المهندس تيسير محمد عبده كليب في اليوم العالمي للعمل الإنساني، تتجه الأنظار نحو الأبطال الذين يعملون في الخطوط الأمامية للأزمات. لكن بعيدًا عن عدسات الكاميرات، هناك نوع آخر من العمل، لا يقل بطولةً، يُبنى بصمت وصبر: إنه عمل التنمية المستدامة في أكثر البيئات هشاشةً في العالم. في خضم الصراعات المتوالية والأزمات الاقتصادية العميقة، تبرز بعض المؤسسات كقلاع للأمل، ليس فقط لأنها تقدم الإغاثة، بل لأنها تزرع بذور المستقبل. ويقدم الصندوق الاجتماعي للتنمية في اليمن نموذجًا فذًا على قدرة التنمية على الصمود والبناء، حتى عندما تعصف بالبلاد رياح الشدائد. على مدى سبعة وعشرين عامًا ، وفي بلد شهد ما لا يُحصى من المحن، رسّخ الصندوق الاجتماعي للتنمية فلسفة جوهرية: الإنسان هو محور التنمية وغايتها. لم تكن هذه شعارات عابرة، بل هي استراتيجية عمل متكاملة أثبتت جدواها على الأرض. ففي حين أن الأزمات تميل إلى تعميق الانقسامات وتفتيت المجتمعات، عمل الصندوق كقوة موحِّدة، مستهدفًا بمشاريعه القرى النائية والمدن الكبرى على حد سواء، انطلاقًا من قناعة راسخة بأن التنمية الحقيقية لا تتجزأ. إن هذا النموذج يكتسب أهمية عالمية لأنه يقدم إجابة عملية على أحد أكثر الأسئلة إلحاحًا في عصرنا: كيف يمكن بناء السلام المستدام؟ الإجابة التي يقدمها الصندوق تكمن في ما يُعرف ب "الترابط بين العمل الإنساني والتنمية والسلام" (Humanitarian-Development-Peace Nexus). فبدلاً من الفصل المصطنع بين الإغاثة العاجلة والتعافي طويل الأمد، يجسد الصندوق هذا الترابط عبر برامج مبتكرة. فبرنامج "النقد مقابل العمل"، على سبيل المثال، لا يوفر فقط دخلاً للأسر المتضررة من الأزمات، بل يشركها في إعادة بناء البنية التحتية لمجتمعاتها، مثل تحسين وضعها البيئي ورصف الطرق وحماية الأراضي الزراعية. إنه يحول المستفيد من متلقٍ سلبي للمساعدة إلى شريك فاعل في بناء صمود مجتمعه. لقد أدرك الصندوق بحدس استراتيجي أن التعليم والصحة هما خط الدفاع الأول لأي مجتمع. فبناء المدارس وتأهيلها، وتدريب المعلمين، وتجهيز الوحدات الصحية، ليست مجرد خدمات، بل هي استثمار مباشر في رأس المال البشري الذي سيقود التعافي. وعندما يتمكن طفل في قرية نائية من الوصول إلى مدرسة جيدة، أو تحصل امرأة حامل على رعاية صحية لائقة، فإننا لا ننقذ حياة فرد فحسب، بل نحصّن مستقبل مجتمع بأكمله ضد اليأس والجهل. كما يقدم الصندوق درسًا بليغًا في أهمية "التنمية التي يقودها المجتمع" (Community-Driven Development). فبدلاً من فرض حلول من الأعلى، تقوم فلسفة الصندوق على الشراكة والثقة مع المجتمعات المحلية. إن رصف طريق ريفي أو بناء حاجز مائي لا يتم بمعزل عن السكان، بل بالتعاون معهم، مما يضمن أن المشاريع تلبي احتياجاتهم الحقيقية وتكتسب ملكية مجتمعية تضمن استدامتها. هذا النهج يعزز التماسك الاجتماعي ويقوي المؤسسات المحلية، وهي اللبنات الأساسية لأي سلام دائم. وفي عالم يتزايد فيه القلق بشأن المخاطر المالية والشفافية، يواجه الصندوق تحديات جسيمة، كما هو حال العديد من المؤسسات العاملة في البيئات المعقدة. إن الحفاظ على ثقة المانحين والشركاء الدوليين، وضمان استمرارية تدفق التمويل، يتطلب مرونة استثنائية وقدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة. تفرض هذه التحديات على الصندوق ان يعمل ككيان محايد، والتكيف مع المتطلبات الدولية مع الحفاظ على مهمته الأساسية في خدمة جميع اليمنيين، تعكس التحدي الأكبر الذي يواجه العمل الإنساني والتنموي على مستوى العالم: كيف نحافظ على المبادئ الإنسانية ونضمن فعالية المساعدات في سياقات سياسية بالغة التعقيد؟ إن قصة الصندوق الاجتماعي للتنمية ليست مجرد قصة نجاح محلية، بل هي دراسة حالة عالمية في كيفية بناء مؤسسات قادرة على الصمود. في اليوم العالمي للعمل الإنساني، وبينما نُحيّي شجاعة عمال الإغاثة، يجب أن نُحيّي أيضًا حكمة وبصيرة بناة التنمية. إنهم يثبتون لنا يومًا بعد يوم أن الاستثمار في كرامة الإنسان، وتعليمه، وصحته، وتمكينه، ليس مشروعًا مؤقتًا، بل هو المسيرة المستمرة التي تبني السلام من القاعدة إلى القمة، وتصنع مستقبلًا أكثر عدلاً واستقرارًا للجميع.