كي نبرهن على أن علاقتنا بالإيمان والحكمة ليست مجرد ادعاء لا بد أن ندرك أن الوضع الإنساني لغالبية أبناء الشعب اليمني أصبح شديد الحرج ووضع الدولة اليمنية عموماً قد تجاوز حالة الدولة الفاشلة إلى الدولة المفككة، وأن التفكير الجاد في مصالحة وطنية حقيقية بات ضرورة ملحة ليس بمفهوم تقاسم المصالح غير المشروعة بين تجار الحروب ولصوص السياسة ، وإنما بمفهوم الموازنة الواعية بين العدالة والمساواة التي يقع على المجتمع صاحب السلطة الشرعية ومالكها في كل الظروف مسؤولية استعادتها والنهوض بها ، ومنع أي سلطة من المساس ببنية الدولة وهيبتها لا ينفصل فيها الشكل عن المحتوى ، ويقيناً أن سلطات الأمر الواقع أينما وجدت في ظل التشظي القائم يقع عليها مسؤوليات قانونية وأخلاقية في بذل أقصى الجهود لاستعادة الوضع الطبيعي للدولة طالما وقد حمَّلت نفسها مسؤولية إدارة سلطاتها والدفاع عنها منذ بدء الفراغ السياسي المباشر أياً كانت أسبابه فدراسة الأسباب بحثٌ آخر، وأولى خطوات في سبيل ذلك بذل أقصى جهد للوصول إلى حالة الشرعية الدستورية القائمة على انتخابات برلمانية ورئاسية خالية من التزوير وبإشراف دولي محايد ليس من ضمنه أيٌّ من الدول المشاركة في العدوان أو المتورطة فيه ؛ فالمصالحة الوطنية الجادة التي لا تستثني أحداً والتي تؤدي إلى السلام الدائم لا يمكن أن يملي شروطها أو يضع مبادراتها من شارك في العدوان أو الاقتتال، وغير قابلة للتلاعب بها بحجة المحاصصة أو توافق لصوص السياسة على تحويل الوطن إلى كعكة يستأثر بها عتاة المتسابقين على السلطة بشتى الوسائل ومن كل التيارات في ظل الفراغ السياسي الممنهج، ولا بد للقوى التي تدعي انتماءها الوطني أن تبرهن على عمق هذا الانتماء برفض كل أشكال العدوان والتدخل في شؤون اليمن وتبعاته القانونية والأخلاقية والإنسانية. لقد أثبت ذوو المصالح المتوحشة من كل الاتجاهات والجهات بالسلوك العملي أن شرههم وجشعهم على السلطة قد أعماهم عن استيعاب أهمية العلاقات الإنسانية والإخاء في بناء الوطن وأبقتهم رهن انتماءاتهم الضيقة وسعيهم المستمر للاستقواء بالخارج بمبررات واهية أبعدتهم عن الانتماء الوطني والتمسك بروح العدالة الأقرب للتقوى رغم حديثهم المستمر عنها وإظهار الخشوع الذي لا يتجاوز القشور ناسين أو متناسيين قول الإمام علي كرم الله وجهه (الإنسان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) حكمة صار لها حضورها الإنساني في أدبيات منظمة الأممالمتحدة في حين غابت وطنياً عن ممارسات من تشغلهم روابط الجاهلية في أبشع صورها !. المصالحة الوطنية المطلوبة بقراءة جادة وتقييم موضوعي تتطلب يقظة ضمير واحترام لكل القيم ونبذ لغرائز المصالح المتوحشة بكل صورها وأشكالها لأن حجم معاناة اليمنيين لا تطاق ولا بد أن تكون المصالحة بحجم الوطن لا بحجم الانتماءات الضيقة والحسابات السياسية المتاجرة بالمعاناة، ومن يدعي التدين عليه أن يرتقي بتدينه من حالة رفع الشعارات والضجيج الإعلامي إلى مفهوم كون الدين جاء ليتمم مكارم الأخلاق أي أنه لم يأت من عدم ولا ينبغي أن يؤول إلى العدم، إنه درجة في سلم الانتماء الإنساني المنسجم مع كل المبادئ والقيم التي تحث على حب الوطن وفق هذا الأفق الرحب. والعدالة تبعاً لذلك لها منطلق وطني وأفق إنساني يستوعب كل أشكال الانتماءات والهويات وفق قاعدة (التعددية في إطار الوحدة) القائمة على الحوار والشراكة وليس المحاصصة والتقاسم التي أساءت لوحدة 1990 ومن يتعمق يجد أن وظائف جميع سلطات الدولة يجب أن تتصل بشكل أو بآخر بتحقيق العدالة بمفهومها الواسع وليس فقط بما تمارسه السلطة القضائية والمنظومة ذات العلاقة بها ، وهذه الوظائف ينبغي أن تدار بالحرص على تطبيق مبدأ سيادة القانون ومبدأ (العدالة شكلية) الذي يعني تطبيقها على الناس وللناس كافة وبدقة مع الرقابة الشاملة السابقة واللاحقة لأي إجراء وبعيداً عن الخلط العشوائي بين الدين والسياسة ، لأن هذا الخلط من طرق اتساع رقعة النفاق وضياع ما هو لله وما هو لقيصر، وفي ظاهر الأرض اليمنية وبباطنها ما يكفي لإشباع كل المصالح المشروعة. والمصالحة الوطنية وفق هذه الرؤية يصنعها أو يقبل بها أي مواطن سليم الفكر والشعور لا تحكم أو تتحكم بعقله وضميره أي شكل من أشكال العصبيات، ولهذا فعلاقته بالسلطة غالباً وفي أحسن الافتراضات ليست إيجابية، صحيح أن هذا التوصيف قد يبدو مثالياً ولكن المطلوب دائما بذل الجهد لتحقيق المقدار الممكن من الأحلام وهو جهدٌ لا بد أن يتواصل وأن يخضع للتقييم والنقد والمراجعة المستمرة بوعي وإدراك وبُعد عن الأهواء والأمزجة. (إني أرى..، فأرى جموعاً جمةً * لكنها تحيا بلا ألبابِ لُعبٌ تحرِّكُها المطامعُ والُّلهى * وصغائرُ الأحقادِ والآرابِ) (أبو القاسم الشابي)