على مدى السنوات والعقود، لعبت تركيا عشرات الأدوار وعلى عشرات الحبال، وتأرجحت سياساتها ومواقفها بين موسكووواشنطن، واستطاعت من خلالها تحقيق الكثير من المكاسب، لدرجة اعتقد فيها الرئيس أردوغان أن هذه سياسة رابحة دائمًا. شاركت القوتين الدوليتين في الحرب والسلام والمهادنة والمفاوضات والوساطة، وحصدت عدة نجاحات، وغاب عن ذهنه أن تركيا ذاتها تقبع وسط حقل ألغام من المصالح والحب والانتقام بين الطرفين، في وقت لم تعد فيه إمكانية استبعادها أو استثنائها من خرائط الصراعات الجيوسياسية في المنطقة والعالم، وكل ما يشير إلى وصول البلل إلى ذقنها وسط مستنقع الحروب والصراعات والمؤامرات التي شاركت فيها بفعالية كبيرة، على قاعدة "طباخ السم ذائقه"، خصوصًا مع تشعب مواقفها وطول أياديها في كافة ملفات الجوار القريب والبعيد، مما تسبب في تعقيد الحلول، وباتت تطالب بجائزتها دون أن تدفع حصتها من التكاليف وضريبة الفوز أو الخسارة، خصوصًا في الملف السوري شديد التعقيد. حاول الرئيس ترامب، في الأممالمتحدة، توجيه سهام الاعتراف المباشر بما اقترفه أردوغان، وحمّله مسؤولية إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا، رغم فشل محاولات أسلافه العثمانيين منذ ألفي عام في ابتلاعها بشكل كامل وإسقاط الدولة السورية. ولم يتحقق لها - بحسب ترامب - ما تحقق اليوم إلا تحت المظلة الأمريكية وسياساتها الخارجية وقوتها العسكرية ونفوذها الدولي. ويبدو أن ترامب قرر إعادة صياغة استراتيجيته الجديدة في سوريا والعراق وأوكرانيا وأوروبا وروسيا والصين، بشكل براغماتي مبني على النجاحات والإخفاقات والعراقيل التي واجهت المشروع الأمريكي حتى اليوم، وبات عليه المضي قدمًا في جزئه الصعب، وعلى حساب كل من سبق أن أطلق عليهم "حلفاء، شركاء، أصدقاء". وقد أطلق استراتيجيته الجديدة بدءًا من تخليه عن الأوروبيين في مواجهة روسيا، وتطويق العرب بحبال الناتو العربي في غزة، ومضاعفة تنازلاتهم واستسلام من تخلف منهم عن تقديم فروض الطاعة إلى "مارد المنطقة" وحاكمها القديم - الجديد القابع في تل أبيب، وكذلك عبر البدء بمحاصرة تركيا والرئيس أردوغان، ووضعه في موقف لا يُحسد عليه، ومطالبته بالتوقف عن شراء الغاز والنفط الروسيين. لا يمكن لتركيا، وليس من مصلحتها، أن تفعل ذلك ولن تفعل، إذ لم يراعِ ترامب البدائل التركية، ولم يأبه بالأضرار الاقتصادية التي ستنال من اقتصادها، وتأثير انهياره على الشارع التركي المحتقن أصلًا بعشرات الملفات الداخلية، والتي تجعله يقترب شيئًا فشيئًا من حالة الانفجار، على الرغم من تقديم ترامب الولاياتالمتحدة كمصدر بديل، على غرار ما فعله مع الأوروبيين. من الواضح أن ترامب يبحث عن رضوخ تركيا لمطلبه، الذي سينعكس في النهاية على ارتفاع أسعار الطاقة واستفادة الموردين الأمريكيين، بدلًا من تركيا التي تستفيد منه حاليًا في الداخل ومن خلال بيع منتجات مصافيها من الغاز الروسي إلى الاتحاد الأوروبي. ناهيك عن عدوانية هذا المطلب تجاه روسيا، واستغلال السلوك التركي الجديد المتوقع في أوكرانيا. يدرك ترامب استحالة موافقة تركيا، ومطلبه هذا لا يعدو كونه خديعة، تدفع تركيا نحو مساومة واشنطن وتقديم التنازلات من مخزون علاقاتها وأرجحتها للحفاظ على اقتصادها. كما يُعتبر مقدمة للسياسات الأمريكية الجديدة تجاه تركيا، والتي تستدعي نسف التعويل والاعتداد التركي بالعلاقات والشراكة مع الولاياتالمتحدة التي يصفها الأتراك ب"النموذجية". ويبقى توقيت مطلب ترامب لافتًا في ظل وقوف أنقرة أمام مفترق طرق في خضم صراعاتها الداخلية المعقدة، ووسط توريداتها من الغاز والنفط الروسيين إلى عدة دول أوروبية تقدم لترامب الطاعة الكاملة. يبدو أن ترامب يربط موافقة تركيا بموافقته على بيعها طائرات إف-35، من خلال تصريحه: "نستطيع إبرام صفقة طائرات إف-35 مع تركيا، لكن على أردوغان أن يفعل شيئًا لأجلنا أولًا"، في وقت لا يمكن لواشنطن تسليمها هذه الطائرات إلا في إطار الناتو وحدود التزامها بشروطه، وبشروط إضافية قاسية لمنعها من استخدامها خارجه، خصوصًا وأنها تعاند الرغبة والقوة الإسرائيلية الساعية لإخراجها عسكريًا من الأراضي السورية والعراقية، وأقلّه منعها من إقامة قواعد عسكرية، وتحجيم نفوذها العسكري على الأراضي السورية، والتي ترى فيها سلطات الكيان الإسرائيلي تهديدًا لأمنها ووجودها. تدرك تركيا مخاطر مطالب ترامب، وأنها وقعت في أفخاخه وباتت في ورطة كبيرة، نتيجة محاصرة الرئيس أردوغان ووضعه في موقف لا يُحسد عليه، ومطالبته بالتوقف عن شراء الغاز والنفط الروسيين. إن تغيير ترامب استراتيجيته أثناء وجوده في الأممالمتحدة لم يكن مرتجلًا، بل كان مدروسًا ومسبق التحضير، وليس نتيجة حواراته ولقاءاته بأردوغان وزيلينسكي وقادة آخرين على هامش المؤتمر الأممي. ويمكن ملاحظة نوعية خطاباته وتصريحاته في الفترة التي سبقت المؤتمر الأممي، حيث كان يدعو إلى الحل والسلام في أوكرانيا، لكنه تحول فجأة نحو دعوة زيلينسكي لاستعادة أراضي أوكرانيا بمساعدة أوروبا. من الواضح أن تغيير موقفه المفاجئ تجاه أوكرانيا وسلوكيات الرئيس زيلينسكي يعكس فشله في تحقيق أي إنجاز أو انتصار عبر المفاوضات، لذلك عاد إلى نغمة الضغوطات على روسيا، وللحديث عن عدم امتنانه و"خيبة أمله في مواقف الرئيس بوتين"، وهذا بدوره يمنح الأوروبيين وكييف الضوء الأخضر للتصعيد وعرقلة الحل، ويفسر مضمون كلامه في الأممالمتحدة: "إذا تعذر الاتفاق على وقف إطلاق النار والضمانات الغربية ونشر قوات أوروبية، إذن لندع أوروبا تقاتل روسيا وتواصل دعمها لأوكرانيا، لكننا لا ننوي التدخل في ذلك". هل تفكر تركيا برفض مطلب ترامب؟ ولذلك سارعت للحصول على توريدات نفطية من كردستان العراق؟ ستكشف الأيام القادمة الخبر اليقين، فلننتظر ونراقب.