البحسني يشهد تدريبات لقوات النخبة الحضرمية والأمن    عقلية "رشاد العليمي" نفس عقلية الماركسي "عبدالفتاح إسماعيل"    تصريحات مفاجئة لحركة حماس: مستعدون لإلقاء السلاح والانخراط ضمن منظمة التحرير بشرط واحد!    تطور مهم.. أول تحرك عسكري للشرعية مع القوات الأوروبية بالبحر الأحمر    الشيخ الزنداني رفيق الثوار وإمام الدعاة (بورتريه)    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34305    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    انخفاض الذهب إلى 2313.44 دولار للأوقية    المكلا.. قيادة الإصلاح تستقبل جموع المعزين في رحيل الشيخ الزنداني    هيئة السلم المجتمعي بالمكلا تختتم دورة الإتصال والتواصل الاستراتيجي بنجاح    فيديو صادم: قتال شوارع وسط مدينة رداع على خلفية قضية ثأر وسط انفلات أمني كبير    ذهبوا لتجهيز قاعة أعراس فعادوا بأكفان بيضاء.. وما كتبه أحدهم قبل وفاته يُدمي القلب.. حادثة مؤلمة تهز دولة عربية    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    تحذير أممي من تأثيرات قاسية للمناخ على أطفال اليمن    امين عام الاشتراكي يهنئ الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بنجاح مؤتمرهم العام مميز    الجهاز المركزي للإحصاء يختتم الدورة التدريبية "طرق قياس المؤشرات الاجتماعي والسكانية والحماية الاجتماعية لاهداف التنمية المستدامة"    لابورتا يعلن رسميا بقاء تشافي حتى نهاية عقده    فينيسيوس يتوج بجائزة الافضل    مقدمة لفهم القبيلة في شبوة (1)    "جودو الإمارات" يحقق 4 ميداليات في بطولة آسيا    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    المجلس الانتقالي بشبوة يرفض قرار الخونجي حيدان بتعيين مسئول أمني    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    الإصلاحيين يسرقون جنازة الشيخ "حسن كيليش" التي حضرها أردوغان وينسبوها للزنداني    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    الإطاحة بشاب أطلق النار على مسؤول أمني في تعز وقاوم السلطات    اشهر الجامعات الأوربية تستعين بخبرات بروفسيور يمني متخصص في مجال الأمن المعلوماتي    رئيس الاتحاد الدولي للسباحة يهنئ الخليفي بمناسبه انتخابه رئيسًا للاتحاد العربي    رجال القبائل ينفذوا وقفات احتجاجية لمنع الحوثيين افتتاح مصنع للمبيدات المسرطنة في صنعاء    حقيقة وفاة ''عبده الجندي'' بصنعاء    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    تضامن حضرموت يظفر بنقاط مباراته أمام النخبة ويترقب مواجهة منافسه أهلي الغيل على صراع البطاقة الثانية    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    لأول مرة.. زراعة البن في مصر وهكذا جاءت نتيجة التجارب الرسمية    رئيس كاك بنك يبعث برقية عزاء ومواساة لمحافظ لحج اللواء "أحمد عبدالله تركي" بوفاة نجله شايع    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    وحدة حماية الأراضي بعدن تُؤكد انفتاحها على جميع المواطنين.. وتدعو للتواصل لتقديم أي شكاوى أو معلومات.    "صدمة في شبوة: مسلحون مجهولون يخطفون رجل أعمال بارز    مليشيا الحوثي تختطف 4 من موظفي مكتب النقل بالحديدة    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    مع الوثائق عملا بحق الرد    لحظة يازمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السياسة التركية الجديدة .. محاولة اولية للفهم
نشر في يمنات يوم 28 - 08 - 2010

اكتسبت الخطوات والمواقف الاخيرة للسياسة التركية الجديدة ؛المتجهة شرقا صوب العالم الاسلامي ، وفي وسط العالم العربي ، زخما هائلا ومثيرا ليس على مستوى المواقف وردود الافعال الرسمية فحسب ، وانما وهذا هو الاهم والابرز ، على مستوى شعوب العالمين الاسلامي والغربي ، التي قابلت وتفاعلت مع تلك الخطوات والمواقف على نحو حماسي منقطع النظير ، رفعت فيه اعلام تركيا وصور قادته في المسيرات والمظاهرات والمهرجانات التي شهدتها الدول العربية وغيرها من دول العالم الاسلامي ، بل وفي مجتمعات غربية ، وانطلقت الخطب والتصريحات من كل جهة مرحبة ومبتهجة ومساندة ، في جو عام شكل التفافا وتلاحما شعبيا واسعا حول تركيا وحتى قيادتها السياسية ، وخاصة الشعوب العربية المقهورة المقموعة التي استعادت من ذاكرتها الجمعية المتراكمة امجاد وعظمة الدولة والامبراطورية العثمانية ، وكان العرب جزءا من كيانها الكبير ، وتجاوزت حالة الاحباط واليأس والقتوط السياسي الناتج عن عجز وسلبية انظمة حكمها تجاه القضايا القومية المصيرية ، وخاصة قضية فلسطين ،وعن اساليب القمع والاضطهاد والتغييب الممارس ضدها من قبل انظمتها ، وعزلها عن المشاركة والتفاعل والنشاط حول قضاياها وهمومها وتطلعاتها الخ .... ، ولقد احست تلك الشعوب ، وللوهلة الاولى مباشرة ، احساسا عميقا وكأن تركيا ، بخطوات ومواقف سياستها الجديدة الحيوية والفعالة ، تمثل طوق نجاة ومخلصا لها من وهدة السلبية والتغييب واليأس ، بل وبارقة امل لمعت في افقها المظلم بامكانية استعادة عزها ومجدها الغابر واستعادة شرفها وكرامتها المهدورة بتركيا ومن خلالها ومعها بل وحتى تحت لوائها وقيادتها ! كان المشهد متأججا بالاندفاع والحماس والاثارة ومشوبا بعاطفة دينية مستمدة من سجل الدولة العثمانية وتاريخها ودورها في العالم الاسلامي ، والعربي في مقدمته ، ولم ينحصر هذا الشعور على مستوى العامة من الجماهير فحسب ، بل تعداه ليشمل قيادات ورموز سياسية وحزبية ومثقفة من النخب المتميزة ، وكان اقتحام السياسة التركية الجديدة لقلوب وعقول الشعوب العربية وغيرها من شعوب العالم الاسلامي ، اقتحاما جازما حين اتخذ رئيس الحكومة التركي دلك الموقف الشجاع والجرئ والصادق في مواجهة العنجهية والصلف والعدوان الاسرائيلي الظالم والبشع ضد الشعب الفلسطيني المحاصر في قطاع غزة ومناصرته للشعب الفلسطيني المظلوم ، امتدادا لموقف مشابه ازاء عدوان اسرائيل على لبنان وشعبه ومناصرة الحق المشروع في المقاومة والصمود ، ووصولا الى مأساة سفن الحرية التركية الساعية لفك الحصار اللا انساني الجائر لقطاع غزة وتقديم المساعدات الانسانية لشعبه المحاصر من كل الجهات وسقوط شهداء اتراك بفعل الجريمة الاسرائيلية الشنعاء في ضرب تلك السفن الانسانية بالقوة المسلحة الغاشمة ، والواقع ان تلك المواقف الجريئة والشجاعة لتركيا بقدر مااسهمت بفعالية في فضح عدوانية اسرائبل وجرائمها ضد الانسانية وعزلها دوليا ، فانها اسهمت ، ايضا وبشكل غير مباشر ، في كشف عورة عجز وسلبية وخنوع مواقف انظمة عربية ، تعاملت مع المأساة الانسانية المروعة للشعب الفلسطيني بلا مبالاة واستخفاف وسلبية مريعة ، ولم تحرك ساكنا في مواجهة ووقف العدوان الاسرائيلي البشع وجرائمه الرهيبة في حق الشعب الفلسطيني ووطنه المسلوب ، وكأن الامر لايعنيها من قريب او بعيد ، وكأنها ليست مسئولة مسئولية مباشرة ورئيسية في ضياع الوطن الفلسطيني كله ابن حرب عام 1948م وحرب 1967م .
فماهي حقيقة ودوافع وغايات السياسة التركية الجديدة المتجهة شرقا ؟!
في محاولتنا الاولية هذه للفهم ، نقول ان تركيا ، بعد سقوط الخلافة العثمانية عقب الحرب العالمية الأولي في مارس 1924
، اتخذت لنفسها نهجا صارما ومتكاملا في بناء دولتها الجديدة والحديثة
، يقوم على جملة من الاسس والمرتكزات ، اهمها علمانية الدولة وهي علمانية مفرطة ومتطرفة الى اقصى الحدود ، بحيث عزلت الدين عزلا كليا عن الدولة والمجتمع معا ، رغم ان العلمانية الاوروبية الاصل كانت بالاساس تعمل على فصل الدولة عن الكنيسة وليس عن الدين ، وترتب على هذا المرتكز قطع وانهاء كافة اشكال وصور ومضامين تاريخها الماضي وادارت ظهرها - كلية - عن تراكمات وخبرات واوضاع وثقافة حوالي سبعمائة عام هي فترة الدولة او الامبراطورية العثمانية ، واشاحت نظرها عن العالم الاسلامي وعمقها ومجالها الحيوي الاسترتيجي في الشرق ، واتجهت لبناء نموذج سياسي اوروبي الثقافة والنظم والسياسات معتبرة نفسها جزءا لايتجزأ من اوروبا اساسا ، وبالتالي جزءا من العالم الغربي ، سياسة وثقافة واقتصادا ومجتمعا وتعليما الخ .. واقامت مع " اسرئيل " اوثق العلاقات التحالفية الاسترتيجية ، كعضو في حلف "الناتو" الغربي المساند لاسرائيل والداعم لها تاريخيا ، ولم تحتل علاقاتها بدول العالمين العربي والاسلامي سوى مرتبة ثانوية غير مهمة ، والواقع ان تركيا ، باختيارها لتلك السياسة المتجهة كلية نحو "اوروبا والغرب" ، غاب عن بال ، مخططيها الاستراتيجيين - انداك - ادراك حقيقة موضوعية اساسية تشير حقائق الجغرافيا والتاريخ والثقافة بوضوح وجلاء ان دور تركيا ومجالها الحيوي الاستراتيجي بل ومصالحها يكمن اساسا في الشرق العربي والاسلامي ، ولا يمكن لها القيام بأي دور ذي اهمية في اوروبا والغرب إلا اذا انطلقت من دورها وحضورها الفاعل في الشرق الاسلامي عموما ، ويبدو ان تركيا عبر تلك السياسة القديمة ، قد فقدت فرصة تاريخية ثمينة جدا لقيادة دول الشرق الاسلامي والغربي ، قيادة كانت تركيا ولاتزال مهيأة ومؤهلة لها ، بالنظر الى خبراتها وتجاربها بالغة الثراء المتراكمة من مسيرة الدولة العثمانية الطويلة جدا من حيث الزمن والدور ، وبالاستناد الى موقعها الجغرافي الفريد كسقف للمنطقة كلها ، وقاعدتها العلمية والصناعية ومواردها الاقتصادية وثقلها السكاني المتميز نوعيا عن سائر دول المشرق الاسلامي العربي ، واذا اضاعت تلك الفرصة التاريخية فانها اضاعت ايضا على شعوب وبلدان العالم الاسلامي العربي فرصة الانشداد الى نموذج جاذب تمثله تركيا تتحذ لنفسها في فلكه مدارات النمو والتقدم والنهضة الحضارية ، لايحاكي او يكرر نموذج الدولة العثمانية الآفلة بالتاكيد ، ولكنه يخلق تكتلا اقليميا واسعا وكبيرا وثريا ، تقوده تركيا وفق صيغ اكثر حداثة ومعاصرة . ومع ذلك ورغم ان الدولة التركية التي تأسست وبنيت على انقاض الدولة العثمانية ، وعملت بكل السبل والوسائل وبجهود مكثفة متواصلة لقطع كل علاقة او صلة تربطها بتاريخها العريق والطويل وثقافتها المتغلغلة الجذور والمتأصلة عبر مئات السنين في مجتمعها واجتثاث كل مايربطها بماضيها وتراثها ومكوناتها الحضارية الماضية الا ان الشعب التركي ، في غالبيته الساحقة ، لم يكن مستعدا ولا قادرا ، على فك ارتباطه بمكوناته وجذوره الثقافية والدينية والاجتماعية ، بل ظل دائما ، بتأثير نزعة حفظ البقاء ، يعمل على توثيق ارتباطه بكل تلك المكونات والجذور بوسائل واساليب متعددة ومتداخلة ، وظل شديد الارتباط بما اعتبره هويته الوطنية المتكونة تاريخيا وحضاريا عبر مئات السنين ، هوية اعتبرها عنوان لمجد عريق وتاريخ حافل وبالغ الثراء والخصوبة والحيوية صنعه هو بايمانه وتضحياته الجسيمة ومعاناة وعذابات اجياله المتعاقبة ، ولقد فات على منظري الدولة التركية الحديثة انذاك ادراك الحقيقة الموضوعية الثانية والتي تؤكد بان مسألة الهوية الوطنية للشعوب المؤسسة على قاعدة ثقافتها ومعتقداتها وتاريخها المشترك الضارب بجذوره في عمق الواقع النفسي والمادي للانسان يستحيل الغاؤه بعملية اجتثاث واستئصال سريعة وبقرار فوقي وهوى سياسي ظرفي مهما بلغت قوة وجبروت وقساوة القوى القائمة عليها ابدا ، وذلك درس التاريخ الذي مافتئ يتاكد امام اسماعنا وابصارنا وعقولنا من خلال مسيرة شعوب الارض وتجاربها الطويلة منذ فجر التاريخ وحتى اليوم ..
ولقد اثبتت مسيرة تاريخ الدولة التركية الحديثة بما لايدع مجالا للشك ان خيارها السياسي الاستراتيجي الذي وجه علاقاتها نحو "النموذج الاوروبي - الغربي -" باعتبارها جزءا منه وامتدادا له ، واهمال دورها الى حد فحل في مجالها الحيوي في الشرق الاسلامي العربي ، لم يكن خيارا صائبا وموفقا لامن حيث مقتضيات الجغرافيا المحددة لموقع تركيا ومجالاته الحيوية ، ولا من حيث مقتضيات التاريخ الممتد لدور تركيا " الدولة العثمانية" لحوالي سبعمائة عام متواصلة وماافرزه من اوضاع ووشائج وعواطف عميقة الجذور ، ولا ايضا من حيث المصالح والمنافع والامتيازات الوطنية العليا للدولة التركية ، وعلى امتداد مايزيد عن الخمسين عاما من الاندفاع التركي شبه الكلي للارتباط باوروبا " الاتحاد الاوروبي" والانضمام الى عضويته وجدت الدولة التركية اخيرا امام الحقيقة الصادمة انها غير مرحب بها في النادي الاوروبي ، وان الاتحاد الاوروبي مصمم تماما على رفض انضمام تركيا الى عضويته بسبب مايرونه من انتمائها الاسلامي وكثافتها السكانية الكفيلة بالاخلال بالهوية المسيحية لاوروبا !! دون وضع اي اعتبار لعلمانيتها وفصل الدين عن الدولة وعضويتها في حلف الناتو وعلاقتها الاستراتيجية مع " اسرائيل " الخ ...
وعلى وقع تلك الصدمة السياسية ، راحت الدولة التركية ، بقيادتها المدعومة شعبيا ، والواعية سياسيا ، تعيد النظر في اسس ومقومات ومرتكزات استراتيجيتها الوطنية العليا ، على ضوء ماافرزته تجربة الدولة التركية على مدى خمسة عقود من نتائج ودروس وعبر ، واستنادا الى عملية استشراف واستيعاب للمتغيرات الدولية والاقليمية ، وتشخيص دقيق للواقع التركي وقدراته وامكانياته وقواه الاقتصادية والثقافية والعلمية والسياسية والعسكرية ، مع ماتوافر لها من عقلية فذة تملك قدرات وكفاءة عالية من حيث التفكير والتخطيط الاستراتيجي الدقيق والعميق متكاملة في شخصية البرفيسور/ احمد داوود اوجلو ، الذي اختارته قيادة سياسية رشيدة ومخلصة وواعية لادارة السياسة الخارجية التركية الجديدة التي كان له شخصيا اسهام اساسي في بلورتها وصياغتها ، ومنحه سلطات وصلاحيات ادارتها ووضعها موضع التنفيذ .. فماهي معالم السياسة التركية الجديدة المتجهة شرقا ؟؟
لفهم السياسة التركية الجديدة ، بالاشارة الى بعض دوافع وابعاد وغايات هذه السياسة مع لمحة خاطفة تاريخية لتأسيس الدولة التركية الحديثة على انقاض الدولة او الامبراطورية العثمانية التي انهارت عقب الحرب العالمية الأولي ، والأسس والمقومات والنهج والفلسفة التي بنيت تلك الدولة الحديثة وفقا لها ، مستشهدة بنموذج الدولة في اوروبا والغرب وثقافتها وفلسفتها السياسية ومكوناتها التاريخية الحضارية ؛ وقاطعة كل الصلات والوشائج والمكونات الثقافية والحضارية والتراث الفكري والسياسي للدولة العثمانيية التي قامت على انقاضها وتركتها وموروثها ، وادارت ظهرها ، بشكل شبه كلي للعالم الاسلامي وشعوبه وكياناته التي كانت في معظمها خاضعة للسيطرة الاستعمارية الغربية ، وارادت الالتحاق والالتحام باوروبا بمختلف منظوماتها الثقافية والسياسية والاجتماعية . وفي هذه الحلقة نواصل محاولتنا تلك لفهم ابعاد وبواعث وغايات التوجه التركي الجديد باندفاعته المثيرة والقوية نحو الشرق العربي و الاسلامي.
وقبل البدء من المهم التوقف قليلا امام عبارة " العثمانيون الجدد" في توصيف وتعريف القيادة السياسية التركية الحاكمة ، هذا الشعار التوصيفي الذي ترددت اصداؤه في ارجاء العالم العربي وسط غمرة الحماس الهائج المتفاعل والمنفعل ، عاطفيا وسياسيا بالتوجه التركي الجديد والقوي والذي نجح الى حد كبير في احتلال مكانة ومساحة واسعة للغاية وعميقة لدى الشعوب العربية عموما ، وذلك لان مدخله وقضيته كانت مواجهة الغطرسة والصلف والعنجهية الاسرائيلية التي تمادت الى حد بعيد في اضطهاد وقمع والغاء الفلسطيني وتجويعه وحصاره واجتثاثه من ارض وطنه ، واذلال وامتهان وتركيع الشعوب العربية وتجريدها من كل اداة او وسيلة او فعل رافض مقاوم مهما كان حجمه وفعاليته محدودا وهامشيا .. والواقع انني لااتفق مطلقا مع اطلاق وصف " العثمانيون الجدد" على القيادة التركية الحالية ؛ ذلك لان الدولة او الامبراطورية العثمانية كيان قام بدوره في مرحلة تاريخية وانتهى ، ولاتربطه بالدولة التركية الحديثة اي رابط او اوجه تشابه ، كما ان الظروف الاستراتيجية والتاريخية والحضارية الموضوعية وقواعد نشوء وبناء الدول والكيانات انذاك لم يعد لها وجود في مرحلتنا التاريخية الراهنة ؛ والقيادة التركية الحالية لايحركها ولا يتحكم بعقليتها السياسية اي نوع من انواع النزعة التوسعية او النزوع الامبراطوري على الاطلاق ، انها لاتريد القيام بدور كهذا ، ولاتستطيع ، ولن يسمح لها في اطار منظومة العلاقات الدولية واحكامها وقواها الكبرى ، وليس من الحكمة التعلق باوهام وخيالات وعواطف لاوجود حقيقي لها على ارض الواقع والممكن .
والواقع ان الدولة التركية الحديثة ، منذ تأسيسها ، استطاعت ان تحقق انجازات ملموسة وهامة في بناء المجتمع التركي وتحديثه واحداث نهضة لا يستهان بها ، رغم مارافقها من سلبيات وقصور وسوء تقدير لاولوياتها ومجالاتها الحيوية ومصالحها الاستراتيجية ،وشيدت تجربة ديمقراطية حقيقية بالقياس والمقارنة بدول العالم الاسلامي والعربي، وان خالطتها شوائب تحد من نشاطها وتتحكم بمسارها ونتائجها بواسطة المؤسسة العسكرية والقضاء العلماني المساند لها ، هذه الدولة بمكوناتها وخصائصها وبما لها وما عليها برز في ظلها ومن وسطها "حزب العدالة والتنمية" بطابعه الاسلامي المنعكس على سلوك وحياة اعضائه ، غير انه يظل مع ذلك ورغم ذلك حزبا سياسيا وليس دينيا ، يعمل وفق آليات وقوانين ومقتضيات نظام علماني ديقراطي ، لقد كان "حزب العدالة والتنمية" الخلاصة والبلورة الناضجة الواعية لسلسلة سابقة عليه من الاحزاب المشابهة التي خاضت مواجهات وتجارب مريرة مع المؤسسة العسكرية ومؤسسة القضاء العلمانيتين الحارستين للعلمانية والمحتلة لمكانة فوق الدولة والديقراطية ! لقد استطاع هذا الحزب بما توفر لقياداته من رؤية واضحة وتحليل عميق ودقيق للواقع التركي ومنظوماته وقواه وآلياته ، وتلاحم عضوي وميداني بالجماهير بخدمتها وتعليمها والتعلم منها ، وامتلاكه لمشروع سياسي متكامل يناضل من اجل تنفيذه على الواقع ، استطاع بحنكة وبراعة سياسية كفؤة وفعالة وصبر ونفس طويل أن يزحزح الجيش والقضاء المتحكمين بالحياة السياسية برمتها في البلاد ، من مكانتها فوق القانون والديمقراطية بل وفوق الدولة الى المكانة الطبيعية والسليمة لهما داخل الدولة ومنظومتها الدستورية والقانونية المفرزة وفقا للممارسة الديمقراطية ومقتضياتها ، مستفيدا في نضاله ذاك بالمتغيرات والتطورات الهائلة التي سادت العالم بعد انتهاء فترة الحرب الباردة وانتشار العولمة على المستوى العالمي ، ومحاطا بقاعدة شعبية هائلة وصلبة مكنته ، ولاتزال من الوصول الى سدة الحكم باقتدار ..
ان حزب العدالة والتنمية ؛ كمحصلة اخيرة لعدد من الصيغ والاشكال الحزبية التي سبقته ومهدت له ، والتي تعرضت للاقصاء والتصفية بكل ماقدمته من تضحيات ومعاناة مريرة وطويلة ، ليس حزبا تقليديا كالاحزاب السياسية التي نعرفها في العالم الاسلامي - العربي خصوصا ، ولكنه جسد نموذجا جديدا في رؤيته ومشروعه واساليب عمله ونضاله السياسي والشعبي ، حيث لم يقتصر وجوده وحركته على قاعدة شعبية واسعة ومؤثرة يقوم بتعبئتها وحشدها ابان المواسم الانتخابية فحسب ، بل انه اتخذ من الجماهير قاعدة انطلاق دائمة يعيش معها وبها ، ويتفاعل مع مشاكلها ويساهم معها في الحلول والمعالجات ، ويقدم او يسهم بفعالية في تحقيق الخدمات المختلفة للجماهير تعليمية وثقافية وصحية واجتماعية الخ ... ، واستطاع ان يبني لنفسه قاعدة اقتصادية استثمارية ضخمة ( مصانع - مشاريع زراعية - مشاريع تجارية - مؤسسات ثقافية وتعليمية ورياضية الخ ...) في طول البلاد وعرضها ، قدمت خدمات وفوائد ومصالح جمة للجماهير من حيث تقليص حجم البطالة وتوسيع نطاق التنمية الاقتصادية الاجتماعية المستدامة ، انه حزب سياسي ليس عابرا ومعلقا بتغيير اتجاهات الرأي العام وتقلباته السياسية التي ادت الى تلاشي احزاب سياسية كثيرة سواء في تركيا او في غيرها من دول العالم .
وعلى ضوء ماسبق ذكره يتضح بجلاء ، ان قيادة الدولة التركية الحاكمة اليوم ، والتي افرزها وكونها ودفع بها الى سدة الحكم حزب التنمية والعدالة ، لوعي كامل واستيعاب شامل ، انما جاءت وبرزت وكونت لهدف واحد وهو إدارة دفة الحكم وقيادة الدولة التركية فقط ، وفق وعلى اساس الاستراتيجية والسياسة والاهداف المرسومة بعناية ودقة لتحقيق اقصى قدر من المكاسب والمصالح والمنافع للدولة والشعب التركي ، والعمل على انجاز آماله وتطلعاته وطموحاته المشروعة في حياة العزة والرفاهية والرقي والنهوض الحضاري الشامل .
ولأن الدولة التركية ، دولة ديمقراطية راسخة ، تقوم على عمل المؤسسات الدستورية ؛ وليس الفرد ، وعلى فصل للسلطات ، وعلى قاعدة فاعلة ومؤثرة من منظمات المجتمع المدني ، وعلى سيادة القانون ، وعلى حقوق وحريات الشعب التركي كافة ، وعلى صحافة حرة وتعبير حر عن الاراء والافكار دون قيود او ترهيب ، وعلى تداول حقيقي للسلطة ، بعيدا عن تخليد الزعماء فيها مدى الحياة ، فقد ادركت القيادة التركية ، وحزبها المؤسسي الحاكم ، واستوعبت حجم وابعاد ومغازي المتغيرات المتسارعة والمذهلة التي شهدها العالم في اعقاب انتهاء الحرب الباردة وسقوط نظام القطبين العالميين المتصارعين ، وسيادة الغرب بقيادة امريكا على العالم دون منازع ، وطبيعة النتائج والتأثيرات التي ستنعكس على تركيا ومكانتها ودورها ، في ظل عضويتها في حلف "الناتو" العسكري الغربي ، ودرست الرؤى والتحليلات المختلفة التي رأت بان اهمية تركيا ودورها ومكانتها ستقل وتضعف الى حد كبير ، ذلك ان الاهمية الكبرى والحساسة لدور تركيا ابان الحرب الباردة ، لاشك انها ستصبح اهمية هامشية ان لم تتلاشى اصلا.
غير ان القيادة التركية وحزبها المؤسسي الحاكم ، رأت ببصيرة استراتيجية نافذة ، ان اهمية تركيا ومحورية دورها لن تقل او تضعف او تتلاشى ، بل على العكس ذلك سوف يزداد دورها اهمية وفاعلية ، اذا مااحسن تقييم وتحليل المتغيرات الدولية المتسارعة من حيث طبيعتها وابعادها واهدافها والنتائج والآثار التي ستترتب عليها ، واعيد في ضوئها ، النظر في مرتكزات واسس واتجاهات استراتيجيتها المعتمدة منذ مابعد تأسيس دولة تركيا الحديثة ، فاذا كانت الاهمية الكبرى والدور الهام الذي لعبته تركيا ، كعضو في حلف "الناتو" العسكري الغربي ، نبعت من موقعها الاستراتيجي الهام وخلفيتها الثقافية التاريخية في مواجهة المعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي ، واذا كان هذا المعسكر قد سقط مسجلا انتصارا مدويا للمعسكر الغربي الراسمالي بقيادة امريكا عالميا ، فان اندفاع الولايات المتحدة الامريكية الجامح والمتهور لتحقيق سيطرتها الاحادية المتفردة على العالم في سياق نزعة امبراطورية تملكتها وتحكمت في سياساتها العالمية ابان حكم اليمين المتطرف "المحافظين الجدد" ، وبروز "ظاهرة الارهاب والحرب العالمية ضد الارهاب" وقيام امريكا بدور"شرطي العالم" من شأنه اختلاق عدو جديد تبرر ذلك الدور الامريكي الاحادي عالميا ، وكان واضحا من واقع كتابات منظري" المحافظين الجدد" او "الليبرالية العولمية الجديدة" ، ان "الاسلام" هو ذلك العدو الجديد الذي يجري نصبه وتجسيم خطره ، وهو مايشير ان ساحة العالم الاسلامي والعربي الجغرافية ستكون مسرحا لتلك الحرب العالمية التي تشنها امريكا على مايسمى بالارهاب الاسلامي! وهنا بالتحديد ادرك قادة تركيا بوعي وعمق ونفاذ بصيرة بان اهمية تركيا ودورها الاستراتيجي ستزداد وتتصاعد على نحو اكبر واوسع مما كانت عليه في المراحل التاريخية السابقة ، ومن هنا تحديدا رسمت معالم الاستراتيجية التركية القاضية بتحويل اتجاه دورها الاساسي نحو الشرق ، بمفهومه ونطاقه الواسع الممتد من افغانستان مرورا بباكستان وايران وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين ودول الجزيرة العربية والخليج ووصولا الى مصر والسودان فليبيا وتونس والجزائر والمغرب والصومال واليمن ، ومنه يتفرع الى جمهوريات آسيا الوسطى الاسلامية التي كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي قبل سقوطه والدول الناشئة في منطقة البلقان ، وشرقا نحو جنوب شرق آسيا ، وربما ايضا بعض دول القارة الافريقية وبعض دول امريكا اللاتينية، انه مجال حيوي بالغ الضخامة والاتساع ومترامي الاطراف الى حد مذهل . ويقينيا ان تركيا ،الدولة الوطنية الكبيرة لاتسعى ولاتريد ولاتفكر حتى مجرد تفكير الى اعادة استنساخ نموذج ،الدولة او الخلافة او الامبراطورية العثمانية ،على هذا العالم المترامي الاطراف ، فلا امكانياتها وقدراتها تمكنها من ذلك ،ولا عالم اليوم بقواه الكبرى وتوازناته وعلاقاته يمكنه ان يسمح بشئ من هذا القبيل او حتى اقل منه كثيرا ، وكل ماتطمح اليه تركيا ان تكون لاعبا حيويا ونشطا ، والقيام بدور يضبط الايقاع المختل لدول هذا العالم وشعوبه ويعيد لها قدرا معقولا من التوازن والاستقرار ، وجعل عجلة التنمية والتطور والتقدم تدور بشكل اسرع وافعل ، وحث وتشجيع دول هذا العالم على تسريع وتيرة الاصلاحات السياسية على طريق إرساء ممارسة ديمقراطية سليمة وبناءة تكفل لشعوبها حقها في الحرية والمشاركة والكرامة والسلام كمدخل لمعالجة التوترات والفتن والحروب الداخلية التي تعصف بهذا العالم ، وإرساء مصالحة بين الانظمة الحاكمة وشعوبها المحكومة ، ولاشك ان العالم العربي يحتل اولوية خاصة في الدور التركي الجديد من واقع الادراك المحسوس بما يعانيه هذا العالم من فراغ سياسي قيادي نتج عنه انسداد الافق امام شعوبه وغياب الامل والاستسلام لحالة يأس واحباط بالغة الخطورة بما قد تسفر عنه من مشاكل وازمات وتفجرات وحروب وفتن داخلية تفسح المجال لقوى التطرف والعنف والارهاب والجريمة المنظمة لاستغلال تلك الاوضاع وتهديد الامن والسلام الاقليمي والدولي .
وعلينا ان لانقع في خطأ التقدير اذا نحن ظننا ، للحظة واحدة ان السياسة التركية الجديدة المتجهة شرقا ، ان تركيا ادارت ظهرها ، او انها ستدير ظهرها لعلاقاتها باوروبا والغرب بل وحتى "اسرائيل" وتستبدله بالتوجه الكلي شرقا ، لااعتقد ان ذلك سيحدث بل ستواصل تركيا عضويتها في حلف"الناتو" وفي سعيها للانضمام الى اوروبا وارتباطها بالغرب ، مع بعض التشذيبات والتحسينات ، وكل مافي الامر ان تركيا ستنطلق في توجهها او سياستها الجديدة من دور فاعل ونشط وبناء في الشرق لدعم وتعزيز توجهها نحو الغرب في صيغة تحقق توازنا دقيقا بين التوجهين بما يحقق المصالح والمنافع والمكاسب الوطنية لتركيا بشكل اكثر فاعلية ونجاحا ، وفي إطار كونها دولة ديمقراطية محترمة في سياساتها ومواقفها المستقلة والوطنية وليس كتابع مسلوب الارادة وخانع ومستسلم .
بقي ان نسلط ضوءا ،حول المحاور الرئيسية لممارسة السياسة والدور التركي الجديد في الشرق وخاصة منه العالم العربي ..
استعرضنا طبيعة الظروف والمتغيرات الدولية والداخلية التركية والعوامل والبواعث التي حتمت إعادة صياغة السيسة الاستراتيجية الخارجية لتركيا ، والاهداف والغايات المتوخاة منها على صعيد الدور والمكانة والاهمية للدور التركي الاقليمي .
وفي هذه نواصل محاولتنا الاولية للفهم باستكمال سياق الحديث ، لنشير الى ان حزب العدالة والتنمية الحاكم ، استطاع باقتدار ملفت ، وكفاءة ووعي سياسي عميق ان يفرض وجوده واحقيته الديمقراطية المشروعة في حكم البلاد ، وان يعيد مؤسسة الجيش والقضاء الى وضعهما الطبيعي داخل اطار الشرعية الدستورية للدولة وليس فوقها او خارجها ، كل ذلك من داخل الدولة القائمة وباستخدام ادواتها وآلياتها ومؤسساتها ومنظومتها الدستورية والقانونية ، وليس عبر الانقلاب عليها ومواجهة مؤسساتها النافذة والمهيمنة ، محدثا جملة من الاصلاحات والتغيرات والتعديلات لاعادة تكييفها وملائمتها للاصول الديمقراطية الطبيعية والمتعارف عليها ، لاول مرة منذ تأسيس الدولة التركية الحديثة ابان عشرينيات القرن الماضي ، دون تعارض او تصادم مع اسس وطبيعة النظام العلماني القائم ، بل تطويرا وتحديثا له ، استنادا الى اغلبية برلمانية ساحقة تمكن من تحقيقها بأداء مقتدر وحركة فاعلة ونشطة وناجحة ، وفي ظل انجازات ومكاسب ونجاحات مذهلة في تحقيق انتعاش اقتصادي وتنمية شاملة في تركيا بدات بحرب حادة وحقيقية ضد الفساد المالي والاداري في اجهزة الدولة ومؤسساتها وتحسين مستويات الدخل والمعيشة بشكل ملموس وهام للمجتمع التركي الخ ... ، مثلت نقلة نوعية واسعة وغير مسبوقة في مختلف مجالات الاقتصاد التركي ، بالاضافة الى الالتفات الرسمي ، ولاول مرة في تاريخ تركيا ، الى مشاكل الوحدة الوطنية الداخلية، والشروع بمقاربات عملية بطيئة ، لكنها مدروسة وهادفة ، لمعالجة مشكلة الاقلية القومية الكردية الكبيرة واعطائها بعض حقوقها الثقافية المشروعة والاعتراف بالهوية القومية للاكراد في تركيا والسماح باستخدام لغتهم الوطنية واطلاق قناة تلفزيونية ناطقة بالكردية وغيرها من الحقوق المؤمل مواصلتها وتوسيعها ناهيك عن معالجة مشكلة الارمن التاريخية من خلال التقارب واقامة علاقات طبيعية مع جمهورية ارمينيا ، كل ذلك وغيره من الاجراءات والخطوات والسياسات الهادفة الى ضمان وضع سياسي داخلي قوي ومتماسك ومتناغم يهيئ تركيا للنهوض باعباء استرتيجيتها السياسية الاقليمية الجديدة بآفاقها الرحبة ومسئولياتها الجسيمة ، والتي لم تكن وليدة لحظتها بل جرى رسم معالمها وابعادها واهدافها ووسائلها منذ مايزيد عن عشرين عاما خلت ، ووضعت موضع التطبيق المتأني والمتبصر منذ ذلك الحين .
ويمكن من رصد المؤثرات والشواهد ، ان نتبين عدة محاور او مجالات للسياسة والدور التركي الجديد يتم تحركها وفق طبيعة وظروف وملابسات كل محور على حدة ، وقبل الدخول في هذا الجانب لابد من التاكيد على حقيقة مؤداها ان السياسة والدور التركي الجديد المتجه -اساسا- نحو الشرق الواسع ، لن يتم على حساب ، او كبديل لدورها وارتباطها التقليدي بالغرب وحلف "الناتو" والاتحاد الاوروبي ، اذ من المؤكد ان هذا الدور سيستمر والمرجح ان يتعزز ويتقوى اكثر مع ماتقتضيه الظروف والمتغيرات من تعديلات وتحسينات وتنقيحات بين فترة واخرى ، اذ سيظل الدوران يتعاملان ويعزز احدهما الآخر ويدعمه ويقويه بحيث يصبان معا في مجرى الاهداف والمصالح الوطنية التركية ، فدورها الشرقي يوفر لها مزايا وقدرات ومكانة ضمن المنظومات الغربية ويضاعف من قيمتها وتأثيرها على النطاق العالمي ، ودورها الغربي يعطيها قوة دفع قوية ومكانة وتأثير في ممارستها لدورها الشرقي وهكذا فان تركيا لن يقتصر دورها في المستقبل وتاثيرها ونفوذها على المستوى الاقليمي فحسب ، بل سيجعل منها لاعبا له اعتباره وكلمته على المستوى الدولي ايضا . وهنا يجب ان لا نفاجأ او نصدم بانه حتى دورها وعلاقتها ب"اسرائيل" لن تنتهي ، بل ستستمر هبوطا او صعودا وفق مقتضى تطور الاحداث والمتغيرات في المنطقة .
ويبدو واضحا ان المحور العربي للتحرك التركي الجديد المستند الى استراتيجيتها السياسية الجديدة ، يحتل اهمية خاصة واولوية اولى ، فيما يبدو، وذلك راجع الى جملة من الاعتبارات "الجيوسياسية" من ناحية ، بالنظر الى العامل الجغرافي الواسع والممتد بين تركيا والعالم العربي ، والى الاعتبار "الثقافي التاريخي الحضاري" المشترك والذي تكون وتبلور وتجذر عبر تاريخ ثقافي حضاري سياسي امتد متواصلا لمئات عديدة من السنين ؛ مما جعله ممتزجا بطابع "روحي عاطفي" عميق الجذور في العقلية والنفسية لكلا الامتين العريقتين ؛ العربية والتركية ، ظل يعمل كجاذب طبيعي تلقائي بينهما ، واذا عدنا للتاريخ ؛ فاننا نلاحظ ان الدولة او الامبراطورية العثمانية ؛ تعاملت في بسط نفوذها وسيطرتها ، السياسية والعسكرية في العالم العربي ؛ تعامل "الفاتح الحميم" وليس تعامل "الغازي الفج" والغليظ ، ربما كان هذا الملمح التميزي في محاور توسع رقعة الامبراطورية العثمانية ، الذي امتد ليشمل اجزاء واسعة من اوروبا بالاضافة الى امتدادها الى اجزاء واسعة وشاسعة من قارتي افريقيا وآسيا ، يعود الى الثقافة العقيدية "الاسلامية" المشتركة والنشطة انذاك والتي تعتبر العرب مادة الاسلام وحملة رايته والوية دعوته ابتداء واهتداء واقتداء بالرسول والنبي"العربي" محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي بعث رحمة للعالمين كافة وداعيا الى الله سبحانه وسراجا منيرا ، ولهذا فقد حرص العثمانيون على اللين والمودة والرفق ، غالبا ، في بسط سلطانهم باسم الاسلام ، على العالم العربي ، الا ماشهدته المرحلة المتأخرة من تاريخها اقصد " الدولة العثمانية" ، من تغليب لممارسات البطش والقمع واساليب القوة والعنف في مواجهة حركات المعارضة والرفض لسياسات "التتريك" الفجة واثقال كاهل الناس باعباء واحمال تفوق طاقتهم على التحمل ، وذلك نهج و سم ما يمكن توصيفه بمرحلة "الانحطاط والوهن" بشكل خاص ، ومع ذلك فيمكن القول بان العرب رحبوا بالفتح العثماني واستبشروا به ؛ خاصة حين جاء لمواجهة تحديات واطماع وغزوات القوى الاوروبية الاستعمارية ، غير الاسلامية التي ارادت فرض سيطرتها السياسية والعسكرية واحتلال العالم العربي ، ولم تبرز حركات المقاومة الرافضة للسيطرة العثمانية بوجه اخص ، الا حين تظهر زعامات محلية ، في هذا الجزء او ذاك من العالم العربي ، طامحة الى فرض حكمها وبسط سلطانها بشكل مستقل عن "الدولة العثمانية" ، مستخدمة وسائل واساليب من"الدعايات" المبرمجة الهادفة الى تشويه صورة "الحكم التركي" والاساءة الى مقاصده وغاياته ، حيث وجدت تلك "الدعايات" الغير صحيحة والمندرجة ضمن نطاق "الحرب النفسية والدعائية المضادة" ، مناخا متقبلا ومنخدعا بها ، بالنظر الى انتشار"الجهل" و"الامية" وغياب ابسط مقومات الوعي السياسي المستنير ، غير اننا لسنا هنا بصدد تقييم ودراسة تاريخ وتجربة ومسار"الدولة العثمانية" ، بل فقط لاستخلاص عبرة ما تخدم محاولتنا الاولية للفهم هذه ، ومختصرها يشير الى ان الدولة العثمانية ادركت ادراكا عميقا وصائبا للاهمية "الجيوسياسية" والاقتصادية والعسكرية القصوى للعالم العربي بالنسبة للحاضر والمستقبل والغايات والتطلعات "الامبراطورية" الطموحة للدولة العثمانية ، وان الإحجام عن السيطرة عليه وبسط سلطانها عليه من شأنه ان يحصرها ويحاصرها ويجعل منها مجرد قوة صغيرة عادية لا وزن لها ولا ثقل ولا تأثير اقليمي وعالمي ، واذا كان هذا الادراك مثل ثاقب بصر وبصيرة "تركيا العثمانية" في الماضي، فانه اليوم ، كما كان بالامس ، يمثل شمول وعمق وصواب الرؤية الاستراتيجية والدور الجديد لتركيا الحديثة ، التي تسير بخطوات متئدة ومدروسة ومتدرجة على طريقها وفي ضوئها ونحو غاياتها فيما خص "المحور العربي" لها . ولقد تجسدت تلك الرؤية الاستراتيجية الشاملة - في جانبها العربي ، واضحة جلية ، تقريبا منذ اواخر القرن العشرين ، ومع بداية التحرك الامريكي الغربي لضرب العراق وغزوه واحتلاله عسكريا ، بداية من "حرب تحرير الكويت" وانتهاء بالعدوان العسكري الشامل واحتلاله وإحكام السيطرة عليه في العام 2003 م ، اذ اتخذت "تركيا" منذ البدء موقفا ثابتا في رفضها القاطع استخدام اراضيها منطلقا للقوات العسكرية لضرب العراق واحتلاله ، رغم كونها عضوا اساسيا في حلف "الناتو" العسكري الغربي ، مستندة في موقفها ورفضها الثابت والحازم ومبررة إياه بمقتضيات "الديمقراطية" الحقة التي تسير على اساسها وبها في ادارة شئون الدولة وسياساتها المختلفة ، تلك الديمقراطية المحترمة التي جعلت نواب وممثلي الشعب في البرلمان التركي المنتخب يرفضون تماما فكرة استخدام اراضي تركيا والقواعد العسكرية الغربية فيها منطلقا للعدوان والاحتلال ، وماكان للحكومة باي حال من الاحوال ، ان تخالف ارادة شعبها ومشيئته الحرة . ولم تستطع امريكا والدول الغربية المتحالفة معها ، وهي موئل الديمقراطيات العريقة ، ان تعترض على قرار وموقف الحكمة التركية ولا اتخاذ اجراءات تهديدية وعقابية ضدها ، لانها تعلم أن ذلك القرار والموقف لم يتخذه "حاكم" فردي مطلق السلطات والصلاحيات ، بل اتخذته "حكومة" ديمقراطية حقيقية تحترم خيارات شعبها وتعمل وفقا لارادته الحرة وبالتالي تفرض احترامها وهيبتها على العالم اجمع ، ثم توالت مواقفها وسياساتها الاولية المعبرة عن رفض وشجب العدوان "الاسرائيلي" على لبنان والشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية والتنديد بالاستخدام البالغ الافراط للقوة العسكرية ، ودعم صمود الشعبين اللبناني والفلسطيني في مشروعية مقاومتهما للعدوان "الاسرائيلي" الدموي البشع ، مما شكل مدخلا واسعا جدا وملائما لبداية"دور تركي" فاعل ونشط وواسع في العالم العربي ، وخاصة ذلك الموقف التاريخي المشهود الذي عبر عنه رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان على نحو قوي وحاسم وحازم وشديد في مواجهة للرئيس "الاسرائيلي" في احدى القمم السياسية الاوروبية الدولية وانسحابه الشامخ من المؤتمر ردا على اساءات الاخير والاسلوب السيئ والمنحاز في ادارة المؤتمر ، حيث كان ذلك الموقف الشجاع والشامخ بمثابة "الشرارة" الملتهبة التي فجرت غليان المشاعر واشعلت جحيم العواطف الجياشة تجاه "تركيا" وقيادتها ، ليس على مستوى الوطن العربي ، والاسلامي الى حد كبير فحسب ، بل على مستوى الشعب التركي الذي انطلق في هزيع الليل الاخير والقارس ليستقبل "فارسه" المقدام ويعرب عن تأييده ومساندته له . كان ذلك الموقف التاريخي غير المسبوق ، دفعا قويا لمنحنى صاعد ومتسارع في اتجاه العالم العربي ، وارتكاس لمنحنى هابط متزايد الهبوط في علاقات تركيا ب "اسرائيل" ، انتصارا للشعب الفلسطيني ورفض وادانة قوية لعدوان "اسرائيل" الهمجي والبشع ضد سكان قطاع "غزة" المحاصرين والجوعى والمظلومين ، واتت اخيرا كارثة سفن الحرية التركية لفك الحصار الظالم عن غزة والعدوان العسكري الاسرائيلي عليها ومانتج عنه من سقوط تسعة شهداء اتراك من بين ركابها المسالمين العزل من السلاح ، لتدق مسمارا قويا في نعش العلاقات الاسترتيجية القديمة بين تركيا و"اسرائيل" ، ولئن كانت تركيا قد اجبرت "اسرائيل" في مسألة اهانة سفيرها على تقديم اعتذار رسمي ، وهي مصممة اليوم على نفس الاعتذار الرسمي والتعويضات والتحقيق الدولي في الجريمة النكراء ؛ فإن ماهو اكبر واهم من كل ذلك هو ان تركيا افهمت "اسرائيل" بصريح العبارة واقواها انها لن تقبل مطلقا ، بعد اليوم ، بتفرد "اسرائيل" واحتكارها الهيمنة والنفوذ والتحكم بالمنطقة وتقرير مصائرها حسب هواها وحدها ، وان تركيا سوف تكون من الان فصاعدا القوة الاقليمية الكبيرة الموازية والمنافسة وستدافع عن مصالحها الوطنية العليا فيها بدون هوادة او تراخ . وان الامة والمنطقة العربية هي - بحق - تركية "الهوى" و "العاطفة" مثلما هي "تركيا" عربية "الهوى" و"العاطفة" ، ولهذا فان تركيا لن تسمح ل "اسرائيل" بعد اليوم ان تعربد وتصول وتجول في العالم العربي كيف تشاء ومتى تشاء وتستخدم قواتها العسكرية المتفوقة في اعتداءاتها عليها لفرض هيمنتها وسيطرتها وتحكمها بمصير المنطقة واخضاعها لاهدافها التوسعية المستمرة ، اذ ان لتركيا مصالح واسعة ووشائج عميقة وقرابات وثيقة في هذه المنطقة ستدافع عنها بكل السبل . وكلنا يدرك ويعي ان تركيا ليست كأي دولة من دول المنطقة ، بل تكتسب اهمية حيوية بالغة وثقلا ووزنا سياسيين عسكريين كبيرين من حيث كونها ؛ اولا : قوية وصلبة ومهابة بديموقراطيتها الراسخة واحتكامها الى ارادة شعبها الحرة مايكسبها احترام العالم وتقديره العاليين ،ويتيح لها هامشا واسعا للمناورة والحركة الطليقة البناءة . وهي ثانيا : عضو فاعل واساسي في الحلف العسكري الاوحد والاقوى عالميا "الناتو" وصوتها مسموع ورأيها معتبر وتأثيرها وثقلها معترف به ، ولا يمكن ادارة الظهر لها او التعامل معها بخفة واستخفاف ابدا ، كما تعامل - غالبا- بعض دول المنطقة او معظمها . ثم هي ثالثا : قوة اقتصادية صناعية تكنولوجية عسكرية علمية مهمة ولا يستهان بها ، مما يوفر لها قدرة على التحرك والفعل للدفاع عن مصالحها وفرض دورها الاقليمي والدولي الذي تستحقه عن جدارة . وهناك ايضا عمقا استراتيجيا شعبيا اسلاميا هائلا لن يتوانى في تأييدها ومساندتها والالتفاف حولها اذا ماتطلبت مسارات الاحداث وتطوراتها ذلك ، ومن هنا كانت امريكا ، والغرب عموما ، وهو المعروف عنه تقليديا تأييده الاعمى واللا مشروط واللا محدود ل " اسرائيل" ، ملتزما اقصى درجات الحيطة والحذر والتأني والقلق من تصاعد "الازمة المتفجرة" في العلاقات التركية الاسرائيلية ، على غير ماعهد عنه عادة فيما يتعلق باسرائيل ، ذلك انه غير مستعد على الاطلاق بالتفريط بتركيا والتضحية بها لسواد عيون "اسرائيل" ، كما انه ملتزم بما يسمى بأمن اسرائيل وحماية وجودها !! ان الغرب عموما في ورطة بالغة الحساسية .. ولكن كيف مارست تركيا تحركات دورها السياسي الجديد في العالم العربي؟ وماهي المعوقات والعقبات والتعقيدات التي واجهتها في ذلك التحرك وكيف تعاملت معها ؟
تطرقنا إلى مسألة تفجر الصراع بين تركيا و"إسرائيل"، وآفاقه في الأهمية والثقل والوزن الإقليمي والدولي لتركيا وعلاقاتها الاستراتيجية الوثيقة بالمنظومة الغربية العسكرية والسياسية، وأبعاد السياسات والمواقف التركية المهمة إزاء العالم العربي، وانتهينا إلى سؤال حول كيفية ممارسة تركيا لدورها وحضورها العربي، والعقبات والمعوقات والتعقيدات التي واجهتها وكيفية تعاملها معها. والواقع أن تركيا لم تكن غافلة، على الأقل منذ عقد من الزمن، أو غير مدركة لما يشهده ويعيشه العالم العربي، من خلافات وتباينات وتنافرات وحساسيات بين الأنظمة الحاكمة لبلدانها، وما يعكسه ذلك من تمحورات متصارعة ومتخاصمة، وتمزق وتفرق وانقسام سياسي واسع بين دوله وحكامه، بل كانت تدرسه وتتابعه وتحلله بعناية واهتمام ملحوظين. ويبدو أن أهم ما استخلصته من كل ذلك أن العالم العربي، في مستواه السياسي الرسمي، يعاني من أزمتين عميقتين تؤثران، على نحو سلبي وخطير، على وحدة وتلاحم الموقف العربي، وبشكل أفقده قدراً كبيراً جداً من الفاعلية والقوة والتأثير، وهما:
الأزمة الأولى: تتمثل بإخفاق الحكومات العربية في الاتفاق على رؤية إستراتيجية سياسية عامة، تمثل ولو الحدود الدنيا والقواسم المشتركة العريضة في ما بينها، لموقف وتحرك عربي موحد تجاه التحديات والمشاكل والمخاطر التي تستهدف مصالحهم وحاضرهم ومستقبلهم، وكيفية خلق القوة والقدرة اللازمة لمواجهتها والدفاع عن مصالحهم العليا، وذلك ما أضعف إلى حد كبير قوة الحضور العربي وضمان احترام أهدافه وتطلعاته المشروعة إقليمياً ودولياً.
الأزمة الثانية: أن العالم العربي يعاني، منذ عقود خلت، من غياب "القوة القائدة" القادرة والمؤهلة على إنهاء حالة اختلال التوازن والتشتت والتمزق والتنافر بين أنظمته الحاكمة، وضبط وتنظيم إيقاعاتها وخطواتها، وصولاً إلى وحدة الهدف والصف والتحرك العربي المشترك.
إن غياب "القوة القائدة" ذات الوزن والثقل والقوة، أدى إلى انعدام أو ضعف العمل من أجل إقامة "مركز ثقل استراتيجي عربي" يشد إلى فلكه وحركته وثقله سائر البلدان والحكومات العربية نحو خدمة مصالح العرب وقضاياهم الاستراتيجية على نحو منسق متناسق متكامل منظم يحشد طاقات وإمكانيات العرب الهائلة لخدمة تلك المصالح والقضايا والانتصار لها.
والواقع أن مشكلة "الفراغ القيادي" في العالم العربي، قد نتج بفعل انكفاء وانحصار اهتمامات وسياسات كل دولة من دوله، وخاصة الدول الكبرى الرئيسية فيه، على نطاقها ودائرتها الوطنية الضيقة، وعدم مد نظرها ودورها إلى نطاقها القومي، فراحت كل دولة من دوله ترسم وتدير سياستها، محلية الاهتمامات والقضايا، بمعزل عن ترابطها مع المصالح القومية والمصير المشترك عربياً، وبالارتباط والتحالفات مع قوى دولية كبرى، على حساب المصالح القومية العربية المشتركة وشديدة الترابط.
وفي ضوء تلك الرؤية لهذا الموقف العربي الضعيف والمفكك والمنقسم، راحت تركيا تتخذ سلسلة من المواقف والخطوات والإجراءات بهدوء وتأنٍّ بالغ، وبحذر وعناية فائقة، بادئة بسوريا، وكان منطقياً وضرورياً أن تكون سوريا البداية، حيث شهدت علاقات تركيا معها تطوراً متسارعاً وواسعاً شمل كافة المجالات، من الناحية الكمية والنوعية، وأصبح من الملاحظ جلياً أن تلك العلاقات تسير حثيثاً نحو علاقات "شراكة استراتيجية شاملة". ومثلما كانت "بلاد الشام" بوابة "الدولة العثمانية" قديماً إلى العالم العربي، فإن سوريا، ومعها وإضافة إليها لبنان وفلسطين، شكلت اليوم بوابة الدولة التركية الحديثة للعالم العربي، بأساليب وغايات معاصرة، مختلفة تماماً عن أساليب وغايات الماضي المنصرم. والكل يعلم ما يربط الشعبين في سوريا وأرض الشام من ناحية وتركيا من ناحية أخرى، من علاقات تاريخية ثقافية اجتماعية اقتصادية متداخلة وعميقة وموغلة في القدم، وامتداد جغرافي طبيعي واسع بينهما، وهي علاقات وثيقة وراسخة العرى وصلت إلى إدارة تركيا المحادثات غير مباشرة بين سوريا و"إسرائيل" لحل الصراع بينهما، قطعت شوطاً بعيداً جداً وكادت توصل إلى نتائج مهمة وعملية لولا قيام "إسرائيل" بنسفها وتدميرها بعدوانها العسكري الكاسح على قطاع غزة وتدميره في أوج المحادثات غير المباشرة تلك.
إن العنجهية وغطرسة القوة وغرورها بدون أي اعتراض دولي من أي نوع، دفع تركيا إلى التصدي لها بكل قوة وفاعلية، ولجمها وإخضاعها لأحكام وضوابط القانون الدولي. وقد تميزت السياسة التركية بحكمة وحنكة مشهودة في نجاحها لإقامة علاقات وثيقة وواسعة ومتميزة مع سوريا ولبنان وفلسطين، متحاشية الارتطام بحقول ألغام الخلافات والحساسيات والمحاور العربية الرسمية المتنافرة بشدة، منطلقة نحو العراق، في وضعه المضطرب غير المستقر، لتشيد معه أسس علاقات متينة متطورة قائمة على حسن الجوار والمصالح المشتركة، وفي الوقت نفسه لم تتردد في فتح قنوات حوار وتفاهم وعلاقات طيبة مع إقليم "كردستان العراق" شبه المحكوم ذاتياً، بهدف صياغة رؤية مشتركة وإيجابية وعملية في اتجاه التحرك المتناسق للحيلولة دون تمكين تحركات "حزب العمال الكردستاني التركي" من تفجير ونسف العلاقات الطيبة والمصالح المشتركة بين العراق، بما فيه إقليمه الكردستاني، وتركيا، في ظل مساعٍ جادة ومتدرجة ومتأنية لوضع حلول معقولة ترضي جميع الأطراف، للمشكلة الكردية في البلدين. ولم تكن المشكلة المائية غائبة في هذا التحرك التركي النشط في كل من سوريا والعراق، بل كانت حاضرة، وصولاً إلى معالجات ودية جوارية أخوية بين دولة المنبع ودولتي المصب، بما يحفظ الحقوق المتعارف عليها لجميع الأطراف.
ولم تتوقف السياسة والدور التركي الجديد على الدول العربية المجاورة جغرافياً بشكل مباشر (العراق وسوريا) إضافة إلى لبنان وفلسطين، بل واصلت حركتها وتحركها بشكل أكثر اتساعاً، فشهدت علاقاتها انطلاقات هامة مع دول عربية أخرى، في الأردن والسعودية وسائر دول مجلس التعاون الخليجي، واليمن، وإلى الغرب العربي مع ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، وصولاً إلى إلغاء تأشيرات الدخول بين مواطني تركيا ومواطني أكثر تلك الدول العربية المذكورة آنفاً، وتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري والثقافي وحتى العسكري.
إن الملاحظة الرئيسية للسياسة والدور التركي الجديد في العالم العربي، أنها استطاعت باقتدار ملحوظ أن تقفز من فوق الخلافات والحساسيات والتباينات بين الدول العربية، ونأت بنفسها عن الانزلاق إلى دوامة المحاور العربية الرسمية المتنافرة والمتصارعة، بالوقوف على مسافة واحدة بين الجميع، وبالتعامل بنفس الروح والإيجابية مع الكل دون تمييز أو مفاضلة، إلا من حيث المدى والأفق المتاح لتطور العلاقات مع هذه الدولة أو تلك.
فهل يمكننا، في ضوء ما سبق، أن نتصور إمكانية قيام تركيا، على المدى الزمني المنظور، بدور المقرِّب للآراء ووجهات النظر العربية المتنافرة، والساعي النزيه والمحترم إلى جمع الدول العربية واتفاقها على رؤية استراتيجية عربية واحدة ترص صفوفهم وتوحد هدفهم وقواهم وطاقاتهم لخدمة مصالحهم وقضاياهم القومية المهددة؟ الواقع أن ذلك أمر وارد وإمكانية نجاحه قائمة لأن العقلية العربية، المتكونة تاريخياً، أكثر استعداداً وقبولاً وتجاوباً مع طرف غير عربي، يحظى برضا واحترام وتقدير الجميع، إذا ما دعاهم إلى ما يحييهم! وأعتقد أن تركيا تتوفر لها تلك المعايير والمواصفات، وبقدر ما يخدم جهد خيّر كهذا المصالح العربية فإنه يخدم أيضاً المصالح التركية على حد سواء.
وبالتوازى مع الدور التركي الجديد على مستوى المحور العربي، يأتي أيضاً الدور التركي الجديد على المستوى أو المحور "الإيراني" بالدرجة الأولى، وما يتفرع عنه في المجال المحيط به: "باكستان" و"أفغانستان". وفي ما يتعلق بالدور التركي على المحور الإيراني، فعلى النقيض -تقريباً- من العلاقة التاريخية للدولة العثمانية الناعمة والودية في بداية توسعها في العالم العربي، فإن علاقة "العثمانيين" بالدولة الإيرانية، الصفوية وغيرها، اتسم بالعدائية والصراع والتنافس المرير، ولاشك أن للعامل الديني المذهبي "الشيعي" بالنسبة لإيران و"السني" بالنسبة للدولة العثمانية، دوراً في ذلك، مما أثر تأثيراً سلبياً كبيراً على وحدة وتلاحم العالم الإسلامي كله آنذاك، حيث كانت الخلافات المذهبية عاملاً محرضاً بالغ الأهمية على العنف وسفك الدماء والصراعات المريرة المدمرة بين المسلمين على نحو أشد في علاقتهم بالديانات والملل الأخرى! وهنا يبرز ملمح مهم وبارز حول منهج وأسلوب تعامل القيادة التركية الحديثة مع إيران على نحو مختلف، بل ونقيض لما كان عليه الحال قديماً، واختارت منهجاً إيجابياً بنّاء يقوم على التفاهم والتنسيق والتعاون والتكامل المكرس لخدمة وتطوير المصالح والمنافع المتبادلة والمشتركة لشعبي البلدين الجارين الكبيرين، دون أدنى التفات أو اعتبار للمسائل المذهبية المختلفة، وشهدت علاقاتهما تطوراً وتنامياً متزايداً ومتسعاً، ولن تتردد تركيا في دعم ومساندة القضايا والحقوق الإيرانية المشروعة، وفي المقدمة منها حقها في تطوير برنامج نووي سلمي وفقاً للشرائع الدولية المعتمدة. وأصبح واضحاً أن ما يجمع تركيا وإيران من علاقات متنامية ووثيقة وواسعة النطاق أكثر وأوثق وأقوى مما يربط الدول العربية بعضها بعضاً! إن كلاً من تركيا وإيران معاً يتصرفان وفق مقتضيات الدولة وقوانينها ومنطقها، وليس وفقاً للتمترسات "الدينية" أو "المذهبية"، منطق الدولة الذي تفرضه وتحكمه قوانين المصالح والمنافع والمكاسب المتبادلة والمشتركة في علاقاتها وسياساتها ومواقفها بسائر دول وشعوب العالم أجمع. وعلى ذات القاعدة تمتد العلاقات المتطورة والمتنامية بوتيرة متسارعة لتحديد ورسم سياساتهما وتحركاتهما ودوريهما إزاء أزمة "أفغانستان" وخوض "باكستان" في أوحاله ومستنقعاته، فإيران من المعلوم أن لها حضوراً ونفوذاً وتأثيراً لا يستهان به في "أفغانستان"، ولتركيا قوة عسكرية مساندة هناك، مثلما لها قوات مشاركة ضمن إطار قوات حفظ السلام الدولية في لبنان، وهناك لاشك محاور أخرى للدور التركي الجديد، سواء في دول آسيا الوسطى (الجمهوريات الإسلامية التي كانت ضمن الاتحاد السوفيتي سابقاً) وكذا دول جنوب شرق آسيا الإسلامية (إندونيسيا، ماليزيا وغيرهما)، إضافة إلى دول البلقان حديثة النشأة.
إن هذا الدور التركي الجديد النشط والمتسم بحيوية متدفقة، وعلى امتداد رقعة جغرافية شاسعة ومترامية الأطراف، تمتد إلى أجزاء واسعة من 3 قارات، وانطلاقه من مستوى رفيع من الحكمة والحنكة، ووفق رؤية استراتيجية شاملة واضحة المعالم محددة الأهداف والغايات، وأساليب ووسائل كفؤة ومؤهلة ومقتدرة، يقترن ويتواكب بإشعاعات وأنوار ساطعة وحضور غير مباشر، لنموذج يحتذى وتجربة أثبتت صلابتها ونجاحها وإيجابياتها العميقة والواسعة في تحقيق التقدم والرقي والنهوض الحضاري للشعب والبلد، ذاك هو النموذج والتجربة السياسية الديمقراطية المتألقة التي استطاعت بكل فاعلية واقتدار إعادة بناء تركيا الحديثة على أنقاض الدولة العثمانية المنهارة؛ إن هذا النموذج وتلك التجربة الرائعة أصبحت اليوم محطاً لأنظار وأبصار وعقول وقلوب ملايين واسعة من المسلمين في أرجاء العالم، استيعاباً ودرساً لها وتأثراً بها وتمثلاً وتمثيلاً لها، وسعياً إلى الاقتداء بها ومحاكاتها، وهذا هو الجانب الأهم والأكبر والأعمق للدور التركي على الصعيد الإسلامي -العربي.
لقد أثبتت تركيا الحديثة أن الشعوب الحرة المتحررة من أغلال الكبت والقمع والعبودية والانسحاق، والمالكة لمصيرها والمعبرة عن إرادتها والفارضة لخياراتها الحرة، والمحققة لعزتها وكرامتها؛ هي وحدها التي تصنع مستقبلها المشرق الوضاء والحياة الكريمة لأجيالها القادمة من بعدها.
إن كثيرين من متابعي ومحللي الدور التركي الجديد، بعمقه واتساعه، يرون أن تركيا، كما تؤكد جملة من المؤشرات والشواهد الأولية، تتجه نحو هدف استراتيجي محوري في المحصلة النهائية، وهو السعي إلى تأسيس وبناء أرضية وأسس "كومنولث إسلامي واسع"، ككتلة ضخمة تهدف إلى تحقيق خير ورفاهية وعزة وكرامة وحرية الشعوب والبلدان والدول الإسلامية جمعاء، وهو هدف، لو قدر له أن يرى النور، لأحدث تغييرات كبرى في خارطة القوى والنفوذ والعلاقات الدولية برمتها.
بقيت في الأخير، ضرورة الإشارة إلي أنه لا صحة لما يشاع ويتردد من أن الدور التركي موحى به من قبل أمريكا والغرب، ومطلوب من تركيا القيام به لمحاصرة وإضعاف النفوذ الإيراني، ذلك أنه، وبرغم الحقيقة الماثلة للعيان بأن علاقات تركيا بأمريكا والغرب وثيقة ومتينة وعميقة، وقد تكون استراتيجية كما يقال، إلا أن الحقيقة الماثلة الأخرى تؤكد أن تركيا دولة مؤسسية ديمقراطية محترمة ومهابة، لا يمكن أن تقبل القيام بأدوار التابع المطيع لهذه القوة الدولية أو تلك، لكنها تقوم بدورها بإرادتها واختيارها الحر والمستقيل، ولا ضير بعد ذلك أن يتقاطع أو يتوافق مع أي القوى الدولية، بل إن ذلك مطلوب في إطار علاقات متكافئة ليس فيها آمر ومأمور، وتابع ومتبوع.
وربما كانت لنا عودة أخرى في حلقة مستقلة تناقش على نحو أكثر تفصيلاً تجربة حزب "العدالة والتنمية" التركي الحاكم اليوم في تركيا، من حيث هو حزب ذو خلفية دينية يمارس دوره ونشاطه في ظل دولة علمانية ووفق نظامها الدستوري دون تصادم بين الطبيعتين، لا بل إن ذلك الحزب برهن أنه أكثر حرصاً على حماية تلك الدولة ومنظومتها الدستورية.
كانت هذه إذن محاولتنا الأولية لفهم وتسليط الضوء على الدور التركي الجديد المتجه، بعنفوان وحيوية، نحو الشرق الإسلامي الممتد.. لعلنا وفقنا في تسليط بعض ضوء على ذلك، وأملنا أن هذا الموضوع هو حالياً، موضع اهتمام ودرس واسع الناطق، وسيظل كذلك لفترة قادمة ليست بالقصيرة.
ان تجربة "حزب العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا تتطلب مزيدا من الضوء والتفصيل ، نظرا لاهميتها البالغة سواء كحزب سياسي من حيث دوره واساليبه وآلياته وفهمه المتميز لطبيعة الحزب وادائه ،او من حيث نشأته ونجاحه وفاعليته في إطار وظل دولة علمانية شديدة الغلو في علمانيتها ووصولا الى حكم هذه الدولة رغم خلفيته او مرجعيته الاسلامية الدينية .. وذلك انطلاقا من قناعتنا بان تلك التجربة الفذة والناجحة والمتميزة ستصبح ، او بالاصح انها قد بدأت تطرح نفسها بقوة ، على امتداد العالم الاسلامي والعربي من ضمنه ، كنموذج مشع وجاذب لملايين الشباب الحائر بين خيارات الدين ومدنية الدولة ، اضافة الى معاناته العميقة وخيبة امله في الكثير من من الصيغ والتجارب الحزبية التي عاصرها وهي ترتقي الى القمة بسرعة فائقة ثم وجدها تهوي وتنحدر الى الحضيض بذات معدل السرعة !
واذا كنا في سياق حلقات الدراسة آنفة الذكر قد سلطنا بعض الاضواء الخاطفة حول الجانب المتعلق بنجاحه الفائق كتنظيم حزبي فهم معنى وظيفة الحزب في المجتمع من حيث ادائه لوظائف اجتماعية ثقافية اقتصادية خدماتية لصالح الجماهير وبها ومن خلالها ،وتمكن من خلق قاعدة شعبية واسعة وراسخة تلتف حوله وتدعمه وتسانده وتصنع نجاحاته وباساليب وادوات وآليات مبتكرة وعملية وفاعلة ، على نحو جعله متفردا ومتميزا الى حد كبير عن الغالبية العظمى من التجارب والصيغ الحزبية التي نشأت وصعدت ثم تلاشت في الكثير من بلدان العالم ثالثي ، فاننا لانريد هنا الخوض مجددا في هذا الجانب العملي من تجربة حزب العدالة والتنمية كأداة عمل حزبي منظم ، لافتقارنا الى معرفة ومعايشة ميدانية مباشرة لمساره وحركته وآلياته ووسائله ، بل سنقتصر في مقالنا الملحق هذا ، على الجانب النظري الفكري المتعلق بنجاح الحزب نجاحا منقطع النظير في حسم القضية الاكثر جدلا واثارة للبلبلة والاختلاف والانقسام في العالم الاسلامي عموما ، وهي المتعلقة بالعلاقة الملتبسة بين الاسلام - الدين وعلمانية الدولة ، رغم انها لاتزال حتى اليوم موضوعا لجدل ساخن ومساجلات حامية وخلافات حادة ومؤلمة بين المسلمين .والواقع ان الاسس العلمانية الصارمة التي اختارت الدولة التركية الحديثة " الاتاتوركية" اقامة بنيانها عليها وبموجبها ، اتسمت بقدر مبالغ فيه من الغلو والتطرف الذي ربما نتج ، اساسا عن الخلط وسوء الفهم لطبيعة "العلمانية" ومداها ومجالها ، حيث اعتبرتها - خطأ - كسياسة او منهج معاد لكل ماهو ديني جملة وتفصيلا ، وهو مايناقض مفهومها "الاصلي" أو قل "تعريفها " الاصلي" عند اصحابه المفكرين الاوروبيين الذين ابتدعوه وصاغوه ، اذ يرى المفكر المبدع الدكتور عبدالوهاب المسيري في موسوعته القيمة " اليهود واليهودية والصهيونية " ان مفهوم "العلمانية" في مبتدأ نشأته كان يتحدد في "فصل الكننيسة عن الدولة" اي إنهاء سيطرة وتحكم رجال الدين "الاكليروس" المتحكمين بالكنيسة اصلا ، بشئون الدولة وممارستها لوظائفها المدنية الدنيوية ، وكان اول تطبيق لمفهوم "العلمانية" ذاك مصادرة الدولة لاملاك واقطاعيات الكنيسة ، ولم يكن يعني، باي حال من الاحوال ،فصل "الدين" عن الدولة والمجتمع ، بل ومبادئ دينية صميمة ، وفي بعض تلك الدول كان "الملك" او "الملكة" هي في نفس الوقت رئيسة الكنيسة ، وماحصل في حقيقة الامر ينحصر في انهاء سيطرة وهيمنة رجال الدين على الدولة في وظائفها ومهامها .. في تركيا الحديثة "الاتاتوركية" كان التوجه مندفعا الى غير الوجهة الصحيحة،اذ راحت تلغي وتزيل وتنهي كل مايدل او يرمز الى الدين ابتداء من الغاء استخدام الحروف العربية في كتابة اللغة التركية الى تحديد الزي او الملبس الفردي للانسان التركي مرورا بسلسلة من الاجراءات والتشريعات المتصلة بالامر بما في ذلك حظر الاحزاب ذات المسمى الديني ، وجعل الجيش مكلفا بحماية النظام العلماني ذاك اضافة الى مؤسسة قضائية لها نفس المهمة والهدف .. على انه وبرغم الغلو والتطرف في فرض علمانية قاسية صارمة ، فان الواقع التركي يشهد في نفس الوقت ، ان الدولة التركية الحديثة "الاتاتوركية" لم تعمد الى استئصال واجتثاث كل مايمت الى الاسلام الدين بصلة مثل "التدين الفردي" او التعليم الديني الخاص ، وانما اقتصر الامر على الدولة ومؤسساتها وهيئاتها ونظمها التشريعية والتعليمية والثقافية ، ففي ظلها وبالتزامن معها ، نشأت ونشطت وتوسعت "حركة اهلية دينية صوفية تمثلت بجماعات "رسائل النور" التي اسسها وصاغ افكارها ومضامينها وتعاليمها الامام بديع الزمان سعيد النورسي ، حتى شملت انحاء تركيا كلها وتجاوزتها لتنتشر في ربوع العالم باسره اليوم ، هذه المدرسة التربوية البالغة الاهمية هي التي حفظت التدين الفردي للشعب التركي ومثلت ، في الوقت ذاته ، البيئة الملائمة والقاعدة الشعبية الهائلة ، لنشأة وحركة وتطور حزب "العدالة والتنمية" الحاكم اليوم وماسبقه من تجارب وصيغ حزبية مماثلة، واعتقد ان الفضل يرجع اليها بالدرجة الاولى في نجاح ذلك الحزب ونمو نفوذه وتأثيره .. ولعل سر نشوء واستمرار ، مدرسة "رسائل النور" ذات المنحى "الصوفي المعاصر" يكمن في ادراكها المبكر والصائب بان الاشتغال بالسياسة والصراعات السياسية هو المفجر دائما للصراعات والمواجهات الدامية المدمرة بين "الحكم" والجماعات الاسلامية ، فنأت بنفسها منذ البدء عن الخوض في السياسة ودهاليزها وصراعاتها المدمرة ، معلنة اقتصارها على التنشئة والتربية الدينية السلمية المتسامحة فقط ، محرمة الاقتراب او الانزلاق الى المعترك السياسي بشكل مباشر او غير مباشر ، فازالت هواجس الحكم ومخاوفه وشكوكه وتجنبت انيابه ومخالبه ، وعملت بهدوء وامان وسكينة ، بل واصبحت مقصدا للاحزاب والسياسيين الساعيين الى نيل رضاها ومباركتها في مقابل تسهيلات ومكاسب اكثر لحركتها ونشاطها حين وصولهم الى سدة الحكم ! ووسط هذا المناخ الذي اشاعته نشأ حزب "العدالة والتنمية" وما شاكله من صيغ حزبية سابقة له وترعرع وقوى ساعده، في حين باتت "جماعة رسائل النور" منتشرة في كل ارجاء تركيا والعالم اجمع، واعتقد ، على ضوء ماسبق ، ان مجمل افكار وتعاليم مدرسة "رسائل النور" الثرية والخصبة والمبنية على "اصالة الدين" و"معاصرة الحياة" وبما تتسم به من روح تسامحية وحب كوني وتعايش سلمي بين البشر اجمعين ، قد اسهمت اسهاما كبيرا في امتلاك الحزب لرؤية فكرية صائبة مكنته من حسم القضية المحورية الحساسة المتعلقة بالديني والعلماني على نحو ايجابي مبدع اثبتت نجاحه الباهر ، فاذا كانت "العلمانية" في تعريفها ومفهومها الاصلي انما اقتصرت على انهاء ومنع سيطرة وهيمنة رجال الدين في الكنيسة على الدولة وشئونها المجتمعية ، وجعل الدولة دولة مدنية لادينية بمعنى احتكار رجال الدين لها ، فان الدين الاسلامي يدعو الى ذلك ويحث عليه في تعاليمه وقيمه ومقاصده ، فمعلوم ان الدين في الاسلام يقوم على مبدأ "المسئولية الفردية الكاملة" فالانسان الفرد مسئول وحده عن اعماله وهو وحده الذي سيخضع للحساب "ثوابا" و "عقابا" يوم القيامة حيث "لاتزر وازرة وزر اخرى" ، وان امور الناس شورى بينهم جميعا ، ولايقر مطلقا بوجود طبقة تمثل "رجال دين" فيه مطلقا ولا يحجز لهم مكانة سامية فوق الشريعة والمجتمع، وسنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المتمثلة في اسس ومضامين اقامة "اول مجتمع اسلامي" في التاريخ في "المدينة المنورة" تشير ، بما لايدع مجالا للبس او الشك، من خلال نصوص "صحيفة المدينة" كاول دستور للمجتمع الجديد يحدد حقوق وواجبات وعلاقات مكونات ذلك المجتمع المتعدد الاعراق والمعتقدات الدينية ، ان "السلطة" في المجتمع مسألة "مدنية" تقوم على تراضي واتفاق مكونات المجتمع كله "هذا كتاب من محمد النبي بين المهاجرين واهل يثرب ،بمن فيهم اليهود وغيرهم ،انهم امة مؤمنة واحدة من دون الناس ،وان كل على ربعته يتعاقلون معاقلهم الاولى يفدون عاينهم بالقسط والمعروف بين المؤمنين . وكون تلك الصحيفة ملزمة فقط "لمن اقر بما في هذه الصحيفة " وان "لليهود دينهم وللمسلمين دينهم " والتعاون والنصرة بينهم واجبة الى آخر هذه المضامين التي تؤسس لمبدأ "مدينة السلطة" او الدولة حيث حرصت الصحيفة على ان تتركز السلطة الفعلية في قاعدة الهرم الشعبية وليس في قمتها العليا منعا للتسلط والجبروت والطاغوت ،" كلا ان الانسان ليطغى ان رآه استغنى " وواضح ان حزب العدالة والتنمية ، متاثرا بافكار وتعاليم مدرسة جماعة رسائل النور الدينية الصوفية ، لم يجد تناقضا او محرما ان ينشأ ويتحرك وينمو ويتسع ويقوم بدوره السياسي الشعبي في ظل "الدولة العلمانيةالتركية" القائمة ووفق اسسها ودستورها ومنظوماتها التشريعية وآلياتها وضوابطها واحكامها .. مادامت حرية الانسان وحقوقه وكرامته مصونة ومضمونة ، وهو بهذا الموقف الفكري الصائب والسليم ، المستمد من افكار وتعاليم جماعة "رسائل النور" ، ينسجم ويتوافق ويتطابق مع جوهر الاسلام الصحيح ونموذجه التطبيقي المتمثل في "صحيفة المدينة" والمجتمع الاسلامي الاول الذي اسس في المدينة المنورة على هديها ومضامينها العظيمة ، ان موقف حزب العدالة والتنمية الحكيم هذا هو الذي شكل الجسر الامين والآمن الذي اوصله الى حكم وقيادة تلك "الدولة العلمانية" القائمة على ديمقراطية حقيقية ، وذلك تعبيرا عن ارادة الشعب التركي الحرة وخياره الديمقراطي الحر، ولو وجد هذا الحزب ، على سبيل الجدل ، في بلد غير"علماني" وغير" ديمقراطي" لكان من المستحيل عليه ان يصل الى الحكم إلا عبر عملية انقلابية دموية مدمرة ، تجعل منه بشكل تلقائي سلطة حكم ديكتاتوري شمولي قمعي الى ان تحل محله وبنفس الاسلوب قوة او حزب آخر وهكذا في دوامة لاتنتهي مآسيها وكوارثها المأساوية ، ولو انه اتخذ موقفا "مناقضا" لموقفه الايجابي المثمر ذاك لكانت تركيا والشعب التركي العظيم اليوم في عالم آخر وفلك مختلف وموقع مغاير تماما لما هو عليه اليوم من توافق مع مكوناته التاريخية والثقافية والحضارية العميقة الجذور والبالغة الثراء والحيوية ومن نهوض وتطور حضاري شامل .
ان حزب العدالة والتنمية الحاكم والقائد اليوم لتركيا وشعبها المجيد ، يطرح تجربته وخبرته ومسيرته الناجحة كنموذج يرسل اشعاعاته المتألقة وتأثيراته الايجابية الفذة ، كجاذب وقدوة أخاذة مقنعة الى شباب وجماهير العالم الاسلامي والعربي في صميمه ، جديرة بالاحتذاء بها والاهتداء بعبرها ودروسها المستخلصة ، وبذلك فانه يقوم على نحو مباشر وغير مباشر ، بدور "المرشد" و"المعقلن" و"المنضج" لكثير من الجماعات والحركات والافكار ذات المرجعيات والخلفيات الدينية الاسلامية ، على امتداد العالم الاسلامي والعربي كله ، والتي جنحت وشطحت وانساقت نحو العنف والتطرف والغلو وسفك الدماء وازهاق الارواح باسلوب مجنون ومخيف ، انطلاقا من فهم مغلوط وقاصر لجوهر الاسلام وتعاليمه العظيمة ، جعلها تختزل الاسلام بعظمته وسموه ، فلا ترى منه سوى انه دين حرب وقتل وسفك دماء وتدمير وتخريب ، وهي امور جاء الاسلام من اجل انهائها وتحريمها إلا في حالة الضرورة القصوى المتصلة بصد عدوان او دفاع عن نفس ، وماعدا ذلك "فلا تعتدوا ان الله لايحب المعتدين" ، واهملوا او تناسوا ان الاسلام دين حفظ الحياة واشاعة المحبة والتعاون والاخاء من اجل إعمار الارض وتطوير حياة الانسان ومعيشته وإرساء السلام والامن والامان والاستقرار ، وصيانه حرية الانسان وكرامته وآدميته فوق كل اعتبار ،" لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط" ، ان تلك الجماعات والحركات والافكار اساءت الى دين الله كثيرا وشوهت صورته وطمست جوهره العظيم امام العالم اجمع للاسف الشديد واساءت استخدام الدين وتوظيفه لتحقيق مصالح دنيوية سياسية ومطامع خاصة بها والاسلام اسمى وأجل وأعز من ذلك بكثير ، والراجح ان تجربة ونموذج حزب العدالة والتنمية التركي سيلقي على عاتقه مهمة عظيمة تتمثل باعادة الاسلام الى جوهره الاصيل وابراز قيمه السامية في تقديس الحياة وحفظها وحمايتها وفي نشر السلام والاخاء والتعاون الانساني على الخير والرفاهية والتعايش الايجابي بين جميع البشر بصرف النظر عن اعرافهم ومعتقداتهم واجناسهم إلا بالعمل الصالح والتقوى .
انها لمهمة تاريخية جسيمة وعظيمة ستشكل مدخلا لنهضة حضارية اسلامية انسانية ديمقراطية متألقة يرى الكثيرون ان حزب العدالة والتنمية وتركيا جديرون بها واهلها ويملكون الرؤية والقدرة على النهوض باعبائها ومتطلباتها على خير مايرام ان شاء الله تعالى .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.