الانسجام الفريد بين السفور المحتشم والعمائم الفضفاضة عشرة ايام قضيتها في ايران ضمن وفد حقوقي يمني مكون من سبعة محامين وقاض .. تمكنت خلالها عبر مشاهداتي الخاصة وزياراتنا للعديد من المؤسسات الحكومية والمرافق الصناعية والاختلاط مع الناس في الشوارع ومقابلات بعض الشخصيات العامة والخاصة استجلاء العديد من الملامح والحقائق والخصائص التي تتمتع بها الدولة الإيرانية ومجتمع هذه الدولة ونظامها السياسي.. كنت وانا ابلور انطباعاتي تلك حريصا على امرين الاول: التجرد عن الصورة النمطية - السلبية- التي رسمها في ذهنيتنا الاعلام العربي والغربي عن ايران. والثاني: الحفاظ علي موضوعيتي واحكام السيطرة عليها اثنا مشاهداتي المتعددة دون الوقوع في فخ الانبهار وتهويمات الدهشة التي تعمد الى انتاج وعي لحظي مموه لا يستطيع ان يستوعب بإرادته الشروط الفعلية للحياة القائمة بقدر وقوعه اسير الصورة للعاطفة السطحية التي تنحو عن عمد لاستحداث معاني قشرية بعيدة عن العمق الي حد ما. - كان اول ما لفت انتباهي هو ان المجتمع الايراني مجتمع حداثي . منتظم الاعمال والأنشطة. وان هناك ارتباطا وثيقا وواضحا بينه وبين سمات العلمانية الاجتماعية. التي تعكسها هيئات الناس وملامح وجوههم وطبيعة علائقهم المنتظمة في اماكن اعمالهم ووظائفهم كما تعكسها ايضا الملامح الحضرية للمدن التي شاهدتها بدقه بنائها وجمالية هندستها المواكبة للحداثة المدنية وكذلك الحضور القوي والمشاركة الفاعلة للمرآه الإيرانية في كل قطاعات العمل الاجتماعي والاقتصادي دون تمييز بينها وبين الرجل .. بالإضافة الي سياده القانون وحضوره القوي في كافه الاوساط والعلاقات في ظل غياب ادواته ومظاهره المادية من الشوارع ومختلف الأمكنة ، فطول اقامتي لم اري رجل شرطة او مرور او دورية امنية او اي مظهر امني او مسلح عدا بعض نقاط امنيه منكفئة في حضورها المتواضع على نفسها عند مداخل المدن وبالتوازي فاني ايضا لم اري حدوث اي حالة فوضي او شغب او مخالفات سير او خروج عن السلوك السليم او حتى من يستخدم جرس سيارته رغم الاختناق المروري كما لم اجد اي تجمعات لشباب في قارعة الطريق او في الساحات يتبادلون النكات والتحرش بالمارين والمارات كما هو واقع مجتمعاتنا. وجدت كل منهم رجال ونساء في طريق عمله واقتناء حاجياته وادا مهامه الشخصية والعمومية اشبه بالات تودي مهامها داخل مصنع دون توقف او كلل. ان للوقت خريطته الهندسية في اطلس اعمارهم كما انني علاوة علي ذلك لم اجد متسولا واحدا كل ذلك في مختلف الاماكن التي اقمت بها …انها حقا سمات العلمانية في بعدها الاجتماعي دون السياسي طبعا .. وامام مشاهداتي لتلك المظاهر الحداثية كنت استحضر في مخيلتي مجتمع ايران الذي قرات عنه في الكتب التي تناولت ايران ايام حكم الشاه العلماني فأجده نفس المجتمع الذي اراه اليوم عدا بعض الفوارق الطفيفة مثل تبجيل المقامات والاماكن الدينية من حيث البناء و ارتدا النساء للحجاب بطريقه تترك الشعر واكثر من نصف الراس عاريا .. انه حجاب يغطي القانون الذي فرضه و ليس الراس الذي فرض عليه.. امام هذه المظاهر الشكلية للحداثة كنت اصول بنظراتي واجول بلهفة في كل الشوارع والساحات واماكن العمل علني اجد عمامة فوق راس مثل تلك العمائم التي نراها بوسائل الاعلام وتمتلأ بها كافة مساحة شاشه التلفاز لكني لم اهتدي الي وجودها الا احيانا في المساجد كقلة قليلة .. كنت ساعتها أتساءل هل انا فعلا في ايران الدولة التي يحكمها نظام الحوزات والعمائم؟ ام ان الدروب قد اكلت خطواتي وقذفت بي في بلد اخر ..؟ انني فعلا في ايران .. ولكن ما هو سر هذا الانسجام والتناغم الخافت بين السفور المحتشم و سواد العمائم وبياضها ؟ وانا ابحث عن اجابة تفكك معادله ذلك الانسجام والتناغم في التساؤل السابق ادركت ان صعوبة تعيق استيعابي لما اقرأه واشاهده في واقع هذا المجتمع ربما مرجعها الى الصورة السلبية التي ترسبت في أذهاننا عن الممارسات القبيحة لرجال الدين في مجتمعاتنا العربية التي تقتل وتلغي كل ما هو جميل فينا .. لكني في كل الاحوال قد اعتمدت منهج التجرد عن كل الصور الذهنية العالقة في مخيلتي سلبا وايجابا منذ نزولي في مطار طهران الدولي وعدت بقواي الواعية الي سياق تساؤلي افكك سر معادلة انبنائه. وبعد لحظات استغراق وتأمل وقراءة موضوعية للتساؤلات والمشاهد التي ذكرتها ادركت بوعي عميق ان الامر ليس بالبساطة التي يمكن ان تقف عندها استنتاجاتي السطحية المتولدة من المشاهد اللحظية والانية للحدث .. بل ان الامر اعمق من ذلك بكثير وعلي ارتباط وثيق بتطور الحركة التاريخية والحضارية لهذا المجتمع .. ان الذين قرأوا عن ايران وطبيعة نظامها المجتمعي ايام الشاه العلماني وزاروها اليوم كما هو حالي سيصل حتما الي نتيجة هامه تمثل اللبنة الاولي والأساسية لأي قراءة او كتابة موضوعية عن المجتمع الايراني .. تلك النتيجة هي ان الثورة الإسلامية في ايران وبعد ان اطاحة بالنظام السياسي العلماني الذي كان مرتهن للغرب قد ابقت وفي الحدود الدنيا على المحددات الأساسية التي تتمفصل فيها معطيات البنا المجتمعي بانساقه السلوكية والثقافية ذات السمات العلمانية مكتفيه اي السلطة الدينية بإزالة العري والسفور العلماني الفاضحين من مظاهر الحياه العامة وتغليفه بالمهادنة وغض الطرف المهيب عنه في دهالير منظومة القيم المعرفية للسلوك الفردي المنتظم كحاجة خصوصية فقط في حين انها وبحكم التجريم القانوني غير قابله لاستيعاب الممارسات السفورية بطابعها الحداثي العلماني المتداول لدرجه انه لا توجد فنادق من درجه الخمسة النجوم في ايران امتثالا لذلك الغرض .. وهذه المعادلة التوفيقية التي تمثل ارضية تصالح بين السفور المحتشم والعمائم الشاهقة في سياق تقنية سلوكيات الحياة الاجتماعية لا تمثل حالة تنازل من السلطة الدينية عن بعض الاحكام الدينية والفقهية التي يجب فرضها مجتمعيا كما يترأ للبعض.. بل انها تحملنا الي ابعاد اكثر عمقا تكشف في ذات الوقت عن مكر ودها النظام الايراني الديني فهو من ناحيه يدرك ان تشديد فرض الاستبداد الديني كما هو حال الوضع السياسي علي انماط السلوك الاجتماعي والحريات الاجتماعية في بعدها الشخصي في مجتمع اكتسب تلك الانماط السلوكية والمفردات الاجتماعية عبر سنوات طويلة من حكم علماني افرزها كثقافة في الذهنية المجتمعية سيودي ذلك التشديد الي خلخلة انساق القيم المتعلقة بالثقافة المجتمعية والمتراكمة من خصوصيات الهوية القومية التي تمثل حجر الزاوية في البنا النسيجي للمجتمع الايراني الفارسي الضاربة جذوره في اعماق الحضارة والتاريخ .. اما الدين فهو في الواقع الحقيقي هويه النظام السياسي فقط الذي يحكم ايران . ومن ثم سيفرز المجتمع في حالة تخلخل نسيجه الثقافي والمعرفي مصالح متناقضة ومتضاربة فوق تراب الوطن الواحد وبالتالي ضرب واحديه العمق الاجتماعي للنظام السياسي الديني الذي يحتكر السلطة السياسية احتكارا شائنا وهذا بدوره سيودي الي تعالي الاصوات وافراز نخب عريضة تطالب المشاركة في السلطة وفق ما تقتضيه مصالحها .وبأنماط تنظيميه لا تتفق مع ولاية الفقيه ومثل تلك النخب قد بدأت تتبلور في السنوات الاخيرة وهي اليوم المسألة التي تمثل الاختبار الحقيقي لنظام الحوزات الدينية في ايران . هكذا تنتظم القيم والانساق الثقافية في المجتمع الايراني فالقومية الفارسية لا يمكن الغائها في سياق الوحدة الاجتماعية للذهنية التاريخية للمجتمع الايراني لصالح الدين لكن مالايمكن ان يسمح به النظام الديني هو استحضار تلك القومية في سلك العمل السياسي والبرامجي وصيغ التنظيمات الحزبية.. وبعبارة ادق ..القومية هي ارضية توحيد المجتمع الايراني .. والدين هو ارضية توحيد النظام السياسي في محدداته الكلية .. والمطلع المحايد للوضع السياسي والاجتماعي في الداخل الايراني يمكنه ادراك ذلك ببداهة… من كل تلك التفريعات التي تتمفصل في الانساق الثقافية والتاريخية للمجتمع الايراني اضافه الي ادراك السلطة الدينية لمخاطر الاستبداد الاجتماعي في فرض الانماط السلوكية بقوه السلطة السياسية . تبدا النقطة الاولي التي تمثل المدخل الاساسي لفهم وقرائه المجتمع الايراني وحقيقة واقعه وبالتالي تنتظم الخطوات المعرفية الاولي لكل متابع وباحث عن حقيقة الوضع في ايران ومجتمعها ونظامها السياسي وكيف تولد وتبلور ذلك الانسجام والتناغم بين استبداد العمائم السياسي مع السفور المحتشم للانساق والمظاهر السلوكية الشكلية المجتمعية في المجتمع الايراني وكيف ان سلطة العمامة قد ادركت ذلك بدهاء ومكر جميل …وان تلك النخبة السياسية الدينية قد استطاعت ان تفرز نفسها في مراكز القرار السياسي والسيطرة علي ادوات الدولة لتتحكم من خلالها بإدارة الدولة والمجتمع ومتمكنة في ذات الوقت من اخفاء تواجدها النرجسي وظهورها الاستبدادي في المظاهر الحياه الشكلية..