يظن بعض الذين يتصدون للدعوة اليوم ان ما يلقونه على الناس من خطب، مهما بلغت درجة بلاغتهم فيها، ومهما اجادوا أساليب التأثير العاطفي، انهم بذلك يصنعون امة قادرة في هذا الزمان على مواجهة التحديات، لمجرد انهم استذكروا نصوصاً على ان امة الإسلام هي امة العزة والكرامة، ولمجرد الزعم الذي لا يدعمه واقع ان فيها من الطاقات والكفاءات ما يجعلها قادرة على تحقيق المعجزات، ويفرطون في التفاؤل، وهم يدركون ان الداء الذي سرى في اوصال الامة، وجعلها اليوم في مؤخرة أمم الأرض كلها، انما يأتيها من هذا الافراط في التفاؤل، الذي يجعل الخدر يجمد اطرافها،وهو لون خداع فتاك، يصرف الناس عن معرفة الداء واكتشاف الدواء، فالامة منذ سقوطها في مهاوي التخلف المعنوي أولاً، حتى كادت نسبة الامية بين افرادها تتجاوز الثمانين في المائة، ولا تزال حتى يومنا هذا نسبتها عالية، ثم التخلف المادي المترتب على الجهل، لم تعد امتنا حاضرة في العصر الذي تعيش، وأصبحت مغيبة عن الإنجاز الحضاري، لأنها لا تمتلك أدواته، ولا منجاة لها من هذا الوضع المتردي الا ان تسلك الطريق المؤدي إلى التقدم، فتهتم بالعلوم الرائدة في تحقيق تقدم الأمم، وهي العلوم الدنيوية التقنية، وان تعلي مكانة المبدعين فيها في شتى المجالات، وتتيح لهم ان يعملوا بحرية لينهضوا، ويشقوا بها الطريق السوي المحقق للتقدم، وهذا لا يقتضي ان تستغني عن العلوم النظرية وعلى رأسها العلوم الدينية، فالتقدم لا يتحقق الا بالنوعين معاً، ولكن ان توازن بين ما تحتاجه من حملة الشهادات في هذه العلوم النظرية، وما هي في أمس الحاجة اليه من العلوم التقنية التي تنهض بأحوال الامة، وتجعلها تستغني عن ان تكون عالة على الأمم المتقدمة في كل احتياجاتها فقوة الامة تكمن في قدرتها على ان تنافس الأمم الأخرى في شتى المجالات سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وعن طريق قدرتها على إنتاج غالب ما تحتاجه وحتى أن تكون امة مرهوبة الجانب فلابد لها من قوة رادعة تمنع الاعتداء عليها، ولن يكون ذلك الا بعلم تنتج به سلاحها وذخيرتها، وان تطوره حتى تتساوى مع غيرها في هذا المجال ولا تكون الأدنى، وكل هذا لن يتحقق لنا الا بان يكون اهتمامنا بالعلوم الطبيعية والتقنية قد بلغ أقصى مداه، فقد امتلأت ارض المسلمين بمن يحملون أعلى الشهادات في العلوم النظرية الحديثة، وهم للاسف لم يضيفوا اليها شيئاً يذكر حتى يومنا هذا، فما هم الا مستهلكون لا منتجين حتى في هذا الجانب، ومن اضاف إلى العلوم النظرية شيئاً فهو اليوم يعيش في ارض أخرى بعيداً عن وطنه، فأوطان المسلمين عملتها الرديئة تطرد العملة الجيدة، اما العلوم الدينية فغالب علمائها اليوم لم يعودوا قادرين على البحث فيها والتجديد فيها، والذين نبغوا في العلوم الطبيعية والتقنية لم يتحقق لهم ذلك الا بما اتاحته لهم المراكز العلمية في الغرب، وهذه حقيقة لا تقبل التزييف، ومن يعتقد انه يستطيع ان يستنهض الامة، وهي تيعش ركوداً وسكوناً لم تمر به من قبل بمثل ما يطرحه بعض هؤلاء الذين يتصدون اليوم للدعوة، ولا يمتلكون المعرفة بالواقع، فهم في الحقيقة واهمون يريدون ان يحذروا افراد الامة ويصرفونهم عن الحقائق بأوهام لا تجدي نفعاً، ليبحروا وراء سراب، حين يبلغونه سيعضون أصابع الندم، ان لم يسمعوا للناصحين المخلصين، الذين يبصرونهم بالحقائق ويصفون لهم العلاج الناجع، ومن هؤلاء الواهمين من إذا حدثته بهذا، اخذ يتحدث عن الإحباط والتشاؤم وكأنك تدعو اليه، وهو يعلم يقيناً انك لا تدعو إلى شيء من هذا، فالذي يفتك بالامة حقاً هو تزييف الحقائق وبيع الاوهام لها، والمعلوم بداهة ان طرفي المعادلة ضار، فالافراط في التفاؤل الذي لا يبنى على حقائق وهم يخدر الناس ويجعلهم لا يشعرون بالخطر، ويجعلهم لا يدركون الحقيقة، التي ادراكها هو الطريق السوي للنجاة، فالناس إذا علموا أسباب تخلف امتهم سعوا للتغلب عليها افراداً وجماعات اما إذا قيل لهم ان الامة مرحومة منصورة وان فرطت، وانها امة النصر والعزة مهما كانت الحالة التي هي عليها، فذاك هو الوهم الذي يغلف بمعسول الكلام الذي يضر بالامة حقاً، كما ان التشاؤم إذا بلغ حد الا يعمل الناس للنهوض بأمتهم ضار أيضاً، ولكن وصف واقع الامة وذكر أسباب هذا الواقع ورسم الطريق لإزالة هذه الأسباب بالعمل انما هو الحق الذي لا يجب ان يلتفت إلى غيره، ولعل بعض هؤلاء الذين يبيعون امتهم الاوهام يكفوا عن ذلك فهو لهم ولها الاجدى والانفع فهل هم فاعلون، ذاك ما ارجوه والله ولي التوفيق. "المدينة"