{ يمنية تتناول مع طفلتيها جرعة سم للتخلص من بؤس الحياة.. وأم تكتفي كل يومين بقليل من خبز وماء لتوفر الخبز لرضيعها امرأة تخرج في الليل لتسرق بقايا الروتي من أمام مخبز وتذوبه بالماء لأطفالها.. وسيدة تجمع بقايا الأكل من المنازل لتطعم صغارها البعض يستجدين كسرة خبز من أيدي الناس في الشوارع.. والغالبية يواجهن تهديد الموت جوعا مع أبنائهن خلف الجدران أرامل يمارسن أعمال شاقة أو الخدمة في المنازل لإعالة أسرهن.. وأمهات يأكلن من النفايات وينبشن القمامة بحثاً عن طعام } لم تكن تتوقع السيدة عائدة العبسي، أن يأتي عليها يوم يتهددها وأطفالها خطر الموت جوعاً، كما لم يخطر ببالها ذلك، لقد كان الأمر ضربا من الخيال.. لكنه صار واقعاً موجعاً، حين لم تجد عائدة العبسي، المعلمة في إحدى المدارس الحكومية بمدينة تعز، وسط اليمن، من وسيلة لإنقاذ أطفالها من الجوع سوى بيع إحدى كليتيها. ليست السيدة عائدة الأم الوحيدة التي وصل بها الحال إلى هذه المأساة التي أجبرتها على بيع كليتها لسد قرقرة أمعاء أطفالها الخاوية. ملايين النساء في اليمن يعشن ظروفاً إنسانية صعبة وسط حرب طاحنة خلفت عشرات الآلاف من الأيتام والأرامل والثكلى، ووضعتهن في خط المواجهة مع الجوع. وقبل أشهر أيضاً عرضت أم يمنية في العاصمة صنعاء كليتها للبيع لتوفير مصاريف ابنتها للمدرسة، وبحسب المصادر فإن الأم هذه واحدة من الإعلاميات التي كانت تعمل في واحدة من كبريات وسائل الإعلام الحكومية اليمنية، وتقطعت بها السبل، وانعدم مصدر دخلها الناجم عن توقف مرتبها. لقد قررت الأم ذلك بعد أن تم إيقاف ابنتها الطالبة في الصف الخامس بإحدى مدارس أمانة العاصمة من الدراسة، بسبب عدم قدرتها على دفع الرسوم. لم تجد ما ترمم به شرخ قد يهدد مستقبل تعليم ابنتها الوحيدة بالتوقف، غير أن تعرض كليتها للبيع، لتسديد رسوم المدرسة التي أشعرت عبر رسالة رسمية بضرورة دفع رسوم المدرسة ما لم فإن المدرسة مضطرة لفصلها أو بالأصح طردها من المدرسة وحرمانها من التعليم. الأم وبكل كبرياء لم تنكسر من أجل ابنتها، بل أعلنت عن نيتها بيع كليتها دون معرفة ابنتها لتسديد رسوم المدرسة، حرصا على سعادة ابنتها وعدم توقف مستقبلها في التعليم. الفرار من البؤس في زمن الحرب والمجاعة، تحصد آلة الموت حياة الكثيرين، وفي حين يقضي بعضهم جوعاً، ثمة ضعفاء فضلوا الفرار من حياة البؤس برغبتهم واختيارهم.. مطلع يونيو، لجأت إحدى الأمهات في عزلة "جبل حجاج"، مديرية السدة- محافظة إب، إلى الانتحار مع طفلتيها، عبر تناول جرعة سم قاتلة فتكت بثلاثتهن. لقد كانت "إيمان"- 12 سنة، وشقيقتها "أريج"- 9 سنوات، على موعد مع الموت الرحيم، إلى جانب أمهما، في حادثة أليمة هزت أرجاء مديرية السدة، ومحافظة إب، واليمن بأكملها. أرادت الأم (40 سنة)، تخليص نفسها مع طفلتيها من بؤس الحياة، بعد أن عجزت عن مواجهتها، فقامت بتجريعهما جرعة سم قاتلة، قبل أن تلحقهما بتجريع نفسها جرعة مشابهة. الحادثة أثرت على المجتمع بشكل كبير، خصوصا وأن الجميع في المنطقة كانوا يدركون تماما: لماذا لجأت الأم إلى هذه الطريقة للتخلص من حياتها وطفلتيها المسكينتين؟ حيث كانت الأسرة تمر بظروف معيشية صعبة جدا. وقد شيّع الأهالي جثامين الأم والطفلتين إلى مثواهم الأخير، وسط جو من الحزن والأسى الذي خيم على المنطقة، نتيجة هذه الحادثة الأليمة. معاناة مروعة في زمن الحرب تعيش اليمنيات معاناة مروعة، ويدفعن ضريبة هذه الحرب ثمناً باهظاً، ولا تقتصر معاناة النساء اليمنيات في ظل الحرب على ظروف النزوح ومشاعر الخوف من عمليات القصف. بل تزداد قساوة في ظل انقطاع الخدمات العامة، مما يدعوهن للقيام بمهمات شاقة في ظل انشغال الرجال بالحرب وبالبحث عن فرص لإعالة أسرهن. أوضاع ترغم النساء على القيام بمهمات إضافية في رعاية العائلة، بما في ذلك العمل على تلبية حاجياتها من خلال استخدام بدائل بدائية وشاقة ومرهقة، مثل الاحتطاب ونقل المياه من الآبار وإنارة المنازل بالشموع أو "بالفوانيس" التركية القديمة، ناهيك عن مشقة الأعمال المنزلية اليومية. وتواجه اليمنيات واقعا أكثر مأساوية، وينتاب كثير منهن الشعور بالإحباط جراء استمرار الحرب وغياب بوادر حل الأزمة في البلد الذي أرهقته الحرب. وتساهم الحرب في زيادة عدد الأرامل بسرعة. ومع معاناة النساء أكثر من الرجال من الأمّية وغيرها من المشاكل الاجتماعية، فإنّ فرصة النساء الأرامل تبقى محدودة أكثر من غيرهن حتى. وتضطر الأرامل للبحث عن فرص عمل في وقت لا يملكن فيه مهارات إلّا في مجالات محدودة يمقتها المجتمع، مثل الخدمة في المنازل، أو نبش القمامة بحثاً عما يمكن بيعه أو استهلاكه، أو التسول. وتلجأ الأرامل في كثير من الحالات، بغض النظر عن صعوبة وضعهن المالي، إلى خيارات صعبة أخرى، مثل ممارسة الأعمال الشاقة وممارسة مهن دنيا كمصدر دخل دوني يضمن الحصول على لقمة عيش تقي مخاطر الجوع والفقر. وتفصح تقارير صحفية عن حجم المعاناة التي وصلت إليها اليمنيات في ظل الحرب، وكيف أصبحت النساء يأكلن من القمامة والنفايات. كشفت صور نشرتها وسائل إعلام دولية، كيف أن النساء في اليمن بتن يأكلن من النفايات والقمامة، مع تفاقم الوضع الإنساني في ظل سيطرة الميليشيات الانقلابية على منذ أكثر من عامين. استجداء كسرة خبز وكما هو الحال بالنسبة لإحدى الأمهات في محافظة تعز التي تقول: "كل يومين أتناول قليل من خبز وماء، لأوفر الخبز لابني الرضيع". يقدر خبراء اقتصاد من أصبحوا غير قادرين على إطعام أنفسهم بشكل كاف أكثر من 17 مليون يمني، وباتوا مجبرين على اختصار الوجبات الغذائية الضرورية. ولا يختلف وجع هذه الأم كثيراً عن أخرى، تقول: "أخرج بالليل إلى مخبز يجمع بقايا الروتي بالخارج وأسرق كمية وأرجع أوذبها بالماء لأطفالي".. فداحة المأساة التي تعيشها مدينة تعز والتي لم تستثن المرأة ألقت بضلالها على النساء اللاتي وجدن أنفسهن أمام مسئولية تحمل أعباء أسرهن. وتتضح حجم المأساة الملقاة على عاتق المرأة التعزية من خلال مشاهدة نساء أجبرن على التسول، كما يتضح حجم المسئولية التي تواجه نساء تعز الواقعات بين خيارين إما الموت جوعا مع أطفالهن أو استجداء كسرة الخبز من أيدي الناس. وفي حين لم تجد بعض النساء بدا من الخروج إلى الشوارع لمد أيديهن للناس لتأمين لقمة العيش لأبنائهن الذين أفقدتهم الحرب آبائهم أو من كان يعولهم. تبقى النساء اللاتي فقدن أزواجهن أو مصادر دخل أسرهن وفضلن عدم الخروج إلى الشوارع تحت تهديد الموت جوعا مع أطفالهن. ويزداد الوضع سوءا يوما بعد أخر المدينة في ظل صمت رهيب لمعاناتها من قبل منظمات الأممالمتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية. ويأمل هؤلاء باعتبارهم ضحايا الحرب في هذه المحافظة المنكوبة أن تلتفت إليهم أيادي الخير بعد أن خذلتهم حكومتهم والمنظمات الدولية. في خط المواجهة في ظل أزمة الحرب الخانقة التي تدور رحاها في اليمن منذ خريف 2015 وتفاقم الأزمة الإنسانية والأوضاع الاقتصادية، تحاول كثير من الأسر اليمنية إيجاد حلول مؤقتة لتوفير متطلباتها المعيشية كبيع المدخرات والاستقراض من ذوي الدخل المرتفع. لكن كل المحاولات نفذت وبات واقع اليمنيين كارثي مع استمرار الحرب وغياب أي أفق سياسي لحل الأزمة. بنبرة حزن خانقة تقول هناء محمد، وهي معلمة في إحدى المدارس الحكومية بصنعاء : "ضاقت بي السبل.. إلى متى سيستمر هذا الحال؟.. ما عدت ادري ماذا أفعل".. فبعد توقف مرتبها كما هو زوجها باتت هناء تشكو الفقر والحاجة وعدم قدرته على تلبية أدنى احتياجات أسرتها المكونة من 6 أشخاص بينهم أربعة أطفال. تفيد هناء أنها أرغمت بعد انقطاع راتبها على ترحيل ولدها الأكبر للعيش مع جده في القرية ليتكفل بمصاريفه الدراسية وتوفير احتياجاته.. "صعب علي فراق ابني لكني كنت مضطرة لذلك بعدما عجزت عن توفير رسوم دراسته الجامعية". بات الطريق أمام العديد من الأسر مغلقاً، في ظل أزمة الحرب التي أعدمت الكثير من فرص العمل، وما عادت الأسر تجد أي طريق للعمل، إلى جانب تراكم الديون التي أصبحت تثقل كاهلهم ويعجزون عن سدادها.. " لم أترك باباً إلا وطرقته لكن هذه الأوضاع أقفلت كل أبواب العمل": تقول هناء. وفاقم انقطاع المرتبات من معاناة الأسر في ظل أزمة الحرب الحالية، مما اضطر كثير من النساء امتهان مهن دنيا لتوفير لقمة العيش لأطفالهن. تقول إحدى الأمهات باكية: "بعد إن توقف راتب زوجي اضطررت للعمل في المنازل.. حتى إني أصبحت أجمع بقايا الأكل لأطعم أطفالي". مجاعة معلنة وتسببت الحرب المستمرة في اليمن منذ أكثر من عامين بواحدة من "أكبر الأزمات الإنسانية" في العالم، مع ارتفاع أعداد السكان الذين يعانون من "ضائقة غذائية"، إلى نحو 19 مليونا، بينهم 7 ملايين شخص لا يعلمون من أين سيحصلون على وجبتهم التالية، وفقا للأمم المتحدة. وبحسب تقديرات دولية فإن أكثر من 8 مليون نسمة بحاجة لمساعدات إغاثية بسبب انعدام الدخل وفقدان القدرة الشرائية لشريحة واسعة من السكان. فيما 8 ملايين يمني فقدوا مصادر دخلهم، بينهم 7 ملايين شخص يعملون في القطاعين الخاص وغير المنظم وبالأجر اليومي، وأكثر من مليون و200 ألف من موظفي الدولة دخلوا ضمن عداد البطالة مع توقف تسليم مرتباتهم منذ أغسطس الماضي. ووفق الأممالمتحدة ومنظمات إغاثية دولية، فإن عشر محافظات يمنية من أصل 22 وصلت إلى حافة المجاعة، فيما دخلت محافظاتتعز والحديدة وصعدة مرحلة المجاعة المعلنة. ومطلع فبراير/ شباط الماضي، أطلقت الأممالمتحدة نداء عاجلاً للمجتمع الدولي من أجل توفير 2.1 مليار دولار لتقديم المساعدة المنقذة لحياة نحو 12 مليون يمني يواجهون شبح المجاعة. لكن المنظمة الدولية لم تستطع سوى حشد نصف التمويل المطلوب من خلال مؤتمر دولي رفيع للمانحين في جنيف أواخر نيسان/أبريل الماضي. رسالة عائدة للشرعية وتعد عائدة العبسي، ضمن أكثر من 43 ألف معلم في تعز يتهددهم خطر الموت جوعاً، نتيجة توقف مرتباتهم منذ قرابة العام، ما اضطرها إلى إعلان بيع كليتها. وتداول ناشطون أمس السبت على صفحات التواصل الاجتماعي "فيسبوك" صورة للناشطة والتربوية/ عائدة العبسي وهي ترفع يافطة مكتوب عليها: هذا ما وصلنا إليه في ظل شرعية متخاذلة وحكومة متآمرة.. أعلن عن بيع إحدى كليتي لإنقاذ أطفالي من الجوع. وفيما اختتمت العبسي يافطتها بعبارة "الراتب حياة"، في إشارة منها إلى المرتبات المتوقفة منذ قرابة عام، على موظفي القطاع العام بمحافظة تعز، كما هي محافظات أخرى. اعتبرت السيدة/ عائدة العبسي هذا الإعلان بأنها رسالة للشرعية التي خذلتها وخذلت الجميع، وأنها عبرت عن ما في داخل كل الأمهات وكل الآباء في تعز من وجع. وكتبت، في تدوينة لها على صفحتها بالفيسبوك: "رسالتي كانت إلى الشرعية المتخاذلة قلت يمكن تحرك ضمائرهم الميتة". وما تزال الحكومة الشرعية منذ إحدى عشر شهراً تماطل في تسليم رواتب معلمي محافظة تعز دون أي سبب يذكر، رغم أنها تصرف مرتبات المعلمين في المحافظات الأخرى، الأمر الذي جعل معلمي المدينة يعيشون أوضاع معيشية صعبة ومعقدة جداً. أوضاع كارثية ويتجاوز عدد المعلمين في محافظة تعز 43 ألف معلما يعولون أكثر من 250 ألف نسمة وفقا لحسابات متوسط عدد أفراد الأسر والإعالة ، ويعتمد السواد الأعظم منهم على راتبه كمصدر دخل وحيد لأسرهم. ويعاني قرابة 67 ألف موظف في القطاع المدني بمحافظة تعز من فقدان مصدر دخلهم الوحيد، نتيجة توقف مرتبات الموظفين المدنيين بالمحافظة منذ قرابة العام، مما سبب بحدوث أزمة لدى عشرات آلاف الأسر. وأدى توقف صرف المرتبات واستمرار الحرب إلى تآكل المدخرات، كما قفزت أثارها السلبية إلى مستوى كارثي أدى إلى إغراق أغلب الموظفين في الديون ودفعهم إلى رهن أو بيع أثاث مساكنهم ولوازمهم.. وفاقم انقطاع المرتبات من معاناة الأسر في ظل الحرب التي تدور رحاها في اليمن منذ خريف 2015 وتفاقم الأزمة الإنسانية والأوضاع الاقتصادية. ولم يكن يتوقع معلمو محافظة تعز، ومن بينهم عائدة العبسي، أن يأتي عليهم يوم تهددهم فيه المجاعة، ولم يخطر ببالهم خطر الموت جوعا، فهذا الأمر كان ضربا من الخيال. غير أن المليشيا الانقلابية استطاعت أن تحول ذلك الخيال إلى واقع بعد أن سطت على مؤسسات الدولة ونهبت مقدراتها لتتسبب في توقف رواتب موظفي الدولة بما فيهم المعلمين. وعلى الطرف الآخر تتلذذ الحكومة الشرعية بوجع مواطنيها بينما تمتنع عن صرف مرتبات الموظفين، رغم التزامها بذلك عند نقل البنك المركزي اليمني إلى محافظة عدن.