما انه بدون توفر هذا الشرط بكل مضامينه لا يمكن أن يكف المجتمع عن كونه مجتمعاً قبلياً وأن يتحول إلى مجتمع مدني. ويتوقف نجاح التنميتين الاقتصادية والاجتماعية على شرط وجود الدولة الحديثة. أما الديمقراطية فهي شأن آخر. فقد ظهر أول أشكالها في المجتمعات العشائرية ودول المدن على السواء. وبالتالي فإنها ليست غربية عن الدولة القبلية. ولكنها ديمقراطية لا تشبه ديمقراطية الدولة الحديثة. بل إنها تكتسب طابعاً يناسب الدولة القبلية التي تحتويها وذلك هو حالها في بلادنا، فضلاً عن أن الديمقراطية ليست شرطاً حاسماً لوجود الدولة الحديثة. فالدولة الحديثة يمكن أن تكون شمولية ولكن يسود القانون فيها الجميع على السواء، والأمثلة على ذلك كثيرة من سنغافورة إلى مصر وغيرها. الخلاصة إن الوحدة اليمنية يتهددها الطابع القبلي للدولة كما تتهددها مخاطر من صنع النظام أساسا، أخص بالذكر منها شعور أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية بالظلم للنهب الواسع للأراضي والممتلكات الحكومية هناك وهم الذين حرموا من التملك خلال فترة الحكم الاشتراكي، بل وأممت ممتلكات الملاك منهم آنذاك، فأصبح الكثير منهم مع ازدياد الأعباء المعيشية في حالة من السخط والغضب بما آلت إليه أحوالهم المعيشية نتيجة للوحدة. وكان الأجدر بالدولة أن تعوضهم عن حرمان السنين الماضية لا أن تضاعف حرمانهم بحرمان أشد في ظل موجات الغلاء المعيشي التي سببتها سياسات الحكومة الاقتصادية.
الوحدة اليمنية يتهددها شعور أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية بالتهميش في الوظائف الحكومية عن طريق إيقاف الموظفين العسكريين والمدنيين منهم عن العمل في ما سمي بحزب (خليك في البيت)، إضافة إلى تعليق الخدمة العسكرية الإلزامية التي يشعرون أنها موجهة ضدهم لإبعادهم عن خدمة العلم والتمرس بالسلاح.
الوحدة يتهددها أيضاً استشراء المحاباة وانعدام تكافؤ الفرص والإفساد الواسع والمستشري في المشروعات الحكومية. وكان تقرير لجنة مجلس النواب للتنمية والنفط والثروات المعدنية حول أوضاع الهيئة العامة للمناطق الحرة بعدن(الأيام 21-5-2002) قد هالني وفاجأني، وما يجري فيها من العبث الذي يحمل المشروع ديوناً باهظة ستحرم البلاد من الاستفادة من ريعه.إضافة إلى التطورات الراهنة في موضوع المنطقة الحرة والتى تهدد مستقبلها بتسليمها إلى شركة دبي على الرغم من التضارب الواضح في المصالح. وقس على هذا ما يجري في مؤسسات القطاع العام والمختلط كشركة الأدوية التي عملت قيادتها السابقة على القضاء عليها عن طريق الإفراط في إساءة استخدام ماليتها حسب ما ورد في الصحف. إضافة للفساد الحكومي المستشري في كل المرافق و الأجهزة. والوحدة يتهددها التسيب الحكومي وتسيب الأجهزة الأمنية وقسوة الوحدات العسكرية القابعة في المحافظات الجنوبية والشرقية والتي يعاني السكان من ممارساتها الغير قانونية وتجاوزاتها الأمرين،إضافة إلى القمع الوحشي واستخدام القوة المفرطة من صعدة إلى المهرة. والوحدة يتهددها محاربة المنظمات الشعبية والملتقيات والمنتديات والصحافة المستقلة الحرة والحزبية المعارضة والاعتداء على المثقفين إضافة إلى العديد من الظواهر السلبية التي هي إجمالاً من مسؤولية القيادة السياسية للدولة. إذن وعودا على بدء فإن تحقيق وحدة وطنية حقيقية وراسخه وتنمية اقتصادية واجتماعية يتطلب وجود الدولة الحديثة التي يتحول المجتمع - في ظل سيادة قوانينها - من مجتمع قبلي إلى مجتمع مدني حديث والتي تفرض المساواة الصارمة بين المواطنين، وتخضع موظفي الدولة للرقابة والمحاسبة الفعالة. وبدونها - الدولة الحديثة - سنظل كمن يحرث في البحر فلا يجني غير موته غريقا. المراجع: . التأزم السياسي عند العرب وموقف الإسلام - دكتور/ محمد جابر الأنصاري. . كتاب محاورات حسن حنفي ومحمد عابد الجابري في مجلة الاسبوع. . الدولة الحديثة أولاً - أحمد صالح غالب الفقيه - الأيام 13 نوفمبر 2001. . الانتقال إلى الدولة الحديثة - أحمد صالح غالب الفقيه - الأيام 6 ديسمبر 2001. . القومية - (بالإنجليزية) للبروفيسور/ هانس كون، استاذ التاريخ الراحل بجامعة نيويورك سيتي . . الحاجة إلى الانتماء الوطني - (بالإنجليزية) للكاتب الكندي الروسي الأصل ميخائيل إيجناتيف. . فرنسا - د.توماس كايزر بروفيسور التاريخ - جامعة آركنساس.