طالما انتقد العم دحان أداء الحكومات المتعاقبة للنظام السابق والأسبق، وأيام ما كان لليمن نظامان سياسيان؛ يستدعي ذاكرته التي لا تشبه الحديد أبداً، ذاكرة طرية وطيعة، ويستطيع أن يخبرك عبرها ما الذي حدث في فندق بانوراما (الصخرة) عندما كان فيدل كاسترو في الدور الأخير من الفندق، وسائح سعودي جاء إلى عدن على خلفية صايعة، فطلب بالصوت العالي امرأة لإشباع رغبته الجنسية، وكيف أشار إلى الساقي في البار أن يخلط للسائح أقوى أنواع الشراب، حتى نال منه الإسهال ونسي أمر الفحولة. ما يزال العم دحان وفياً لذلك الزمن، ويتعامل مع أخطاء الاشتراكي في الحكم كمحاولات جادة لإرساء مفهوم دولة على أساس المواطنة. يخرج من الموضوع تماماً، ويوجه ذاكرته إلى سياسيين وقادة انتهازيين ووصوليين، وما يلبث أن يتذكر المناضلين الذين رآهم لآخر مرة في معتقل الأمن الوطني، أو في سوق شعبي، وقد نالت منهم الشيخوخة. اجلس معه للمرة الأولى أو الألف، وسيخبرك بقصص جديدة لم تسمعها من قبل عن الزمان الأول. أخبره فقط من أية منطقة أنت، وستفاجأ بذاكرة العم دحان عائدة من قريتك؛ يسألك عن المناضل فلان، أو عن شاب طليعي اختفى حينها، شاب لم تسمع به من قبل، لكن إذا سألت قدامى قريتك عنه، سيخبرونك أن أحداً لم يعد يتذكره. لا تتعب ذاكرة هذا الستيني الودود، ويبدو أنه عرف كيف يحافظ عليها، رغم المعتقلات التي ما زالت تحتفظ بطابع محمد خميس في إدارتها. ستعود هذه الذاكرة من تاريخ المعتقلات والنضال والوطن، الذي لا تخلو جغرافيته من مناضل كان متطلعاً للحياة، عودة مفاجئة إلى الناس المتعبين، وإلى وجه ضابط أمن في صدر المجلس، يقرأ العم دحان فيه ملامح التعب وعدم الإنصاف. يتنهد الضابط بلا تذمر، وبلا ضغائن. لا تحاول أن تقاطع انتقال العم دحان من ذاكرته البعيدة إلى اللحظة الراهنة، تصرف كهذا سيفسد استرسال الذاكرة، وسيكون عليك مواجهة متحدث لبق يجرّك إلى السفسطة، ويتفوق عليك بالمنطق، وفي أفضل الأحوال لن تمتلك طول النفس الذي يتمتع به. استمع إليه فقط، ولا تقلل من شأن ذاكرته، فهو لن يلبث أن يحيلك إلى متسول للصّفح؛ إذ لديه كاريزما رجل تعامل مع كل ما يستحق الاحترام، بتقدير عالٍ طيلة حياته. وفي إحدى عوداته إلى اللحظة، فاقداً الأمل في التغيير، سينظر إلى خلاطة القات اليدوية خاصته، قائلاً بأسى: "ياخي نحنا صح". لا يلبث أن ينفض الأسى، ويستبدله بشراسة مناضل ما زال ذهنه يتمتع بنباهة مغناطيس. يعرف ما يقوله دائماً، ويحتضن ذاكرته كل مساء، كما لو أنها ماسة ثمينة. المصدر: صحيفة الأولى