حضرموت، الأرض الطيبة وشعبها المسالم، كانت ولا تزال قلب الجنوب النابض وذاكرته العميقة. منذ عام 1994، عقب الوحدة اليمنية وما رافقها من أحداث مؤلمة، تحولت هذه المحافظة إلى ساحة صراع على الهوية والانتماء، حيث كثّفت قوى الشمال محاولاتها لفصلها عن جذورها الجنوبية وفرض واقع جديد يجعلها أسيرة الهيمنة والطمع. منذ ذلك الحين، لم تتوقف القوى المتنفذة في الشمال عن التعامل مع حضرموت كغنيمة استراتيجية وثروة طبيعية هائلة، طامعة في مواردها التي تمثل مفتاحًا للقوة والنفوذ. تدرجت أساليبهم بين السيطرة السياسية والاقتصادية والعسكرية، وشراء الولاءات، وترسيخ الحزبية الموجهة، والتغلغل في النسيج القبلي، بل وصلت إلى محاولة فاشلة لتقسيم المحافظة إلى محافظتين.
كما سعوا إلى تفكيك الهوية الجنوبية لحضرموت بأسلوب "دس السمن بالعسل"، عبر تشجيع النزعة للابتعاد عن النسيج الجنوبي، وأخيرًا بزرع الفتن بين مناطق المحافظة المختلفة (الهضبة، الساحل، الوادي)، وخلق الخلافات بين مواطنيها المسالمين، تمهيدًا لابتلاعها وإخضاع أبنائها إلى الأبد.
وجود قوات المنطقة العسكرية الأولى في وادي حضرموت اليوم هو شاهد حي على هذه الهيمنة، فهي ليست قوة أمنية لحماية المواطنين ولا هي قوات وطنية، بل أداة ضغط عسكري وسياسي لضبط المشهد وإحكام السيطرة على الثروة وإبقاء المحافظة بعيدة عن بقية الجنوب.
ما تشهده تريم والوادي اليوم ليس وليد اللحظة، بل نتيجة تراكمات عقود طويلة، تُترجم اليوم باستخدام العنف المفرط ضد المعتصمين، وإطلاق الرصاص الحي على أبناء المدينة، في مشهد يكشف ضراوة المحتل حين تُمس مصالحه.
ويبقى السؤال: هل ستنجح قوى الشمال في تفكيك حضرموت عن الجنوب؟ المؤشرات تقول إن ذلك صعب المنال، إذ أثبتت الانتفاضات الحضرمية في كل مناسبة جنوبية أن وعي أبنائها بحقيقتهم وانتمائهم عصي على الطمس. حتى مخرجات ما يسمى ب"الحوار اليمني" حملت محاولات واضحة ومفصلة لسلخ المحافظة عن محيطها الجنوبي، لكن حضرموت واجهتها بصمود متجذر.
اليوم، معركة حضرموت ليست فقط ضد الإقصاء أو الهيمنة على ثرواتها، بل معركة وجود وهوية. كل خطوة عسكرية أو سياسية في الوادي هي جزء من خطة أوسع لانتزاع المحافظة من قلب الجنوب، لكن كل هذه المحاولات تصطدم بجدار صلب من الرفض الشعبي والقبلي.
على الحضارم أن يتنبهوا لهذا الفخ، وألا يسمحوا بتحويل الصراع إلى نزاعات داخلية. فالجنوب هو الحاضنة الآمنة لهم، والمجلس الانتقالي قد طرح بوضوح مشروع الفيدرالية الذي يحفظ حقوقهم ويحمي خصوصيتهم.
في النهاية، حضرموت ليست مجرد أرض وثروات، بل قصة صمود ووفاء لهوية الجنوب، ورسالة واضحة بأن هذه الأرض ستظل جنوبية مهما تكالبت القوى وتغيرت الظروف.