مقدمة: تُعد مقولة العلامة عبد الرحمن بن خلدون (1332 – 1406م) في مقدمته الشهيرة، والتي ينسب فيها إلى "العرب" أنهم "إذا جاعوا سرقوا، وإذا شبعوا أفسدوا"، من أكثر المقولات إثارة للجدل والاختلاف في التفسير. لا يمكن فهم هذه المقولة بمعزل عن سياقها التاريخي والمنهجي الذي وردت فيه، وإلاّ أدّى ذلك إلى فهم قاصر ومشوّه لمراد ابن خلدون، الذي يُعتبر أحد أعمدة الفكر الاجتماعي والإنساني.
أولاً: السياق التاريخي والحضاري للمقولة ليس حكماً على كل العرب في كل العصور: من الأهمية بمكان التأكيد على أن ابن خلدون لم يقصد "العرب" كقومية أو عرق شامل، بل كان يتحدث عن فئة محددة جداً في سياقه التاريخي. المقصود ب "العرب" هنا هم بدو البادية والقبائل الرحل في زمانه (القرن الرابع عشر الميلادي)، وخصوصاً أولئك الذين يفتقرون إلى سلطة دولة راسخة وأعراف حضرية. كان ابن خلدون يشهد حالة من الفوضى والانهيار الحضاري في المغرب والأندلس، حيث كانت القبائل تلعب أدواراً مدمرة أحياناً.
وصف لواقع ملاحظ، وليس تعميماً أبدياً: هو يصف نمطاً اجتماعياً وسلوكياً شاهدَه وتحلّله بعين العالم الاجتماعي، وليس إصدار حكم قيمي أو عنصري على شعب بأكمله. لقد كان ابن خلدون نفسه عربياً مسلماً، وكان فخوراً بانتمائه.
ثانياً: التفسير العلمي والتحليلي للمقولة يفسر ابن خلدون هذه الظاهرة من خلال مفهومه المركزي "العصبية" و"أطوار العمران":
"إذا جاعوا سرقوا": الضرورة والحاجة: يرى أن حياة البداوة القاسية في الصحراء، حيث شح الموارد وعدم الاستقرار، تدفع بالإنسان إلى فعل أي شيء للبقاء على قيد الحياة. السرقة هنا هي رد فعل للجوع والفقر المدقع، وليست سجية أخلاقية متأصلة.
غياب السلطة المركزية: في غياب دولة قوية تطبق القانون وتحافظ على الأمن، يصبح "قانون البقاء للأقوى" هو السائد، وتكون الغزوات والسطو على القوافل والمستوطنات وسيلة للعيش.
"وإذا شبعوا أفسدوا": الانتقال من البداوة إلى الحضارة: هنا يكمن جوهر تحليل ابن خلدون. عندما تنتصر القبيلة (ذات العصبية القوية) وتستولي على الحكم في مدينة ما (مثل دولة الموحدين أو المرابطين التي شهدها)، تدخل فجأة في حالة من "الشبع" والرفاهية لم تعهدها من قبل.
فجوة القيم والسلطة: المشكلة ليست في الشبع نفسه، بل في عدم امتلاك الآليات الثقافية والحضارية لإدارة هذا الغنى والسلطة. يفسر ابن خلدون "الإفساد" على أنه: الاستبداد بالسلطة: بسبب اعتيادهم على القوة الغاشمة، يحكمون بقبضة من حديد دون حكمة.
التبذير والإسراف: إنفاق الثروة على الملذات والترف بدلاً من تعمير الدولة وخدمة الرعية.
الانقسام والتناحر: عندما تزول الحاجة (الجوع) التي كانت توحدهم للغزو، تبدأ الصراعات الداخلية على الغنائم والسلطة، مما يؤدي إلى انهيار دولتهم من الداخل.
دورة التاريخ: يرى ابن خلدون أن هذه الدورة (صعود البدوي بقوته وعصبيته، ثم إفساده بعد الشبع، ثم سقوطه) هي قانون تاريخي لحضارات سابقة أيضاً، وليس حكراً على العرب.
ثالثاً: دفاع ابن خلدون وتوضيحه ابن خلدون نفسه توقع أن تُفهم مقولته بشكل خاطئ، فبعد أن سرد هذه الصفات نجد يقول: "ولا تظنن أن ذلك عيب في العرب، فإن طبيعة البداوة هي السبب في ذلك... وسابق الأمم من العجم وغيرهم من أهل البدو لهم هذه الطبيعة". فهو يوضح أن:
هذه صفة مرتبطة ب نمط الحياة البدوي (البداوة) وغياب الحضارة (العمران)، وليست صفة عرقية.
أن كل الأمم التي مرت بمرحلة البداوة (بما فيهم الفرس والروم وغيرهم) كانت لها هذه الخصال.
رابعاً: النقد والخلاف حول المقولة إغفال الجوانب الإيجابية: يُنتقد ابن خلدون لتعميمه على كل بدو العرب وإغفاله للأخلاق الفاضلة كالكرم والشجاعة والشهامة التي تميزت بها القبائل العربية، وكذلك دورهم في نشر الإسلام وبناء الحضارة الإسلامية.
الاستغلال السياسي: تم استخدام هذه المقولة خارج سياقها بشكل متعمد من قبل بعض المستشرقين والأنظمة لوصم العرب والمسلمين بالتخلف والهمجية.
المنهجية العلمية: بينما كان منهج ابن خلدون علمياً بالنسبة لعصره، إلا أن تعميم صفات على مجموعة كبيرة بناء على نمط عيشها قد لا يكون مقبولاً وفق المناهج الاجتماعية الحديثة التي تراعي الفروق الفردية والتعقيد المجتمعي.
ختاما مقولة ابن خلدون هي تحليل اجتماعي تاريخي وليس حكماً عنصرياً. هي جزء من نظرية أشمل حول صعود وسقوط الدول والحضارات. فهمها يتطلب وضعها في إطارها الصحيح:
السياق: حديث عن بدو البادية في عصر انهيار الدول.
السببية: ربط السلوك بظروف المعيشة (البداوة) وليس بالدم أو العرق.
العمومية: اعتبارها سمة للمجتمعات البدوية بشكل عام وليس العرب بشكل خاص.
، يمكن القول إن ابن خلدون لم يكن يهجو العرب، بل كان يحذر من مخاطر الانتقال من البداوة إلى الحضارة دون اكتساب قيم الحكم الرشيد وإدارة الثروة، وهي ظاهرة شهدها في مجتمعه واعتبرها قانوناً تاريخياً يتكرر.