بينما ينعم مسؤولو حكومة المناصفة بحياة مرفهة، ويتحدثون في القاعات المكيفة عن "الاستقرار والحلول"، يعيش الجنوب مأساة حقيقية عنوانها الجوع واليأس والانكسار، خمسة أشهر مضت دون أن يتسلم الموظفون رواتبهم، وسط صمت رسمي مريب، وتجاهل تام لصرخات الأسر التي لم تعد تجد ما تسد به رمقها. رب الأسرة الجنوبي، الذي كان بالأمس موظفاً مكرماً يحمل مؤهلات عالية، أصبح اليوم يطارد لقمة العيش بكرامة مكسورة، كثيرون اضطروا للبحث عن أعمال يومية في المولات أو المستوصفات الخاصة، ليس في مناطقهم، وإنما بمديريات بعيدة، هرباً من نظرات المجتمع وأسئلة الأبناء.
المؤلم أن بعضهم يعمل في أعمال شاقة ومهينة، كتنظيف الحمامات والممرات، وهي وظائف لا تليق لا بمكانتهم ولا بمؤهلاتهم، لكنها باتت الخيار الوحيد لتأمين الحد الأدنى من احتياجات أسرهم، بعدما خذلتهم حكومة المناصفة، وابتلع الغلاء ما تبقى من كرامتهم.
آخرون لجأوا إلى المساجد، لا للعبادة فقط، لجأوا إليها ليشكوا حالهم أمام الناس ويطلبوا المساعدة، ولم يتوقف الأمر عند أبواب المساجد، فقد اضطر بعضهم إلى التسول في المحلات التجارية والأسواق، في مشاهد موجعة لرجال منكسرين، يحاولون إخفاء أوجاعهم وهم يطلبون ما يسد جوع أطفالهم، وأصبح واقعاً يومياً رجال يبكون، وأسر تتضور جوعاً.
وفي حالات أكثر قسوة، عجز بعض الآباء عن تحمل ضغط الحاجة ونظرات أطفالهم الجياع، فلجأوا إلى خيارهم الأخير " الانتحار ".
ما يحدث في الجنوب ليس مجرد أزمة مرتبات، إنه " تجويع ممنهج " وضغط نفسي واقتصادي قاسي يمارس على المواطن البسيط، بالوقت الذي تتضخم فيه حسابات المسؤولين في الخارج، وترتفع أسوار الفلل، وتنشط المؤتمرات والرحلات باسم "الوطن".
فأي وطن هذا الذي يقتل فيه الموظف قهراً؟ وأي حكومة تلك التي تعيش في عزلة تامة عن آلام شعبها؟ لا تسمع أنينه، ولا تهتز لدمعة رجل يعجز عن شراء الخبز لأطفاله؟
الوضع تجاوز حدود الاحتمال، قطع الرواتب جريمة إنسانية مكتملة الأركان، ولا يمكن فصلها عن منظومة من السياسات الفاشلة، والإهمال المقصود، والصراعات التي يدفع ثمنها من دماء الفقراء.
المطلوب في هذه المرحلة تحرك شعبي واسع وعاجل، لا يقتصر على المطالبة بصرف الرواتب، ويشمل محاسبة جميع الأطراف المسؤولة عن هذه الكارثة وفي مقدمتها حكومة المناصفة التي أثبتت عجزها وتجاهلت معاناة الشعب، ولم يعد ممكناً السكوت عن الدور السلبي للتحالف العربي، الذي يقف متفرجاً، ويشارك أحياناً في صناعة هذا الواقع القاسي.
الصمت في هذا السياق لم يعد حياداً، هو شراكة في الجريمة، واستمراراً للمعاناة، ولن تستعاد كرامة وحقوق هذا الشعب إلا من خلال انتفاضة واعية تعيد ترتيب الأولويات وتستعيد القرار من أيادي لا ترى في المواطن سوى رقم في معادلة مصالحها.