تمكن الشاب "عبدالكريم حسن" من الهرب والنجاة بنفسه عقب دخول الحوثيين إلى منطقته الريفية في محافظة ذمار وسط اليمن، وكان عليه لبلوغ مقصده في مأرب شرقاً أن يمر من المحافظات الجنوبية المحررة التي تمكن من دخولها بحيلة عجيبة بعد ثلاثة أيام من التعثر في نقاط التفتيش التابعة -بشيء من التداخل- لكل من فصيل الحراك الجنوبي الحاكم، وقوات "الحزام الأمني" التابعة للإمارات والتي يشار في قيادتها يمنيا إلى الوزير المقال "هاني بن بريك". يسرد عبدالكريم قصته وحيلته العجيبة وهو يضحك بين وقت وآخر تعبيرا عن النشوة بعقله الأذكى من التيار الحاكم للمحافظات الجنوبية، ويضحك أحيانا أخرى لإخفاء إحساسه بالألم على وطنه الأضعف من حيل عشاق الكراسي.. كان يتجاوز بعض نقاط التفتيش بسلاسة، ويتجاوز أخرى بالرشوة، لكنه في كل مرة كان يصطدم بتلك النقطة اللعينة التي تصر على اعتراضه كلما وصلها بعد اجتياز عشرات النقاط المنتشرة على عشرات الكيلو مترات، ولا يمكنه في كل مرة إلا أن يعود أدراجه إلى المنطقة الواقعة قبل النقطة الأولى.. تكررت هذه الرحلة المملة لثلاثة أيام حتى نفد صبره وماله، وإذا به –و"الحاجة أم الاختراع"- يقرر اللجوء إلى حيلة عجيبة، وكان لابد لتنفيذها من أن يستنجد عبر رسالة "واتس أب" بأحد أقاربه في السعودية، طالبا منه تحويل سبعين ألف ريال يمني عبر صديق من أبناء عدن سبق أن تعرف عليه في "فيس بوك".. أوصل صديقه المبلغ المطلوب، وحان وقت تنفيذ الحيلة كمحاولة أخيرة..
يتابع: قصدت هناك واحدة من سيارات النقل الثقيل "سيارة دينّا"، واتفقت مع صاحبها على شراء حمولتها من الرمل وإيصالها إلى عدن.. تمت الصفقة، ونجحت الخطوة الأولى، وراحت الناقلة تشق بنا الطريق صوب عدن وتتخطى نقاط التفتيش بسلاسة، فلم يكن عليّ عند كل نقطة سوى أن أنتصب واقفا فوق كوم الرمل على ظهر السيارة وأنا فاتح صدري ومُعطف أكمام قميصي، متظاهرا بأنني العامل الذي ينقل الرمل، وقد تكفلت "البهذلة" التي تعرضت الأيام الفائتة بتعديل بقية مظهري بحسب المطلوب.. كنت أشعر بالسعادة كلما تجاوزنا إحدى النقاط والأحداث تمضي بحسب المرسوم، وظل التفتيش في النقاط يتركز على السائق ولم يكن يخطر ببال أحد من أفراد النقاط أن ينظر إلى العامل الواقف على كوم الرمل.. نجحت الحيلة، ووصل عبدالكريم إلى عدن التي غادرها في اليوم التالي تاركا فيها كوم الرمل، وحاملا بدلا عنه أكواما من الحسرة على وطنه، والحسرة بشكل خاص على عدن التي هي أعرق مدن الجزيرة وأسبقها علما وتمدنا وحضارة وعبث بها أولئك العابثون وبات عليه وهو اليمني صاخب الشهادة العليا أن يدخلها بكوم رمل..!!
تجددت حملة التضييق على أبناء المحافظات الشمالية في نقاط التفتيش بالمحافظات الجنوبية المحررة والتعسفات التي تطالهم منذ إقالة عيدروس الزبيدي من موقع محافظ عدن، وإقالة الوزير هاني بن بريك، وأطلق الأخير على خلفية هذه الإقالة تهديدا باستخدام نقاط التفتيش ضد أبناء المحافظات الشمالية كوسيلة للضغط على الشرعية والمملكة، وعبر عن تهديده بصيغة التلميح على صفحته في "تويتر": "أنا رجل مقاومة قبل الوزارة وأثناءها وبعدها وإخوتي في الجبهات وفي المدن على نفاط التفتيش والمنشئات..".
قام الاثنان وبدعم إماراتي بالإعلان عن ما أسموه "المجلس الانتقالي الجنوبي"، محددين له عددا من المهام أبرزها إدارة شؤون الجنوب بعيدا عن الرئيس هادي وشرعيته وبالاستناد بدلا عنها إلى ما وصفوه بشرعية المقاومة والتفويض الشعبي التي قالوا إنها هي وحدها صاحبة الشرعية الحقيقية حسب ما نصوا عليه فيما سمي ب"الإعلان التاريخي". وعاد الحديث الإعلامي عن وحدة اليمن ومشكلة الجنوب اليمني إلى صدارة القضايا المثارة، في توقيت حساس بالنسبة لليمن ولدول الإقليم، وعلى حساب عنوان المعركة الأصلية في مواجهة انقلاب صالح والحوثيين.
تفاجأت الشرعية بهذه الخطوة من الحراك، فيما الحقيقة أن تفاجؤها هو الغريب، إذ كان هذا الإجراء من الحراك نتيجة طبيعية للسياسة التي اتبعتها الشرعية في عدنوالمحافظات الجنوبية على امتداد السنتين الماضيتين واللتين أسندت خلالهما مقاليد الأمور للحراك الجنوبي منفردا بالتوازي مع العزوف عن أي خطوات باتجاه إعادة بناء مؤسسات الدولة.
رغم ذلك، أثار هذا التشكيل للمجلس الانتقالي الجنوبي إشكاليات عديدة لشرعية الرئيس هادي، وأخرى للمملكة التي تقود التحالف وعملياته العسكرية في اليمن مستندة إلى ذات الشرعية "شرعية هادي"، وعلى رأس هذه القائمة مشكلة آنية تتلخص في أن إثارة مطالب الانفصال في الوقت الراهن من شأنها أن تجعل من الوحدة والانفصال عنوانا رئيسيا للمرحلة على حساب عنوان المعركة الحقيقة والمعركة الكبرى الرامية لإنهاء الانقلاب سعيها لاستكمال تحرير الأراضي اليمنية وإنهاء انقلاب صالح والحوثي، كما من شأنها التأثير السلبي وبشكل مباشر على الموقف السياسي لكل من "الشرعية" ودول التحالف العربي اللتان تنظران إلى هذه المعركة على أنها معركة مصيرية، ويستثنى من التحالف دولة الإمارات التي تتوالى مظاهر لعبها أدوارا مستقلة عن التحالف أفضت بها مؤخرا إلى الوقوف في مربع النقيض للمملكة التي تقود التحالف، وللرئيس هادي الذي تستمد شرعيتها في اليمن من شرعيته، حتى راح البعض يطلق عليها "دولة المؤامرات العربية المتحدة".
خلال سنتين مضت، ظلت الإمارات وأطراف دولية عديدة تحشد الضغوطات ضد الشرعية اليمنية وقيادة التحالف العربي، بهدف إجبارهم على الخضوع لعملية سياسية تقوم على التسوية بينهم وبين صالح والحوثيين، وتضمن إنقاذ أكبر قدر ممكن من المكاسب التي حققتها إيران بذلك الانقلاب، ويبدو أنها وجدت اليوم في إثارة المطالبة بالانفصال فرصتها لتحقيق هذا الهدف، خاصة وأن جهودا دولية كبيرة تبذل في الوقت الحالي لإحياء العملية السياسية التي تقودها رسميا الأممالمتحدة، ووسيلتها الحوار بين الشرعية وحلف الانقلاب "الحوثي، وصالح"، وغايتها التسوية وإعادة صياغة النظام الحاكم في اليمن بالشراكة بين الطرفين، وتنظر الإمارات إلى هذه الفرصة بأمل وحماس كبير بعد سنتين من صقل رأس الحربة التي أصبحت جاهزة لتوجيهها إلى صدر السعودية، وهي حديدة ممزوجة من التحالف الحاكم في عدنوالمحافظات المجاورة، والمكون من فصيلٍ في تيار الحراك الجنوبي يقوده محافظ عدن المقال "عيدروس الزبيدي"، وفصيلٍ بات يعرف ب"التيار السلفي الإماراتي" ويقوده الوزير المقال والمحال للتحقيق "هاني بن بريك". ومما يزيد حماسها لهذه الفرصة هو مقدار الخبرة التي راكمتها المحاولات التي تعثرت سابقا، وتحديدا في مثل هذه الأيام من العام الفائت.
في فبراير من لعام الماضي قدم وزير الخارجية الأمريكي "جون كيري" في زيارة للسعودية، متبنيا الدعوة إلى مسار سياسي لحل الأزمة اليمنية بين الحكومة الشرعية وبين حلف الانقلاب، وهي الفكرة التي تبلورت مادةً للمفاوضات فيما عرف ب"مباحثات الكويت" وانطلقت برعاية أممية في 22 أبريل من العام نفسه، وكانت بمثابة عملية تحميض للصورة الغامضة في موقف الحراك الجنوبي تجاه الشرعية، ومن خلفه الإمارات، وهو الموقف الذي ظهر مزدوجا، أو متذبذبا بين التأييد ونقيضه، وبين المكشوف والمستور.
لم تتوقف الولاياتالمتحدة وأطراف دولية خلال تلك المباحثات عن ممارسة الضغوطات على الشرعية لإجبارها على القبول بتسوية سياسية مع حلف الانقلاب تتجاوز بنود القرار الأممي 2216، وكان الوضع في المحافظات الجنوبية من أهم الأوراق التي تستند إليها هذه الضغوطات بتصويرها أن الحكومة الشرعية لا تمثل كل اليمنيين المناهضين لحلف الانقلاب، وأنها تواجه رفضا من قبل المحافظات الجنوبية، وبما يعني أن الصراع المنحصر في المحافظات الشمالية مجرد صراع بين تيارات وقوى قبلية وتقليدية يجب أن يحل بتسوية سياسية بعيدا عن فكرة إعادة الشرعية إلى الحكم وفق القرار الأممي 2216.
كان هذا سببا مباشرا يدفع السعودية لمحاولة إثبات العكس من خلال أداتها المتمثلة بالسلطة الشرعية اليمنية "رئاسة وحكومة"، ولجأت في أهم ما فعلته بهذا الاتجاه إلى إعادة الرئاسة والحكومة إلى عدن، فيما كانت الإمارات تجاري تلك الأطراف الدولية، واتجهت إلى استخدام أداتها المتمثلة بالحراك الجنوبي و"التيار السلفي الإماراتي" بهدف إثبات واقعية رؤية تلك الأطراف الدولية، أي إثبات أن الجنوب ليس مع الشرعية. وكان من ذلك أحداث كبيرة أبرزها حملة الترحيلات لأبناء المحافظات الشمالية من عدن، ومحاولة إعلان الانفصال.
عقب انطلاق المباحثات بالعاصمة الكويتية في (22 أبريل) بأسبوعين فقط، وتحديدا في (7 مايو)، انطلقت في عدن عملية ترحيل وتهجير أبناء المحافظات الشمالية من عدن، مثيرة ضجة إعلامية وسياسية كبيرة، وسرعان ما انتقلت العدوى إلى محافظاتلحج والضالع التي يحكمها ذات التيار، وصاحبها بالطبع توجيه نقاط التفتيش في منافذ المحافظات والجنوبية بالتضييق على أبناء المحافظات الشمالية ومنع دخولهم.
تركزت التناولات الإعلامية على البعد الإنساني والحقوقي لهذه الحملة مع شيء من استبعاد البعد السياسي المتصل بمباحثات الكويت، وهو الهدف الذي عبر عنه في ذلك الحين رئيس الوزراء حين وصف الإجراء المتخذ في عدنوالمحافظات المجاورة ضد أبناء المحافظات الشمالية بأنه "يضعف موقف الشرعية"، في إشارة إلى الموقف السياسي للشرعية بتلك المباحثات.
وبعيدا عن النواحي القانونية والإنسانية والأخلاقية للحملة، فإن توقيتها بعد أسبوعين فقط من انطلاق مباحثات الكويت، يحمل الدلالة الواضحة لهذا البعد السياسي المباشر، ويتعزز بالطريقة التي اتبعت في تنفيذ الحملة، إذ غلب عليها تعمد إحداث ضجة وإثارة إعلامية كبيرة تستطيع أن توصل الرسالة السياسية المقصودة إلى صالة مباحثات الكويت. وقد استمرت هذه الحملة ميدانيا على امتداد فترة انعقاد المباحثات هناك، ثم ارتفعت بارتفاعها، وإلى أن عادت مؤخرا -وإن بإثارة أقل- من الحملة الحالية.
محاولة إعلان الانفصال
بالتوازي مع حملة ترحيل المئات من أبناء المحافظات الشمالية مطلع مايو، والتي دشنت بعد أسبوعين من انعقاد مباحثات الكويت، انطلقت مساعٍ حثيثة لتأليب جماهير الحراك وحشدها إلى الميادين العامة في ذكرى تحقيق الوحدة "22 مايو"، بهدف إعلان الانفصال، لتكون هذه الخطوة ضربة في العمود الفقري للسلطة الشرعية تجبرها على الانحناء في مباحثات الكويت، والتوقيع على تسوية سياسية تنتهي بها حرب التحالف بقيادة السعودية قبل أن تبلغ أهدافها بشأن إنهاء الانقلاب، وتستبقي صالح والحوثيين شركاء في السلطة.
لم يكن مثل هذا الإعلان ليُقصد منه تحقيق الانفصال فعلا، إذ ليس إعلان الانفصال هو كل ما تتطلبه إقامة الدولة المستقلة، إلا أن مجرد صدور الإعلان بهذا المضمون كان سيمثل ضربة قاتلة لموقف الشرعية في تلك المباحثات، ولموقف المملكة وعموم دول التحالف باستثناء الإمارات التي كان لها رأي مختلف عن رأي المملكة وغير معلن.
كان الخطر واضحا لدى الشرعية والتحالف، وهو ما فسر تدخلا سعوديا عاجلا ذلك الحين، وتمثل الجزء الواضح منه بثلاث رسائل سعودية إلى الرئيس اليمني مساء 21 مايو، تضمنت تهنئته بمناسبة ذكرى تحقيق الوحدة وتأكيد المملكة موقفها الداعم لوحدة اليمن، وتلاها رسائل مماثلة من دول الخليج ودول التحالف والجامعة العربية، وكان الملفت في الرسالة السعودية توقيت إرسالها مساء 21 مايو، وأنها تعددت ولم تأت رسالة واحدة باسم الملك كما جرت العادة وفق البروتوكولات الدبلوماسية، بل حملت الأولى توقيع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وحملت الثانية توقيع ولي العهد الأمير نايف بن عبدالعزيز، وحملت الثالثة توقيع ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وهو ما تكرر هذا العام أيضا.
مجددا، عاد قرار الترحيلات لأبناء المحافظات الشمالية، وأقدم الحراك والتيار السلفي الإماراتي على إعلان "المجلس الانتقالي الجنوبي التي تقابل خطوة إعلان الانفصال التي أجهضت العام الفائت في مثل هذا الشهر.
وفي حين يدرك الجميع أن هذه الإجراءات ليس طريقا مفضيا لاستعادة الدولة التي ينشدونها، فإن كل ما كان هنالك، وعاد اليوم من جديد، هو أن الإمارات ومن ورائها أطراف دولية كبرى تستغل الحراك الجنوبي الذي تقدمه متبنيا ل"القضية الجنوبية"، وتستخدمه كمظلة تتمكن بها من الهبوط السليم لهدفها المتمثل في إجبار الشرعية والمملكة على الخضوع للتسوية مع صالح والحوثيين، وإذا تحقق هذا فعلا فسيتفاجأ الحراك ساعتها أنه لا يملك أي ضمانات لاستمرار الإمارات معه في ذات الطريق حتى تحقيق أهدافه هو!!