تشكيلات الانتقالي تقتحم مخبزا خيريا في عدن وتختطف أحد الموظفين    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    على طريقة الاحتلال الإسرائيلي.. جرف وهدم عشرات المنازل في صنعاء    التعاون الدولي والنمو والطاقة.. انطلاق فعاليات منتدى دافوس في السعودية    ميسي يصعب مهمة رونالدو في اللحاق به    الهلال يستعيد مالكوم قبل مواجهة الاتحاد    الفنانة اليمنية ''بلقيس فتحي'' تخطف الأضواء بإطلالة جذابة خلال حفل زفاف (فيديو)    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    18 محافظة على موعد مع الأمطار خلال الساعات القادمة.. وتحذيرات مهمة للأرصاد والإنذار المبكر    بالصور.. محمد صلاح ينفجر في وجه كلوب    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    خطر يتهدد مستقبل اليمن: تصاعد «مخيف» لمؤشرات الأطفال خارج المدرسة    اسباب اعتقال ميليشيا الحوثي للناشط "العراسي" وصلتهم باتفاقية سرية للتبادل التجاري مع إسرائيل    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    مجهولون يشعلون النيران في أكبر جمعية تعاونية لتسويق المحاصيل الزراعية خارج اليمن    جامعي تعزّي: استقلال الجنوب مشروع صغير وثروة الجنوب لكل اليمنيين    طالب شرعبي يعتنق المسيحية ليتزوج بامرأة هندية تقيم مع صديقها    تجاوز قضية الجنوب لن يغرق الإنتقالي لوحده.. بل سيغرق اليمن والإقليم    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    تضامن حضرموت يحسم الصراع ويبلغ المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    ما الذي يتذكره الجنوبيون عن تاريخ المجرم الهالك "حميد القشيبي"    الحوثيون يلزمون صالات الأعراس في عمران بفتح الاهازيج والزوامل بدلا من الأغاني    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    وفاة شابين يمنيين بحادث مروري مروع في البحرين    اعتراف أمريكي جريء يفضح المسرحية: هذا ما يجري بيننا وبين الحوثيين!!    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    الدوري الاسباني: اتلتيكو مدريد يعزز مركزه بفوز على بلباو    تشيلسي ينجو من الهزيمة بتعادل ثمين امام استون فيلا    مصلحة الدفاع المدني ومفوضية الكشافة ينفذون ورشة توعوية حول التعامل مع الكوارث    ضربة قوية للحوثيين بتعز: سقوط قيادي بارز علي يد الجيش الوطني    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    الشيخ الأحمر: أكرمه الأمير سلطان فجازى المملكة بتخريب التعليم السعودي    قيادية بارزة تحريض الفتيات على التبرج في الضالع..اليك الحقيقة    قبل شراء سلام زائف.. يجب حصول محافظات النفط على 50% من قيمة الإنتاج    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    فريق طبي سعودي يصل عدن لإقامة مخيم تطوعي في مستشفى الامير محمد بن سلمان    ارتفاع إصابات الكوليرا في اليمن إلى 18 ألف حالة    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    "نهائي عربي" في بطولة دوري أبطال أفريقيا    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الغني الماوري:
بناء الدولة في اليمن: الخبرات، الأسس، الفرص
نشر في الجمهورية يوم 30 - 11 - 2012

في أحيان غير قليلة يبدو التاريخ كما لو أنه عبارة عن أحداث عابرة لا تجدر أن تحظى بأي قدر من الاهتمام والعناية. سيكون الأمر في غاية السذاجة لو تم الاستسلام لمثل هكذا نظرية، لكن في حالة اليمن يمكن ملاحظة كيف توارى تاريخ حافل بالتنظيم والسياسة والقانون والتفاعل الحضاري لتبدو بلداً بلا جذور. يمكن القول وبلغة صارمة أنه بالرغم من أن فكرة الدولة موغلة في القدم لدى اليمنيين إلا أنهم وفي مفارقة مثيرة يبدون أشخاصاً أصابتهم الحيرة نتيجة عدم قدرتهم اليوم على بناء دولة حديثة تصون حرياتهم واستقلالهم. ومما لا شك فيه، كان لاستيراد أنماط من التفكير من مناطق لم تعرف الدولة تاريخياً دورٌ مهمٌ في تعاظم هذه الحيرة، فقد احتوت هذه الأنماط على عصبيات وتفسيرات دينية جعلت من الدولة شأناً سماوياً فيما هو شأن بشري بامتياز. يمكن الإشارة في هذا الصدد إلى تجربة دولة الأئمة الزيديين في الشمال، وإلى آثارها في الظروف الراهنة، إذ يصعب نزع جماعة الحوثيين من هذا السياق. وبالمثل، ساهمت جماعات مسلحة مثل تنظيم القاعدة وجماعة أنصار الشريعة في إشاعة معاني جديدة للدولة كالقول إنها يجب أن تقتصر على المؤمنين الحقيقيين الذين بالضرورة يجب أن يلتزموا بنفس التعاليم التي يعتنقونها. والحقيقة أن مثل تلك الأفكار والتوجهات لا تكمن خطورتها في أنها تقوم بتكريس حالة الانقسام داخل المجتمع وحسب، بل في كونها قامت بتوفير الذرائع للأنظمة التي توالت على اليمن لتكريس حالة الاستبداد والتهميش أيضا.
في مطلع 2011، اندلعت في اليمن ضمن دول عربية أخرى ثورة تكللت بإسقاط سلطة الرئيس علي عبدالله صالح، لكن هذا الإنجاز لا يبدو أنه قد حسم مصير الثورة، إذ ما تزال بعض المواقع تحت سيطرة أشخاص يدينون بالولاء لعلي عبدالله صالح بصورة شخصية. وكسائر الدول العربية التي شهدت ثورات، كانت الدولة في اليمن قد أُصيبت بأعطاب هائلة. ووفقاً لتقارير دولية كان يُنظر إلى اليمن باعتبارها دولة فاشلة وعلى وشك الانهيار. تسعى هذه الدراسة لتحليل الظروف التي تدهورت خلالها الدولة، وكذا تحليل عملية بناء الدولة، والأسس التي يجب أن تقوم عليها هذه العملية، وإعادة قراءات الخبرات اليمنية في هذا المجال.
بناء الدولة، لماذا الآن؟
لا يوجد في اليمن عبارة أكثر جاذبية من “بناء الدولة”. في الوقت الحالي يبدو الأمر بمثابة فرصة أخيرة لكي لا تنزلق البلاد إلى فوضى عارمة على عكس الفترات السابقة التي كان يتم استخدام مفهوم “بناء الدولة” في معرض التعبئة الجماهيرية والحشد في المنافسة الانتخابية والنكاية بالآخر. هذا السطوع الكبير لمفهوم “بناء الدولة” لا يمكن فصله عن السياق الذي تعيشه المنطقة، وهو سياق الثورات العربية التي أحدثت زلزالاً هائلاً في التوازنات، وفي الرغبات والطموحات أيضاً.
بالعودة إلى الخلف قليلاً، لم تكن عملية بناء الدولة تحظى بأولوية واضحة لدى النخب السياسية العربية على اختلاف تنوعاتها واتجاهاتها الإيديولوجية، وكل ما كان يتم الحديث والتفاوض بشأنه هو إحداث قدر معقول من الإصلاحات السياسية.
في مصر مثلاً، كانت القوى الوطنية المعارضة لنظام الرئيس المصري محمد حسني مبارك تناضل لرفع حالة الطوارئ المفروضة منذ اغتيال الرئيس أنور السادات في تشرين الأول/ أكتوبر1981، وما يترتب على ذلك من تضييق على الحريات العامة وممارسة التعذيب في مقرات الشرطة، وذلك كمدخل للإصلاح السياسي المنشود. وقد يكون من المناسب التذكير بأن اختيار يوم 25 يناير موعداً للمظاهرات جاء لكونه عيد الشرطة، وكان من مطالبها الرئيسية إقالة وزير الداخلية حبيب العادلي قبل أن تتسع هذه المظاهرات وتتحول بعد ثلاثة أيام لثورة حقيقية تطالب بإسقاط النظام بأكمله. لقد رفعت الثورة من سقف طموحات المصريين، فبدأ الحديث لأول مرة عن تغيير جذري في حدود ووظائف الدولة، فظهرت الدعوات التي تطالب بضرورة انتخاب المحافظين وإعطاءهم صلاحيات كاملة في إدارة محافظتهم. صحيح أن الأمر لم يتطور إلى المطالبة بإعادة النظر في شكل الدولة كما هو الحال في اليمن وليبيا، لكن الجدل الصاخب بشأن ضرورة انتخاب المحافظين في دولة تُعد أقدم دولة مركزية في العالم يعني أن ثمة تحولات عميقة في تفكير عدد كبير من المصريين الذين بدوا غير مكترثين للدعوات التحذيرية التي يطلقها المؤمنون بمصر التقليدية الذين يرون أن مصر مركزية هي الأقدر على حماية الأمن القومي من أي مخاطر محتملة.
وفي اليمن احتلت قضايا تندرج تحت عنوان الإصلاح السياسي مثل تشكيل اللجنة العليا للانتخابات وتصحيح سجلات الناخبين، وكذا بعض القضايا الحقوقية مثل قضية المتقاعدين العسكريين الجنوبيين الذين تم إقصاؤهم من مواقعهم بعد حرب صيف 1994، مكانة متقدمة في أجندة وأولويات أكبر تجمع للمعارضة السياسية وهو أحزاب لقاء المشترك.
لم تكن مسألة بناء الدولة ضمن خطط المعارضة حتى بعد مرور عدة أشهر من قيام الثورة التي أطاحت بسلطة علي عبدالله صالح، بل لم يكن في خطط المعارضة رؤية موحدة للطريقة المثلى التي سيتم فيها ملء الفراغ الناشئ عن سقوط صالح وسقوط سلطته السياسية والأمنية. في المقابل كان يدرك صالح محدودية طموحات المشترك، وهذا ربما السبب الذي جعله يتصور أن بإمكانه الاستمرار في سياساته الأحادية دون خوف. لكن مع اندلاع الثورة أدرك صالح أنه أمام خصوم جدد غير قابلين للإغراء، فقد دعا الشباب إلى تكوين حزب سياسي واستلام السلطة لكن هذه الدعوة قُوبلت بالسخرية، فلم يكن أحد من الشباب الذين امتلأت بهم الساحات يصدق أن شخصاً مثل صالح يمكنه التنازل عن الحكم بسهولة. في الواقع، لم يكن هذا أيضاً يمثل طموحات الشباب المتعطش للتغيير، كانت القضية الرئيسية التي تشغلهم هي مسألة بناء دولة حقيقية تقوم على مبادئ وأسس القانون والمساواة وتكافؤ الفرص.
لقد كان من نتائج الثورات العربية تجاوز العديد من الأفكار والبرامج التي تتحدث عن إمكانية إحداث تغيير دون المساس بشكل الدولة. الأمر الذي أفسح المجال أمام قطاعات واسعة في المجتمع للحديث في الدولة وقضاياها بعد أن تُركت لأمد طويل في مواجهة نخب سلطوية مدججة بكل وسائل القمع والإغواء(1).
ما هو واضح الآن، أن أسواراً كثيرة سقطت بفعل ثورات الربيع العربي ومحرمات أيضاً، إنه وبغض النظر عن الأصول التاريخية للدولة العربية، وكيف أنها قد وُلدت ناقصة الشرعية أو فاقدة لها، فإن من أهم نتائجها إعادة السؤال حول شرعية الدولة وجوداً أو حدوداً(2). نعم، ومن دون مواربة، تواجه الدولة في مرحلة ما بعد الثورات محنة تتعلق ببقائها على ذات الشكل الذي ورثته في مرحلة ما بعد الاستعمار، لاسيما أن المطالبات الثورية لم تطرح مجرد تغيير الأنظمة الاستبدادية وإنما امتدت إلى إعادة صياغة شكل الدولة بما يحقق التغييرات البنيوية التي تطرحها تلك الثورات(3).
لعوامل كثيرة تعد اليمن نموذجاً صالحاً لإثبات صحة المقولة سالفة الذكر، فكثير من القوى السياسية والاجتماعية سواء تلك التي ساهمت في الثورة أو تلك التي وقفت ضدها أعلنت مواقف رافضة لاستمرار اليمن بشكلها القديم. وبالرغم من أن هناك من لا يزال يرى أن اليمن يمكن أن تعيش دولة مركزية وموحدة وديمقراطية في ذات الوقت، إلا أن بروز الحراك الجنوبي الذي تتراوح مطالبه بين فك الارتباط والانفصال من جهة، وبين الفيدرالية على أساس إقليمين من جهة أخرى، وكذا نشوء تمرد مسلح ذات طبيعة عقائدية في شمال البلاد بقيادة عائلة عبد الملك الحوثي يجعل تبني خيار كهذا ضرباً من المغامرة غير المحسوبة.
في كل الأحوال، سيكون من الصعب إنكار الحقيقة الأكثر وضوحاً في اللحظة الراهنة والتي تتمثل في نجاح الثورة اليمنية في فتح الباب على مصراعيه للنقاش بحرية حول مستقبل اليمن وما إذا كانت يجب أن يظل كياناً واحداً أم لا؟. المهم أن عملية بناء الدولة باتت شأناً شعبياً، وهذا يجعل منها عملية على قدر كبير من الإثارة والأهمية في آن. وبالإضافة إلى ذلك، لن يكون بمقدور أحد اعتبار قضية حيوية مثل بناء الدولة ورسم ملامحها الجديدة في ظل هذا الانهيار الكبير الذي أصاب الدولة اليمنية أمراً يمكن تأجيله لوقت آخر، إن الأمر أشبه بخطر يجب أن تدفعه الآن وإلا فقدت حياتك.
نظرة للوراء: دولة من رمال
على مدى العقود الثلاثة الماضية من حكمه بدت اليمن دولة مهلهلة وبلا تقاليد راسخة. لقد أسس الرئيس علي عبدالله صالح لما يمكن تسميته “دولة اللادولة” فقد تحولت القوانين والمؤسسات بما في ذلك الجيش والقضاء في عهده إلى أكياس رمل يواجه من خلالها خصومه المحتملين.
تعامل صالح مع كل شيء في البلاد بوصفه جزءاً أصيلاً من ممتلكاته الشخصية، ففي إحدى المرات التي تم فيها إبداء تخوفات بشأن تدخلاته غير القانونية في نقل أحد المرشحين في الانتخابات البرلمانية لدائرة أخرى في العام 2003، صرخ متحدياً وفي ثقة مستغربة: “أنا القانون”. وبالفعل أثبت صالح في ما بعد أنه يمكن أن يكون القانون، فقد نجح مرشحه الأثير لنفسه آنذاك، ومارس عمله دون اعتراض من أحد.
كثيرة هي السمات التي طبعت طريقة صالح في الحكم لكن أكثرها خطورة هي ما يتعلق بانتهاك مؤسسات الدولة وتقاليدها العامة، فقد اعتبرها من المكافآت والمنح التي من خلالها يمكن شراء الولاءات. لقد أدت هذه السياسة غير العادلة إلى إضعاف الدولة بصورة كبيرة، وجعلت منها مادة دائمة للتندر.
لقد أُطلقت أوصاف كثيرة للتدليل على ضعف الدولة في اليمن من قبل مراجع ومنظمات دولية، مثل دولة هشة ودولة فاشلة، لكن ذلك لم يكن يعني شيئاً لصالح الذي كان يعتقد أنه ما دام قوياً ويمكنه أن يوبخ معارضيه، فلا أساس لهذه التصنيفات. بالرغم من كل ذلك، لا يجب أن يُفهم شخص مثل علي عبدالله صالح بطريقة خاطئة، فهو رغم تصريحاته الاستعلائية وقراراته غير البناءة لم يكن ديكتاتوراً كما قد يتصور البعض. يمكن القول إنه رجل مساومات وحسب. ربما كان محقاً روبرت باروز وهو كاتب أمريكي متخصص في الشؤون اليمنية وهو يشير إلى أن نظام صالح تحول إلى نوع خاص من حكم القلة، وحكم اللصوص، فأصبحت الحكومة تُحكم من قبل اللصوص، ومن أجل اللصوص، وبات أصحاب المناصب الحكومية قادرين على إثراء أنفسهم على حساب التنمية(4).
لقد أدى هذا النمط من الحكم إلى إفقار الشعب وإفقار الدولة أيضاً وجعلها عرضة للانهيار. وبالإضافة إلى ذلك، فقد أكسبت حكومات صالح المتتالية الفساد مشروعية سياسية وأخلاقية، وقد لاحظ تقرير صدر عن البنك الدولي في عام 2007 لتقييم سياسة التنمية في اليمن كيف أنه لم تسجل قضية واحدة ضد أي من الشخصيات المؤثرة متعلقة بالفساد. في هذا الصدد يُجدر الإشارة إلى أنه خلال نظام علي عبدالله صالح لم يكن يُنظر إلى الفساد بوصفه عملاً مشيناً، بل كان في أحيان كثيرة مصدر فخر، ويُنسب في هذا الإطار لرئيس الوزراء السابق عبد القادر باجمال ما يعني، أنه من لم يصبح ثرياً في حياة علي عبدالله صالح لن يستطيع الإثراء بعد رحيله. وهكذا تم التأسيس لنظام محسوبية استوعب في داخله قوى سياسية واجتماعية بطريقة جعلت من التخلص منه أمراً صعباً للغاية. وترى أبربل يونغلي آلي في دراسة عن المحسوبية في اليمن نُشرت صيف 2010 أن نظام المحسوبية في اليمن يُعتبر نظاماً شمولياً، فكل أنماط فئات النخب السياسية تتوقع الحصول على نوع من الانضمام، والرئيس بصورة عامة مستعد للتفضل بذلك، وقد ساعد مبدأ الشمولية لنظام المحسوبية على طول حياة نظام صالح، إذ إن معظم عناصر النخب البارزين سواء كانوا إلى جانب النظام أو المعارضة الرسمية يتلقون نوعاً من الفوائد، وبالتالي لهم مصلحة في الحفاظ على الوضع الحالي(5).
بالإضافة إلى اتساع موجة الاحتجاجات الشعبية، أدى فساد النخب الحاكمة والمعارضة على حد سواء إلى خلق بيئة مناسبة لنشوء حركات وتيارات ذات طبيعة استقلالية، الأمر الذي أفقد نظام صالح شرعيته السياسية. لقد كان من الطبيعي والبلاد تسير إلى مزيد من التفكك وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية أن تنشأ حاجة عارمة للتغيير. بهذا المعني، لم تكن الثورة ضد صالح مفاجأة، لكن اتضح فيما بعد أنها كانت أقل عنفاً مما كان متوقعاً.
الخبرات والفرص
يحتفظ اليمنيون بسجل ناصع من التوافقات، ففي كل مرة كانت الأمور تتجه للتأزم كان يتم استدعاء مقولات من الذاكرة الشعبية تحض على ضرورة التوقف عن الاستمرار في الخصومة، ومن بين هذه المقولات الكثيرة مقولة تُنسب للرسول محمد مفادها أن الحكمة يمانية والإيمان كذلك(6). وحقيقة الأمر أن اليمنيين يفعلون ذلك ليس لصبغ تنازلاتهم بصبغة دينية ولكن لجعلها مقبولة لديهم ولدى أنصارهم. محاولات اليمنيين المستميتة في تجنب الخيارات المتطرفة جعلت البعض يصف اليمن بأرض”التمفصلات” وإلى حد ما أرض التجربة التوافقية/ التشاركية (7).
على مدى سنوات طويلة، اكتسب اليمنيون خبرات متنوعة سواء لجهة إنجاز توافقات كبرى، أو لإنجاز خصومات وصلت في بعض المراحل إلى إعلان الحرب على بعضهم البعض، لكن حتى في ظل وجود هذا المستوى من العداء لم يكن أحد يتمسك بموقفه للنهاية. الحروب التي نشبت بين شطري اليمن الشمالي والجنوبي في السبعينيات أحد الأمثلة الحيوية التي توضح كيف كان يُنظر إلى مثل هذه الأحداث بوصفها درجة متقدمة من التنافس بين نظامي صنعاء وعدن اللذين كانا يحاربان من أجل إقناع اليمنيين بأن كلاً منهما يمثل النموذج الأفضل الذي ينبغي أن تكون عليه الدولة اليمنية الموحدة. ولسوء الطالع استمر هذا التنافس حتى بعد تحقيق الوحدة اليمنية في العام 1990، وبدلاً من أن تكون مسألة بناء الدولة الوليدة محل عمل جماعي ومثمر، تحولت إلى سبب مباشر للنزاع السياسي والحرب لاحقاً في عام 1994.
لقد كان من نتائج هذا الوضع الجديد غير المطمئن إضاعة الكثير من الفرص لبناء الدولة اليمنية المنشودة، فقد اهتم طرفا تحقيق الوحدة اليمنية، الحزب الاشتراكي اليمني والمؤتمر الشعبي العام ببناء سلطة تقوم على مبدأ المحاصصة والتقاسم، وقد تم تأجيل عملية بناء الدولة لوقت آخر قيل حينها إنه يصعب تحديده بدقة. بمرور الوقت بات الموضوع الذي يتصدر أحاديث اليمنيين هو من المسؤول عن الفشل الذي أصاب عملية بناء دولة الوحدة. وبقدر ما عكس هذا التساؤل إحباطاً لدى قطاعات واسعة من اليمنيين الذين لم يكونوا يتصورون أنه يمكن أن يواجهوا مشكلة من هذا النوع بعد تحقيق حلم الوحدة الذي انتظروه طويلا، بقدر ما جعلهم يبحثون عن ضوء في نهاية النفق.
في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر1993، انطلق حوار سياسي واسع شمل شخصيات عامة وقوى سياسية مختلفة، وفي مقدمتها أحزاب المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي والتجمع اليمني للإصلاح ذو المرجعية الإسلامية، وكان الهدف من هذا الحوار التوصل إلى معالجة مواطن الخلل في الدولة، وبعد حوالي شهرين من المفاوضات الصعبة وتحديداً في 18 كانون الثاني/ يناير1994 تم التوصل إلى وثيقة سياسية سُميت “وثيقة العهد والاتفاق” اُعتبرت من قبل البعض بأنها بمثابة جسر لتحويل النظام إلى دولة، ووفقاً لبرنار روجييه، فالذين صاغوا نص الاتفاقية نظروا إلى دورهم باعتبارهم جمعية تأسيسية أُوكلت إليها مهمة إنقاذ البلاد باقتراح اتفاق وحدوي جديد(8). وقد تم التعبير عن هذا التوجه بتبني رؤية حول بناء الدولة تقوم على بناء دولة اندماجية يقوم إلى جانب سلطاتها المركزية حكم محلي ذو صلاحيات كبيرة تكاد تتطابق مع مبادئ الفيدراليات(9).
في تلك المرحلة لم تكن الفيدرالية تحظى بأي شعبية بين أوساط السياسيين اليمنيين ربما باستثناء أولئك الذين ينتمون للحزب الاشتراكي اليمني الذي كان دائم التبرم من اتساع سيطرة النخب الشمالية على مقاليد السلطة. تم التوقيع في 20 شباط/ فبراير1994 على اتفاقية العهد والاتفاق في احتفالية استضافتها العاصمة الأردنية عمّان تحت رعاية الملك الحسين بن طلال، لكن أثناء كلمات وتعليقات كبار المسؤولين اليمنيين اتضح أن الأمر لا يعدو أن يكون عملاً لتجنب اللوم. بعد أسابيع قليلة، وتحديداً في مطلع أيار/ مايو 1994، اشتعلت الحرب وكان من ضمن ما أتت عليه هي اتفاقية العهد والاتفاق، حيث اعتبر الطرف المنتصر وهو الرئيس علي عبدالله صالح الوثيقة جزءاً من مؤامرة اشتراكية يجب التخلص منها. لقد أضاع صالح فرصة أخرى لإعادة بناء الدولة، فقد قضت الحرب على معوقات أساسية كانت تعترض إقامة دولة موحدة، تتمثل في ازدواج السلطة، وانقسام الجيش، لكن الطريقة التي تعامل من خلالها صالح مع نتائج الحرب قادت البلاد إلى انتكاسة، فقد أدى جنوحه إلى الاستبداد والاستعلاء إلى شرخ وطني ما انفك يتسع مع مرور السنوات.
بعد عدة سنوات، وتحديداً في عام 2009 قدمت المعارضة وثيقة سياسية تضمنت رؤيتها للدولة، وقد رأت الوثيقة التي أُطلق عليها “وثيقة الإنقاذ الوطني” أن بناء الدولة يجب أن تكون على قاعدة اللامركزية. وتضمنت الوثيقة ما اعتبرته الأسس والمبادئ التي يجب أن تقوم عليها الدولة، وهي: الالتزام بالديمقراطية، وسيادة القانون، والأخذ بالنظام البرلماني، وحيادية أجهزة الدولة المدنية والعسكرية والأمنية(10). لقد اعتبرت المعارضة هذه الوثيقة انجازاً كبيراً، لكن منتقديها لاحظوا أنها لم تقدم خياراً واضحاً لشكل الدولة، مكتفية بتقديم ثلاثة خيارات لشكل الدولة هي: الحكم المحلي كما ورد في وثيقة العهد والاتفاق، والفيدرالية، وحكم محلي واسع الصلاحيات. ومن الواضح أن المعارضة فضّلت قول كل شيء حفاظاً على وحدتها الداخلية، لكن المشكلة أن التردد في مثل هكذا قضية حساسة يجعل من أي تحرك تقوم به محفوفاً بالارتباك ومحاطاً بالريبة والشك.
مجدداً تلوح فرصة ثمينة أمام اليمنيين لإعادة بناء الدولة على أسس واضحة ومتينة، فلم يعد هناك سلطة أمر واقع متمثلة بعلي عبدالله صالح، أو نخب سياسية يمكن أن تجاهر بمعاداتها للدولة. صحيح أنه ما يزال هناك مراكز قوى سياسية وقبلية تشكل حجر عثرة أمام أي تقدم في هذا الاتجاه، لكن قدرة الثورة على فتح الأبواب الموصدة أمام قيام الدولة قدرة فعالة دون الاستغراق في نوبات التفاؤل الناشئة من الدعم الدولي للتغيير في اليمن، وللحوار الوطني الذي يُعول عليه في التوصل لتسوية تاريخية، تمنع تفكك الدولة اليمنية، وتعيد بناءها بطريقة تجعلها دولة بالفعل.
أسس الدولة الجديدة
غالباً ما يُنظر إلى عملية بناء الدولة بانتقائية غير مبررة. يُشار في زمن الثورات إلى عملية بناء الدولة بوصفها العملية التي يتم بواسطتها إحلال سلطة جديدة بدلاً من تلك التي سقطت بإرادة الجماهير التواقة للتغيير، أو بوصفها العملية التي تقود إلى اقتسام الدولة ذاتها. يمكن القول إن الحالة اليمنية أكثر النماذج تعبيراً عن سوء التقدير الذي غالباً ما يلازم عملية معقدة للغاية كعملية بناء الدولة. ففي حين يرى معظم النخب السياسية الشمالية أن عملية بناء الدولة تتمثل في إقامة دولة قوية وقادرة على فرض أوامرها على جميع مواطنيها، وعلى إحداث تغييرات واسعة في المناصب العليا في السلطة بما يحقق تكافؤ الفرص وإقامة سلطة وطنية، تتبنى غالبية النخب الجنوبية مبدأ تفكيك الدولة القائمة كخطوة أولى لبناء دولة جديدة على أنقاضها. ورغم ما يبدو من تناقض بين هذين الموقفين، إلا أنهما يعبران في الجوهر عن توجه سياسي يكاد يكون متطابقاً في ما يتعلق لحل معضلة تاريخية تتمثل في تركيز السلطة واحتكارها.
بدعم واضح وربما غير محدود من المجتمع الدولي ومنظمة الأمم المتحدة، يخوض اليمنيون غمار تجربة جديدة تتمثل في مؤتمر الحوار الوطني، ورغم العقبات الكثيرة التي تعترضه، فثمة إصرار على أن يكون مؤتمر الحوار هو مدخل لإنجاز عملية التحول الديمقراطي وبناء الدولة، وذلك لتفادي انهيار ما تبقى من مظاهر الدولة.
وبغض النظر عن نجاح فكرة الحوار، وتأثير ذلك على مسار عملية بناء الدولة، فإنه للمضي بهذه العملية قدماً يجب أن يكون واضحاً أنها عملية ترتكز على مجموعة من البناءات والأسس هي:
الشرعية: يشير مفهوم الشرعية إلى بناء السلطة بطريقة تلقى رضا وقبول الناس للنظام السياسي القائم. إحدى المعضلات الرئيسية التي تعاني منها الدولة بشكل عام ومنها الدولة اليمنية هي فقدانها الشرعية الديمقراطية والشعبية ولجوؤها إلى القوة والعنف والاستبداد لتثبيت سلطاتها في المجتمع كبديل من الشرعية التي تفتقر إليها(11). لقد شكّلت الحروب المتوالية التي خاضها النظام في الداخل، سواء في الجنوب أو في صعدة، واستخدام العنف ضد المعارضين انتقاصاً من مشروعية الدولة. ذلك أن الدولة لا تملك أن تعيش وأن تستمر من خلال شرعية القوة فحسب، وإنما تحتاج أيضاً إلى قدر من القبول الاجتماعي أو من الرضا الاجتماعي بها، حتى يكون في وسعها أن توجد وتستمر(12). وترتكز الشرعية على مجموعة دعائم أبرزها، الديمقراطية وحكم القانون، فالدولة التي لا يوجد بها انتخابات حرة وتنافسية وتداول للسلطة، وتفتقد لحكم القانون، هي دولة قهر وحسب. وفي دول الربيع العربي، ومن ضمنها اليمن، يُعد النظام الجمهوري أحدى الدعامات الأساسية لبناء شرعية حقيقية، ولتذكر كيف أن نظام علي عبدالله صالح فقد شرعيته بعد انتهاجه لسياسات كرست توريث نجله الحكم.
المؤسساتية: يذهب كثير من علماء السياسة والاجتماع إلى أن مفهوم بناء الدولة بشكل عام يعني عملية بناء مؤسسات الدولة وأجهزتها التي تقوم على تلبية حاجات المواطنين من الخدمات الأساسية مثل الأمن والفصل في النزاعات، وكذا توفير مستلزمات الحياة من غذاء وتعليم وصحة، الخ. لقد أدى تدهور المؤسسات في اليمن إلى إفراغ الدولة من مضمونها، وجعلها كائناً هلامياً غير موجود. فمؤسسات مثل الجيش والقضاء وتلك التي تقوم بتقديم خدمات أساسية مثل الصحة والكهرباء والغذاء تحولت في السنوات الأخيرة إلى معضلات حقيقية. وقد لاحظ العديد من دارسي الشأن اليمني كيف قام النظام بإجراء إصلاحات خاصة لتكريس سلطة فئوية أودت بما تبقى من فاعلية وكفاءة مؤسسات الدولة, الأمر الذي انعكس سلبياً على تماسك الدولة. في هذا الإطار تذكر الباحثة الألمانية إريس جلوزماير كيف أنه في الوقت الذي نجح عدد غير قليل من سياسيي الجنوب الأقوياء في البقاء حاضرين سياسياً منذ التوحيد، كانت قيادات الشمال تتناوب تولي المناصب العالية في الدولة في الدولة مما يشير إلى نمو طبقة سياسية بدلاً من أن تنمو المؤسسات، ليس هذا وحسب، تذكر جلوزماير ملاحظة مهمة لجهة الطريقة غير البناءة في بناء مؤسسات الدولة بعد الوحدة، فبموجب التعيينات في مجلس الشورى في مايو 1997، بدا أن فترة إنشاء مؤسسات الدولة في الجمهورية اليمنية وبنائها قد بلغت نهايتها، بمعنى أن البنية المؤسسية للجمهورية اليمنية بلغت حجماً يقرب مما كانت عليه الجمهورية العربية اليمنية قبل الوحدة(13). لقد أدت هذه السياسة البدائية في بناء مؤسسات الدولة إلى استدعاء نموذج غير مشجع في تجربة الدولة في اليمن، فقد تم بناء الدولة بما يشبه القبيلة وفق تعبير البعض، حيث باتت موارد الدولة كما لو كانت مملوكة للنظام، فالسلطة في مؤسسات الدولة مخولة لأفراد وليس لمؤسسات أو فرق، وقد بنيت إدارة تقوم على تركيز السلطة موجهة بالأوامر لا إدارة موجهة بالأهداف، إدارة منظمة على أساس العلاقات الشخصية(14). والحال، أن الفشل الذي أصاب عملية بناء المؤسسات سواء قبل الوحدة أو بعدها أدى إلى فشل الدولة في نهاية المطاف، فلا يكفي أن توجد مؤسسات لكي توجد الدولة، لا بد أن تؤدي المؤسسات وظائفها الأساسية بشكل فعال وكفء، لكي يكون هناك يقين بوجود الدولة.
السيادة: يرتبط مفهوم السيادة بنشوء الدولة الحديثة وفقاً لعالم الاجتماع البريطاني الشهير أنتوني غدنز(15)، وتعني السيادة أن تملك الدولة السيطرة الكاملة على أراضيها وعلى مواطنيها أيضا. في الحالة اليمنية لا أكثر من مظاهر انتهاك السيادة التي تقوض شرعية الدولة وجوهر وجودها، فعلى سبيل المثال شكّل السماح للقوات الأمريكية بانتهاك الأجواء والأراضي اليمنية للقيام باستهداف من تتهمهم بالانتماء لتنظيم القاعدة في اليمن، وكذا جنوح النظام إلى بيع المواقف السياسية مقابل منح ومساعدات مالية على غرار ما حصل أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة في 2009، عندما تراجع الرئيس علي عبدالله صالح عن المشاركة في القمة الطارئة التي دعت إليها قطر بعد أن كان أعلن موافقته على المشاركة واستعداده لتقديم مبادرة بخصوص لم شمل الفصائل الفلسطينية بناءً على توصية من السعودية التي لم تكن علاقتها قد تحسنت بالدولة القطرية، شكّل طعنة في السيادة والكرامة الوطنية. ومن مظاهر الانتقاص من السيادة أيضاً عدم إنفاذ القانون على جميع من يعيش في الدولة، ويتضح ذلك في إفلات الأشخاص الذين يتمتعون بفائض قوة سواء كانت سياسية أو مالية أو اجتماعية أو عسكرية من العقاب والمحاسبة. وتبرز مسألة عدم قدرة الدولة وأجهزتها المختلفة على تلبية حاجات ورغبات لمواطنين الأساسية كأحد مظاهر انتهاك السيادة وتقويضها أيضاً. تأسيساً على ذلك، لا يمكن أن تجري عملية بناء الدولة بمنأى عن بناء السيادة بشقيها الداخلي والخارجي، ووفقاً لعالم السياسة الشهير الأمريكي فرانسيس فوكوياما فإن ضعف الحكم والإدارة يقوض مبدأ السيادة الوطنية، وتتسبب المشكلات التي تولدها الدول الضعيفة لنفسها وللدول الأخرى في زيادة احتمالات التدخلات الدولية في شؤونها ضد مشيئتها لحل تلك المشكلات بالقوة(16).
المصالحة الوطنية: غالباً ما تلجأ الدول في مراحل ما بعد الثورات والحروب إلى إجراء مصالحة وطنية لتجنب مزيد من التمزق الاجتماعي الذي يعد عائقاً أمام استقرارها واستمرارها. ففي جنوب إفريقيا على سبيل المثال، تم تشكيل لجنة للحقيقة والمصالحة، كوسيلة لتجاوز سنوات طويلة من سياسات الفصل العنصري المتمثل في سيطرة الأقلية البيضاء على مقاليد السلطة والثروة ومصادر الحياة الكريمة أيضا. واُعتبرت المصالحة أساساً لعملية بناء دولة جنوب افريقيا التي تعد اليوم إحدى أبرز القوى العالمية سواء على صعيد الاقتصاد أو على صعيد الديمقراطية والتعايش السلمي بين مكوناتها وأعراقها المختلفة. في اليمن تبدو الحاجة ملحة إلى إجراء مصالحة وطنية على غرار ما حصل في جنوب افريقيا، حتى يمكن الحديث عن بناء دولة حقيقية. في هذا الصدد، لقد كان مثيراً للانتباه ما قاله الرئيس عبد ربه منصور هادي في الذكرى الخمسين لثورة 26 سبتمبر 1962، من أن المصالحة الوطنية وبناء الدولة ستظل كلمات جوفاء إذا لم تكن مبنية على جهد منسق لاجتثاث الجذور الحقيقية لماضي الصراع والظلم، وتلبية الاحتياجات الأساسية للشعب وضمان تحقيق العدل والمساواة في الحقوق السياسية والمدنية واحترام حقوق الإنسان(17). تصلح كلمات هادي أساساً للترويج لمبدأ المصالحة الوطنية كمدخل مهم لإحداث تغيير ايجابي في المجتمع وإعادة الثقة إليه، وكذا لإعطاء عملية مثل عملية بناء الدولة دفعة للإمام.
الهوية: على خلاف ما هو سائد، لا يوجد معنى محدد للهوية، وليس هذا وحسب، بل لا يوجد ما يشير إلى أن الهوية مسألة غير قابلة للتغير(18). في اليمن ثمة من يدفع لصراع هوياتي تحت مزاعم لم تثبت صحتها بعد. إذ يتحدث بعض من ينتمون للحراك الجنوبي المطالب بالانفصال وبطريقة واثقة من أنهم ليسوا يمنيين من الأساس، وأن هذه الحقيقة كفيلة بفك الارتباط وتكوين دولة الجنوب العربي. ربما تحت وطأة المظالم التي تعرض لها الجنوبيون يمكن تفهم المطالب المتعلقة بالعودة لما قبل تحقيق الوحدة في العام 1990، لكن ما يصعب تفهمه هو الزعم أن الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة العربية ليس جزءاً من اليمن(19). لقد نشأت أمة يمنية في هذا المكان من العالم وسيكون من الخطأ إنكار ذلك، فوفقاً لفريد هاليداي فإن الأمة اليمنية في الطرح القومي التقليدي أمة غابرة في القدم(20).
ما يمكن التأكيد عليه في هذا الشأن، هو أن المضي في خلق هويات متعددة لإعطاء الانفصال مشروعية أخلاقية هو توجه سياسي وربما سلطوي ولا علاقة له بموضوع الهوية البتة. على سبيل المثال، ووفقاً للباحثة الغربية أوروسولا براون، وحدة اليمن كانت فكرة متجذرة بشكل كبير في وعي المواطنين اليمنيين في كل من الدولتين، وقد أجبر هذا الوعي الخاص كلتا الحكومتين على أخذه في الحسبان، فتاريخ اليمن الذي يعود إلى حوالي ثلاث آلاف عام، يسند الشعور العام بالإرث الثقافي المشترك حتى ولو لم ينشأ عنه وحدة في الأرض والسياسة(21). ربما من وجهة نظر البعض لا يُجدر في غمرة الانفعالات المتطرفة التي تتحكم في سلوك وتصرفات المكونات الجنوبية التي تطالب بالانفصال أن يتم الحديث عن حقائق التاريخ التي تشير ليمن واحد. لكن وجهة النظر هذه تميل لعدم المبالاة بالتاريخ، وهي مسألة تثير الاعتراض، ولا تقدر العواقب. ففي الحقيقة أن “أي دعوة انفصالية هي بطبيعتها معادية للديمقراطية، لأن مثل هذه الدعوات لا بد أن تنطلق من إدانة جماعية لقطاع كامل من شعب الدولة (يتم تحديده عرقياً وثقافياً وجهوياً) ودمغه بأنه غير صالح للعيش معه تحت سقف واحد”(22). بعيداً عن سياسات الانفصال التي غالباً ما تؤسس لمجموعة من الأعمال والأحكام الاقصائية، يمكن القول إن أول أزمة ستواجه الكيان الذي سينشأ في الجنوب في حال تحقق مطلب الانفصال هو ما يتعلق بالمسألة اليمنية على غرار القضية الجنوبية؛ بمعنى أكثر وضوحاً لن يكون مقبولاً لدى قطاعات واسعة من الجنوبيين التضحية بالهوية اليمنية وباسم اليمن، وهو الأمر الذي قد يؤشر لصراع على الهوية مرة أخرى. وفي العموم، يمكن أن تشكّل الهوية اليمنية برغم ما تتعرض لها من حملات تشكيك أساساً لتدعيم عملية بناء الدولة، إذ يمكن أن يمثل التاريخ وحتى ذلك القريب منه جداً أرضية لاستعادة شعور اليمنيين بهويتهم الواحدة، ونضالهم الواحد ضد الاستعمار ونظام الإمامة.
نظرة مستقبلية وتوصيات
على الرغم من التحسن الملحوظ الذي طرأ على الوضع العام في اليمن بعد وصول الرئيس الحالي عبد ربه منصور هادي إلى سدة الحكم بعد استفتاء شعبي في شباط/ فبراير2012، إلا أنه من الصعب التكهن بأي شيء يتعلق بالمستقبل. ليس من قبيل المبالغة القول إن اليمن بلد المفاجآت فهو المكان الذي تُصنع فيه تحالفات ومواجهات غير منطقية. الحقيقة الثانية عن اليمن غير أنه بلد المفاجآت غير المنتظرة، فهو بلد في مرحلة انتقال، ومن المؤمل أن يقرر مؤتمر الحوار الوطني المسار الذي ستتخذه البلاد في المرحلة المقبلة. ولذلك يُنصح بعمل كل ما من شأنه أن يؤدي إلى أن يكون الحوار الوطني حواراً جاداً وحقيقياً وتأسيسياً. إن هذه المسألة هامة للغاية، فبلد مثل اليمن يعاني من أزمات كثيرة ومتعددة، يحتاج بعد الثورة ليس لحلول جزئية ولكن يحتاج إلى حلول جذرية تقوم على مبادئ العدالة والإنصاف، وتلقى قبول المواطنين، وهذا لن يتحقق في ظل دولة ضعيفة. ولكسر هذه القاعدة التي جعلت من اليمنيين رهائن للفوضى والمجهول، ينبغي على جميع الأطراف السياسية والاجتماعية الفاعلة أن تدرك أن بقاء الأوضاع على ما هي عليه هو بمثابة انتحار جماعي. أحد أبرز السبل لتحقيق نجاحات ملموسة في ما يتعلق ببناء الدولة هو بناء مؤسسات قوية تستطيع أن تقوم بوظائفها بفعالية وكفاءة. لكن ذلك يحتاج إلى رأي عام شعبي ضاغط لتحسين عمل المؤسسات وحمايتها من أي محاولة للانقضاض عليها. “في معظم الحالات، نجحت عمليات بناء الدولة والإصلاح المؤسساتي عندما استطاع المجتمع توليد طلب محلي ملح على المؤسسات ثم أوجدها بالكامل، إما عن طريق استيرادها من الخارج، أو بتكييف النماذج الأجنبية ومواءمتها مع الشروط المحلية”(23). ولعل أهم ما يجب أن يلتفت إليه المجتمع في إطار الإصلاح المؤسسي ما يتعلق بالمؤسسة العسكرية، ومؤسسة القضاء، فهاتان المؤسستان تعانيان اضطراباً حاداً، ويُنظر إليهما باعتبارهما مؤسستين غير جديرتين بالثقة. وبالتوازي مع الاهتمام بالإطار المؤسسي للدولة، ينبغي التعامل مع القبيلة بطريقة بناءة ومختلفة عما قبل. في هذا السياق يجب أن تعمل الدولة بكل ما تستطيع للوصول إلى كل فرد من أفراد القبيلة، ذلك أن اختزال القبيلة في عدة أشخاص يحصلون على منافع خاصة بهم، يحدث أضراراً بالغة في الثقة بالدولة. لقد كان من أهم عيوب وأزمات الدولة في اليمن أنها لا تتعامل مع المواطنين مباشرة بل من خلال واسطة المشايخ، مما عظّم من دور هؤلاء في مقابل تقزيم أدوار مؤسسات الدولة(24). إن المضي في هيكلة العلاقات الداخلية في المقام الأول سيساعد كثيراً في تجنب سيناريوهات غير سارة، كما أنه سيساهم في إزاحة الكثير من المعوقات التي تقف حجر عثرة أمام مسيرة بناء الدولة، المسيرة التي من وجهة نظر اليمنيين تمر فوق أشواك ضخمة، لكن يجب أن تواصل السير.
* باحث في المجموعة اليمنية للأبحاث
الهوامش والإحالات:
1 - هاني المغلس، “الدولة التي نريد: نحو بناء تفكير مجتمعي يمني جديد في الدولة، ماهية ووظيفة”، مجلة مدارات استراتيجية، العددان 12-13، آذار/مارس- حزيران/ يونيو 2012، ص33.
2 - محمد نصر عارف، “المعادلات الجديدة: مستقبل الدولة في العالم العربي”، مجلة السياسة الدولية، العدد 186، تشرين الأول/ أكتوبر 2011، ص63.
3 - خالد حنفي علي، “الدولة غير الموحدة: تحولات شكل الدولة في مراحل ما بعد الثورات العربية”، مجلة السياسة الدولية، ملحق اتجاهات نظرية، عدد تموز/ يوليو 2012.
4 - لمزيد من الاطلاع، انظر: بشير البكر، القاعدة في اليمن والسعودية، دار الساقي، لندن، الطبعة الأولى، 2010، ص62.
5 - للاستزادة حول هذا الموضوع، يُنصح بقراءة: أبريل لونغلي آلي،”كشف أسرار سياسية المحسوبية في اليمن”، مجلة “مدارات استراتيجية”، العددان 12-13 آذار/مارس-حزيران/يونيو 2012.
6 - تروي كتب الأحاديث المعتبرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوباً، الإيمان يمان والحكمة يمانية”.
7 - نزيه ن. الأيوبي، تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط، ترجمة: أمجد حسين، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، كانون الأول/ ديسمبر، 2010.
8 - برنار روجييه، اليمن بين 1990 و1994، “فشل منطق الميثاق السياسي”، في “اليمن المعاصر”، إشراف: ريمي لوفو، فرانك مرميه، وهوغو ستانبخ، ترجمة: علي محمد زيد، الطبعة الأولى، كانون الثاني/ ديسمبر 2008، ص 146.
9 - عادل مجاهد الشرجبي، “أزمة عجز الدولة وخطر انهيارها: حالة اليمن”، في: أزمة الدولة في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بالاشتراك مع مركز كارينجي للشرق الأوسط والجمعية العربية للعلوم السياسية، الطبعة الأولى، تموز/يوليو 2011، ص133.
10- انظر: “مشروع رؤية الإنقاذ الوطني”، موقع “الصحوة نت”، على الرابط:
http://www.alsahwa-yemen.net/view_news.asp?sub_no=6_2009_09_07_72815
11-عبدالاله بلقزيز، الدولة والمجتمع: جدليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، أيلول/ سبتمبر ص52.
12-نفس المصدر، ص43.
13-إريس جلوزماير، “تطوير مؤسسات الدولة”، في “اليمن المعاصر”، مصدر سابق، ص 117.
14-عادل مجاهد الشرجبي، “القبيلة فاعل غير رسمي في اليمن”، في:الفاعلون غير الرسميين في اليمن: أسباب التشكل وسبل المعالجة، تحرير: شفيق شقير، أوراق الجزيرة، العدد(26)، 2012، ص55.
15- انظر: أنتوني غدنز، علم الاجتماع، ترجمة: فايز الصباغ، المنظمة العربية للترجمة ومؤسسة ترجمان، الطبعة الرابعة، أما الطبعة الأولى فصدرت في 2005، ص 468.
16-فرانسيس فوكوياما، بناء الدولة: النظام العالمي ومشكلة الحكم والإدارة في القرن الحادي والعشرين، ترجمة: مجاب الإمام، دار العبيكان للنشر، الرياض، الطبعة الأولى 2007، ص171.
17- أنظر: خطاب الرئيس عبد ربه منصور هادي في الذكرى الخمسين لثورة 26 سبتمبر 1962، على الرابط:http://www.sabanews.net/ar/news282277.htm
18- على سبيل المثال، يلاحظ بيندكت أندرسون: أن بعض من أكثر القوميين السيخ حماساً هم استراليون كما أن أكثر الكرواتيين حماساً كنديون، وأكثر القوميين الجزائريين حماسا فرنسيون وبعض أكثر القوميين الصينيين أمريكيون. انظر: توماس هايلاند إريكسن، العرقية والقومية: وجهات نظر أنثروبولوجية، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 393، تشرين الأول/ أكتوبر 2012، ص219.
19- يُذكر في هذا الصدد، أن مجموعة من نشطاء الحراك الجنوبي الذين يطالبون بفك الارتباط، ذهبوا للقاء الكاتب المصري الكبير محمد حسنين هيكل، وفي أثناء الحديث ذكروا له أنهم ليسوا يمنيين، فدهش لذلك وقال لهم: العرب يقولون إنهم يعودون إلى اليمن، وأنتم اليمنيين تقولون إنكم غير يمنيين.
20- فريد هاليداي، الأمة والدين في الشرق الأوسط، دار الساقي، لندن، الطبعة الأولى 2000، ص60.
21-أوروسولا براون، “اليمن: حالة أخرى للوحدة”، في: التحولات السياسية في اليمن، مصدر سابق، ص59.
22- عبد الوهاب الأفندي، “اليمن والسودان: حالة مقارنة في فشل الدولة واصطناع الهوية”، على الرابط: http://www.sudanile.com/2008-05-19-17-39-36/77-2009-01-07-09-18-28/10003-2010-01-20-19-09-00.html
23- انظر: فوكوياما، مصدر سابق، ص87.
24-انظر: فؤاد الصلاحي، “المجتمع والنظام السياسي في اليمن”، في: الفاعلون غير الرسميين في اليمن: أسباب التشكل وسبل المعالجة، مرجع سابق، ص19.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.