في صمت المعابد المهيبة، حيث يحكي كل حجر ملحمة من ملاحم العظمة، جلس رمسيس الثاني، ملك الملوك، ليُنطق ابنه ووريث عرشه، مرنبتاح، بأعظم وصية يمكن أن تنتقل من ملك إلى خليفته. لم تكن وصية ذهبًا أو سلطةً زائلة، بل كانت إعلانًا خالدًا عن حقيقة كونية: "مصر... لا تموت". هذه العبارة ليست مجرد شعار، بل هي جوهر وجود وُلد من رحم الجغرافيا والتاريخ والإيمان. إنها القاعدة الصلبة التي بُنيت عليها أعرق حضارة عرفها الإنسان.
"أنت يا ملك كيميت (مصر) القادم، اعرف أنك ورثت عن أجدادك مملكة عظيمة لا تغيب عنها الشمس أبداً..."
هنا، يضع الملك العظيم ابنه أمام حقيقة الإرث. فالمملكة التي يتسلمها ليست أرضًا فحسب، بل هي "مملكة عظيمة" بكل ما تحمله الكلمة من معنى: حضارة شامخة، وعلمًا نيرًا، وفنًا رفيعًا، وقيمًا إنسانية سامية. وهي "لا تغيب عنها الشمس"، فهي ليست مجرد مكان على الخريطة، بل هي مركز إشعاع دائم للثقافة والمعرفة، نورها ذاتي ينبع من قدسية أرضها ومجد شعبها.
"... فهي أرض الإله المقدسة، التي جعلها نوراً للعالم..."
يكشف رمسيس الثاني عن المصدر الحقيقي لقوة مصر وخلودها. فهي "أرض الإله المقدسة"، مُباركة، محفوظة بمشيئة إلهية. هذه القدسية هي التي جعلتها "نورًا للعالم"، منارة تهتدي بها الإنسانية في ظلمات الجهل والظلام. مصر لم تكن يومًا دولة عادية؛ لقد كانت ومازالت فكرة سامية، وهدية للبشرية جمعاء.
"... ولا يرضي الإله أن تموت أرضه أبداَ. حافظ عليها من أعدائها، كما حافظ عليها أجدادك من قبل."
هذه هي الصيغة الأمرية في الوصية، وهي المسؤولية المقدسة. الخلود ليس حتميةً ميكانيكية، بل هو وعد إلهي يقابله واجب إنساني. الخلود يحتاج إلى "حراس"، إلى رجال ونساء يُعيدون تأكيد هذا العهد جيلاً بعد جيل. الحماية هنا ليست للحدود فحسب، بل للهوية، للثقافة، للروح المصرية الأصيلة التي صمدت أمام غزوات الطامعين وعبث الجاهلين عبر آلاف السنين.
مصر...أرض لا تموت. وشعب...لا يندثر. نورها... قد يخفت ولكنه لا يظلم أبداً.
هذه هي الحقيقة المُطلقة. قد تمر على مصر فترات يُخيّم فيها الظلام، وتتعرض فيها لظروف قاسية، "فيخفت نورها"، لكنه، وكما تؤكد الوصية، "لا يظلم أبداً". النور الخافت قادر على الاستعادة والاشتعال مرة أخرى، لأنه نور نابع من قلب أبدي لا يعرف الانطفاء. والشعب المصري، بصموده الأسطوري وحكمته التي اكتسبها من طول التاريخ، هو وقود هذا النور الدائم. هو شعب "لا يندثر"، يحمل في جيناته ذاكرة الأجداد وإرادة الحياة.
لذلك، نحن اليوم لسنا فقط ورثةَ أرض، بل ورثةُ وصية خلود. مهمتنا أن نكون "حراس الهوية" الحقيقيين، وأن نثبت أننا "نجباء مصر" الذين حافظوا على العهد. أن نحمل راية العلم، والفن، والأخلاق، والقوة التي تليق بأرض لا تموت.
فكما قال رمسيس من آلاف السنين، وتأكد عبر العصور: مصر باقية، ومصر دائمة، ومصر... لا تموت.