الحضور الحقيقي يفرض ذاته ولا يحتاج لتسول طيبتنا وحسن أنظارنا كي نجيزه وأحيانا قد لا يعجبك شخص ما ولا تروقك بعض صفاته لكنك لا تستطيع إنكار قوة شخصيته وذكائه وتوقده وجاذبيته الواضحة المظاهر لا تخدعنا أبدا والزائف يعلن عن نفسه مهما تجمل أو ادعى وحاول إخفاء تفاهته وخفته وسطحيته وارتباكه، أنا أشك دائماً بكل من يجعلك تتهم روحك وحساسيتك وتضغط على مشاعرك كي تدعه يمر، الروح لا تقبل الإكراهات وتبدي رفضا فطريا وعفويا لكل ما يثقل عليها الروح كاشفة لا يمكن مخادعتها على الإطلاق والحضور الصادق اكتفاء لا يحتاج إلى مساءلة أو إثبات "كل صدق يسأل عنه لا بعول عليه". إن من يعيش حالة من قلق التحقق وانعدام الشعور بالامتلاء والوجود الخالص لا يستطيع مطلقا إخفاء تمزقه الداخلي وخواء روحه خلال كده الدائب لتثبيت صورة مقبولة عنه خارج ذاته ولتلقي اعتراف مطمئن من الآخرين، الشعور الذاتي بنقص الكينونة ينجز تعبيراته الفاضحة على شكل زوائد وادعاءات عظمة وتعويضات خطابية وحركية واستعراضات فجة مقيتة وصادمة في كثير من الأحيان لا تزيد الشخصية إلا غيابا وانمحاء في عين الوجود المحض ربما لم يجد هؤلاء من يمحضهم النصح ويعلمهم كيف يدعون أرواحهم تنجز حضورها بكل ما هي عليه من براءة وعفوية وتلقائية وصدق كي تحضر دونما عناء وكلفات مظهرية باذخة تبخس القدر وتوسع دائرة المقت والازدراء، وكثيرا ما يعاني هؤلاء من اضطراب الشخصية وعدم القدرة على التناغم والتساوق والانسجام ويتسمون عادة بروح عدائية وعدم توازن حاد لا يتسول ذاته من عيون الآخرين إلا فارغ فقير الروح لم يكتشف بعد داخله من غنى المعنى والقيمة ما يكفيه التكسر أو التمظهر أمام الناس.
نحن ندفع الثمن غالبا عن تواطؤاتنا على تمرير العاهات والحقارات المتحملة والتربيت على عقد النقص والتناقضات والنزوعات الهوسية.. ندفع من صحتنا وعافيتنا الخاصة والعامة.. نضع سلامتنا بمفهومها الواسع تحت التهديد.
هذه الارتدادات والاستعدادات النكوصية الإتقلابية والقابليات الفاجعة للتخلي عن المبادئ والمثل والتراجع عن المواقف والأفكار التي كانت عنوان الحضور ومحدد الهوية، كل هذه الظهورات الفجة ثقيلة الوطأة هي بعض البشاعات التي منحت حق التواجد وتعاهد الجميع على تأجيل التحديق إليها بعناية وانتباه لا تحتاج لأن تكذب مادام لديك من الصدق ما يغنيك، ثمة فرق بين أن تقول وأن تتقول، اللغة لسان مقال ومكشاف حال مهما بلغ التنميق والتزويق ينتصر للشر من لا يهمه مكافحة شروره نفسه، ربما على المرء في هذه الظروف أن يستجمع كل بلاهته وغبائه ولامبالاته ويلتمس له صدامات واقية تجعله أكثر تناحة وبلادة في مواجهة الآفات المستشرية وحالات الطفح الخلقي والانهيار القيمي المريع تعلن عن نفسها الخيانات مهما تجملت ولحظة الصدق مختبر الأكاذيب تمتحن الجوهر النفيس وتنزع كل الأقنعة.