ما بين التقدير لوسائل الإعلام الأميركية والشك في نواياها خيط رفيع ومسافات شاسعة لا تقطعها حتى المدمرات الأميركية ذاتها ومقاتلات ال «إف. 16»التي تدك الأبرياء والمسالمين في أرجاء شتى من المعمورة تحت دعاوى متعددة. فمن حين إلى آخر تخرج علينا هذه «الميديا» الأميركية بقنبلة من العيار الثقيل ماركة «فضيحة أبوغريب» وكأنها أكثر غيرة على كرامة العرب من العرب أنفسهم. وكأن هذه الأعمال المشينة التي ترتكب بحق العرب والمسلمين فعلها أناس من كوكب آخر أو مجموعة من القبائل الهمجية التي لم تعرف شيئا عن الحضارة الحديثة أو القيم والأخلاق وليست من صنع أيديهم. ولا شك أن تصدي بعض وسائل الإعلام لمثل هذه التجاوزات هو أمر تستحق عليه التقدير والاحترام خاصة وأنها تنتقد الإدارة الأميركية ذاتها وتكشف زيف ادعاءاتها عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان إلى آخر الاسطوانة التي بات الجميع في المنطقة على قناعة بأنها تخفي وراءها الكثير والكثير. غير أن الذي يثير الريبة والشك دائما هو أن كل زوبعة تثيرها وسائل الإعلام الأميركية غالبا ما تتراجع عنها بعد ذلك وغالبا ما ترضخ لضغوط الإدارة الأميركية وتتراجع عما نشرته ويتمخض الجبل عن لا شيء. وكأن الغرض الأساسي كان الزوبعة في حد ذاتها، فإذا وضعنا ذلك في إطار الشكوك المعروفة حول مصادر تسريب هذه المعلومات نجد أننا أمام دور مرسوم تقوم به هذه الأدوات لا يقل خطورة عن دور الدبابة والصاروخ في الحرب الدائرة. على هذا المنوال فجرت مجلة «نيوزويك» فضيحة تدنيس القرآن الكريم على يد الجنود الأميركيين ثم تراجعت عنها بعد ذلك. وهي وصمة عار في جبين أي حضارة فما بالك بحضارة تتباهى بقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. إن الصور التي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية حول الطريقة التي تعامل بها هؤلاء الجنود مع المقدسات الدينية والكتب السماوية تمثل لطمة لهذه القوات التي لا تبرح ترفع الشعارات البراقة في حروبها حول العالم. فإذا أضفنا إلى ذلك توقيت الإعلان عن هذه الأعمال والتراجع عنها بهذه السرعة مع الغموض الذي يلف مصادر تسريب هذه المعلومات نجد أن علامات الاستفهام تزداد اتساعاً. وكما أن تفجير فضيحة أبوغريب تم في أعقاب تدمير القوات الأميركية لمدينة الفلوجة الباسلة والمقاومة الشجاعة التي كبدت المحتلين خسائر باهظة وكسرت هيبتهم.. جاء الإعلان عن فضيحة تدنيس المصحف الشريف في أعقاب أعمال مشابهة في القائم العراقية. وإذا كان الإعلان عن هذه الجرائم قد شكل صدمة قاسية لمشاعر مئات الملايين من المسلمين حول العالم فإن صدمة أخرى لا تقل عنها تمثلت في رد الفعل العربي سواء كان شعبياً أو رسمياً. فقد جاءت الاحتجاجات الكبرى من دول غير عربية في حين تهافت بعض الزعماء العرب على واشنطن للحصول على مكاسب تطيل أعمارهم في السلطة.. حتى المقدسات لم تعد تقف بين هؤلاء وبين الكراسي. توماس فريدمان الكاتب بجريدة «نيويورك تايمز» الأميركية اقترح أن يصدر الرئيس جورج بوش خطاباً صريحاً يقر فيه بأن تدنيس أي كتاب مقدس هو خطأ فادح بحد ذاته، وأن تحقيقاً سيُجرى في الحادثة. ويطالب بتبني سياسة الصراحة مع المسلمين، وذلك لتمتين العلاقات العامة معهم حسب تعبيره. ولعله بلغ في ذلك حدا لم يبلغه بعض الزعماء العرب في تفاعلهم مع الأزمة.