يحيى الرباط أيها العالم، إن كنتَ تسمعني، فاعلم أن هذا الصوت لا يأتيك من مدينةٍ مزخرفة ولا من برجٍ زجاجي، بل من آخرِ حدودِ الصبر من قلبٍ أنهكته الأيام، وصدرٍ يختنقُ بثقلِ العجز. أنا يحيى، رجلٌ أكلَ الجوعُ ملامحه، وسحقه القهرُ حتى صار ظلًّا باهتًا يمشي على أطراف الحياة. أعيشُ في قريةٍ بعيدةٍ منسية، لا تمرّ بها سوى الرياح، ولا تصلها إلا أخبارُ الموت. نسيتها الخرائطُ، وغاب عنها الفرح، كأنّها خُلقت لتبقى حزنًا ممتدًّا بلا نهاية. كلُّ ما هنا ميتٌ بصمت: الأرض، والهواء، والناس، وحتى الذكريات. لا شيء يتحرك سوى الجوع في البطون، والخذلان في الصدور. كنتُ أقاومُ لأعيش، لكنني اليوم أعيشُ فقط لأن الموت تأخر. تعبتُ من الانتظار، ومن الدورانِ بين الجوعِ والخوفِ واليأس، ولم أعد أطلبُ سوى سكونٍ يُشبهُ النهاية، يريحني من هذا العناء الطويل. حتى الكتابة، كانت آخرَ ما تبقّى لي، فخذلتني هي الأخرى. صارت كلماتي ثقيلة، باهتة، تخرجُ من قلبي لا من قلمي، كأنني أكتبُ عن رجلٍ انتهى منذ زمن، وأنا فقط أعيشُ صدى صوته الأخير. إن اختفيتُ، فلا تبحثوا عني، فمن يذوبُ في القهرِ لا يُدفن، بل يتلاشى بصمتٍ لا يسمعه أحد. أنا يحيى، ابنُ الأرضِ العارية، وابنُ البلادِ التي لا تُذكرُ إلا حين يموتُ أحدُ أبنائها. إن كُتبَ اسمي يومًا في زاويةٍ منسية، فاكتبوا تحته: "كان إنسانًا حاول أن يصمد، لكنّه انكسر حين أثقلته الحياةُ بما لا يُحتمل."