فليعلم الجميع أن الأمة العربية الإسلامية اليوم تمر بمرحلة عصية وعصيبة، وأن العاصم من قواسم الفتن والهلاك والحروب هو التمسك بحبل الله المتين الذي تجسده الوحدة، وتوحيد الصف الوطني، والتقارب بين أهل الإيمان، وفي ظلال دوحة العقيدة الإسلامية الوارفة التي أرساها قول المولى القدير: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).. نحن اليوم نحتفي بمولد الرسول الأعظم عليه وعلى آله الصلاة والسلام والأمة تمرّ بهذه الانعطافة الحرجة المتوترة بسبب الخلافات الفكرية والعقيدية والمذهبية والسياسية، وتناسينا منهج الإسلام الوسطي الجامع لعوامل القوة والتآزر والتضامن والتقارب كي نجنب أوطاننا من الوقوع في الفتن الشعواء، والصراعات الدموية التي تحاك ضده هذه الأمة، نحن في زمن كثر فيه الفساد والمفسدين وانتشر الإلحاد، وتجاهر الناس بالذنوب والآثام، وانصرف الناس عما خلقوا له، فالفساد عم البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون، وإن جور الحكام والملوك والأمراء هو سبب جرم الرعايا قال عز وجل: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون) الأنعام (129).. ليعلم القاصي والداني أن عظمة رسولنا الأعظم محمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام تجلت في زهده وقناعته ورضاه بالكفاف، وإعراضه عن الجاه والثراء وزخارف الدنيا الفانية، وقد طلب منه أصحابه أن يتخذوا له فراشاً وثيراً ليجلس عليه وينام عليه فقال لهم عليه وعلى آله الصلاة السلام "ما لي والدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها".. ومن عظمته صلى الله عليه وآله وسلم عندما دخل مكة منصوراً، وبيده جميع أسباب القوة والتمكين، ولم ينس ما أصابه من أهله منذ ثلاثة عشر عاما من كيد وتنكيل، وأذى، فلم يخامر نفسه غرور واستعلاء الفاتحين، ولا جبروت المنتصرين، ولا زهور العظماء، وكان يجلس حوله صناديد قريش الذين آذوه ورجموه وسبوه وأخرجوه، وقلوبهم واجفة راجفة من انتقامه فيقول لهم بكل هدوء واطمئنان وسكينة.. (ما ترون أني صانع بكم؟) قالوا: خير أخ كريم وابن أخ كريم قال: "أذهبوا فانتم الطلقاء" ما أروع من قلب لا يعرف سوى الصفاء والنقاء والإخاء.. صفوة القول: ما أحوجنا اليوم، ونحن نحتفي بمولده الخالد أن نقتدي به في كل أقواله وأفعاله وتقريراته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والسير على منهجه واقتفاء آثاره وسيرته العطرة، والتأدب بآدابه وسلوكياته حتى نحيي سنته وسيرته الطاهرة. وصدق رسولنا الأعظم عليه وعلى آله الصلاة والسلام القائل: إنما أنا رحمة مهداة" وليعلم الجميع أن عظمة رسولنا الأعظم تكمن في تواضعه الجم وأخلاقه العالية، وحكمته الفذة التي فاقت كل حكمة فهو المصلح الأكبر للبشرية قاطبة، ولئن اكتسب معظم الحكام الزعماء والملوك والأمراء عظمتهم بالحروب الطاحنة والجبروت، وقهر الشعوب، وتدمير الأوطان فإن عظمة رسولنا الأعظم قامت على الرحمة الشاملة، وعلى المحبة والسلام والإخاء، وعلى المساواة العامة بين الناس دون تمييز أو تفاضل، جاء محمد عليه وعلى آله الصلاة السلام ليواسي الفقير وينصر المظلوم، ويؤدب الظالم ويوجه الأمة التوجيه القويم على السبيل المستقيم، ويقيم العدالة، ويدعوهم الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة لا بالترهيب والتهديد وسفك الدماء. كلمات مضيئة: لقد كان العز بن عبدالسلام سلطان العلماء لا يخاف في الله لومه لائم- رحمه الله- وقد هدده كبير الأمراء بالقتل لأنه أصدر العزم على بيع سلاطين مصر المماليك علنا أمام الناس حتى تصح بيعتهم للملك. حين قال لأبنه يا بني أن أباك أحقر من أن يقتل في سبيل الله، لقد جهر بالحق مرة أمام السلطان نجم الدين أيوب وخاطبه باسمه المجرد والدولة بأكملها واقفة بين يديه في حفل استعراض عسكري كبير، وتسامع طلابه الخبر فقال له أحدهم يا سيدي أما خفت السلطان؟ فأجاب الشيخ على الفور، والله يابني لقد استحضرت عظمة الله في نفسي فرأيت السلطان أمامي كالقط، هكذا تكون عظمة العلماء الصادقين مع الله، ومن هنا ندرك أن السلطان والقرآن لا يلتقيان، وصدق من قال حبس جعفر بن يحيى البرمكي هو وأبوه فقال لأبيه يا أبت بعد الأمر والنهي أصارنا الدهر إلى القيود، ولبس الصوف فقال: يا بني دعوة مظلوم سرت بلبل غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها.