فرانك جاليجر وشرعية الصلعان عبدربه منصور ورشاد العليمي    قياس كفاءة القيادة القدرة على حل المشكلة بسرعة وسهولة وليس تبرير فشل حلها    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    موعد والقنوات الناقلة لمباراتي برشلونة ضد سان جيرمان ودورتموند ضد أتلتيكو مدريد    إعلان لشرطة الحديدة بشأن حادث مروع أودى بحياة 4 أفراد من أسرة واحدة    معهد دولي أمريكي: أربعة سيناريوهات في اليمن أحدها إقامة دولة جنوبية    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    زيارة بن مبارك إلى المكلا لإقتسام أراضي الخور والطريق الدائري الجديد    ما وراء امتناع شركات الصرافة بصنعاء عن تداول العملة النقدية الجديدة !    تحذير حوثي من هجرة رؤوس الأموال والتجار من اليمن نتيجة لسياسية النهب    حكم الجمع في الصيام بين نية القضاء وصيام ست من شوال    نجحت بأوكرانيا وفشلت بإسرائيل.. لماذا أخفقت مسيّرات إيران؟    ماذا يحدث بصنعاء وصعدة؟؟.. حزب الله يطيح بقيادات حوثية بارزة بينها محمد علي الحوثي وعبدالملك يضحي برجالاته!    هل ستطيح أمريكا بالنظام الإيراني كما أطاحت بنظام "صدام حسين" وأعدمته بعدما قصف اسرائيل؟    اليمن يطرح مجزرة الحوثيين بتفجير منازل رداع على رؤوس ساكنيها في جلسة لمجلس الأمن الدولي    لا داعي لدعم الحوثيين: خبير اقتصادي يكسف فوائد استيراد القات الهرري    مصرع جنديين وإصابة 4 في حادث انقلاب طقم عسكري بأبين والكشف عن حوادث السير خلال 24 ساعة    - ماهي الكارثة الاليمة المتوقع حدوثها في شهر شوال أو مايو القادمين في اليمن ؟    حضرموت تستعد للاحتفال بالذكرى الثامنة لتحرير ساحلها من الإرهاب    فيرونا يعود من بعيد ويفرض التعادل على اتالانتا في الدوري الايطالي    "قد لا يكون عسكريا"...صحيفة امريكية تكشف طبيعة الرد الإسرائيلي على إيران    القوات الأمنية في عدن تلقي القبض على متهم برمي قنبلة يدوية وإصابة 3 مواطنين    الليغا .... فالنسيا يفوز على اوساسونا بهدف قاتل    نونيز: كلوب ساعدني في التطور    الحكومة: استعادة مؤسسات الدولة منتهى أي هدف لعملية سلام    مسلسل تطفيش التجار مستمر.. اضراب في مراكز الرقابة الجمركية    شيخ مشائخ قبائل العلوي بردفان والضالع يُعزَّي المناضل ناصر الهيج بوفاة زوجته    المبعوث الأممي يحذر من عواقب إهمال العملية السياسية في اليمن ومواصلة مسار التصعيد مميز    إصدار أول تأشيرة لحجاج اليمن للموسم 1445 وتسهيلات من وزارة الحج والعمرة السعودية    الوزير الزعوري يشيد بمستوى الإنضباط الوظيفي بعد إجازة عيد الفطر المبارك    خلال إجازة العيد.. مستشفيات مأرب تستقبل قرابة 8 آلاف حالة    إنتر ميلان المتصدر يتعادل مع كالياري بهدفين لمثلهما    جريمة قتل في خورة شبوة: شقيق المقتول يعفوا عن قاتل أخيه فوق القبر    كيف نتحرك في ظل هذه المعطيات؟    البنك الدولي.. سنوات الصراع حولت اليمن إلى أكثر البلدان فقراً في العالم مميز    مجلس الامن يدعو للتهدئة وضبط النفس والتراجع عن حافة الهاوية بالشرق الأوسط مميز    العوذلي: البلاد ذاهبة للضياع والسلفيين مشغولين بقصّات شعر الشباب    إسرائيل خسرت 1.5 مليار دولار في ليلة واحدة لصد هجوم إيران    12 دوري في 11 موسما.. نجم البايرن الخاسر الأكبر من تتويج ليفركوزن    زواج الأصدقاء من بنات أفكار عبدالمجيد الزنداني    الوحدة التنفيذية : وفاة وإصابة 99 نازحاً بمأرب في حوادث حريق منذ العام 2020    هل يعيد التاريخ نفسه؟ شبح انزلاقة جيرارد يحلق في سماء البريميرليج    جماعة الحوثي ترفض التراجع عن هذا القرار المثير للسخط الشعبي بصنعاء    هل صيام الست من شوال كل إثنين وخميس له نفس ثواب صومها متتابعة؟    تراث الجنوب وفنه يواجه.. لصوصية وخساسة يمنية وجهل وغباء جنوبي    فضيحة جديدة تهز قناة عدن المستقلة التابعة للانتقالي الجنوبي (صورة)    الخميس استئناف مباريات بطولة كرة السلة الرمضانية لأندية ساحل حضرموت    رئيس الوزراء يعود الى عدن بعد أيام من زيارته لمحافظة حضرموت    حلقة رقص شعبي يمني بوسط القاهرة تثير ردود أفعال متباينة ونخب مصرية ترفض الإساءة لليمنيين - فيديو    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    حتى لا يُتركُ الجنوبُ لبقايا شرعيةٍ مهترئةٍ وفاسدةٍ.    نزول ثلث الليل الأخير.. وتحديد أوقات لإجابة الدعاء.. خرافة    موجة جديدة من الكوليرا تُعكر صفو عيد الفطر في اليمن    تخيل أنك قادر على تناول 4 أطعمة فقط؟.. شابة مصابة بمرض حيّر الأطباء!    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    سديم    بين الإستقبال والوداع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العُقدة اليزنية
نشر في يمن برس يوم 26 - 01 - 2020

عَلى مَدى التاريخ والآخرون يتحكمون بِنا، من الحبشة، إلى فَارس، إلى الحجاز ونجد، إلى مَصر، إلى تركيا، تلك الخُماسية الدخيلة التي قُدِّر لها أن تتواجد في ماضينا وحاضرنا، وبفعل انقسمنا، إما كمُنقذٍ أو كوصيٍ يتحكم بمصائرنا، ويبقى التوصيف الأخير هو الأكثر شيوعًا.
بداية القرن الميلادي الأول، وأثناء الصراع المرير بين «الحميريين» و«الهمدانيين»، قام الأخيرون بالاستنجاد بالأحباش، وتمكّنوا بفعل مساعدتهم من إخضاعِ «الحميريين، والسبئيين» لنفوذهم «127م»، وتلقبوا لبعض الوقت ب «ملوك سبأ، وذي ريدان»، ضمن الأحباش - بفعل ذلك التحالف - أملاكًا لهم في المناطق التهامية، وصاروا لاعبين رئيسيين في الصراع الدائر، تارة يساندون هذا الطرف، وتارة ذاك، ليتمكّن اليمنيون في لحظة يقظة وطنية من طردهم.
وعِندما عَجز الرومان - مُنتصف القرن الرابع الميلادي - عن ترويِضنا، سَلمُونا للأحباش كفَريسة مُنهكة، لينسحب الأخيرون بعد ثلاثة عقود من احتلالهم الثاني لليمن «375م»، بعد أن تلقب أحد ملوكهم ب «ملك أكسوم، وحمير، وذي ريدان، وحبشت، وسبأ، وزيلع، وتهامة»، وبعد أن وضعوا لبنات ديانتهم المسيحية في جنوبِ الجزيرة العربية.
بِتَهدم «سد مأرب» - مُنتصف القرن الخامس الميلادي - حلَّت لعنة «مزقناهم كل مُمَزق»، استولى الثوار «المسيحيون» على العاصمة الحمْيرية ظفار، إلا أنَّ الملك الحميري يوسف ذا نواس - الذي تَهوّد نكاية بالأحباش وداعميهم - كان لهم بالمرصاد، طاردهم، واقتحم معقلهم في نجران، وارتكب مَحرقة الأخدود الذائعة الإجرام «أكتوبر 523م»، استنجد اليمني المسيحي دوس ذو ثُعْلُبَان بملك الروم «جستنيان»، فأوكل الأخير إلى حلفائه الأحباش مهمة الإنقاذ.
ابتدأ الاحتلال الحبشي الثالث لليمن عام «525م»، ليأتي بعد «47» عاماً الملك الحميري سيف بن ذي يزن ويطردهم بمساعدة الفُرس الذين رَغّبهم بالاستحواذ على بلادنا كغَنِيمة، تاركاً لهم حُكم «اليمن الأعلى»، مُكتفياً بحكم «اليمن الأسفل» سهل الانقياد، وقيل غير ذلك، وحين تم قتله على يَد ثُلَّة من عساكرٍ له أحباش استبقاهم لخدمته «590م»، سيطر المُنقذون الجُدد - والذين كانوا في الأصل جزءًا من تلك المؤامرة - بسهولة ويُسر على أجزاء كثيرةٍ من البِلاد.
جاء الإسلام من الحجاز كمُنقذ، فانقدنا له، تارة برسالة، وفي حالات نادرة بالسيف، لنتلقف بعد ذاك كافة مَذاهبه، وتناقضات فقهائه، ومن الحجاز أيضاً، وبطلب من اليمنيين أنفسهم، قَدِم الإمام يحيى بن الحسين، ليلحق به آلاف المُقاتلين الأجانب، مُعظمهم من فارس، لتحل الطامة الكبرى بانقياد «الخولانيين، والهمدانيين» لمذهبه ودولته الدينية التي اختطفت المذهب «الزيدي»، وأفرغته من محتواه، وحصرت الإمامة في كل من خرج من نسل «الحسن، والحسين»، شاهرًا سيفه، عالمًا بالكتاب والسنة، في مخالفةٍ صريحةٍ لما جاء به الإمام زيد نفسه.
دول عديدة في العصر الإسلامي تعاقبت على حكم اليمن، وكانت جميعها مُلازمة لدولة «الإمامة الزيدية» التي انحصرت سيطرتها على المناطق الشمالية، ليبلغ التنافس ذروته بين الأخيرة و«الدولة الصليحية» التابعة أصلاً ل «الدولة الفاطمية» في مصر، وحين أنهى «الأيوبيون» مسار تلك الدولة، كانت اليمن ميراثًا سهلاً لتوسعاتهم «مايو 1174م».
ذكر المُؤرخون أكثر من سبب لذلك التواجد، منها أنَّ قاسم بن وهاس حاكم «المخلاف السليماني» استنجد بهم ضد توسعات عبدالنبي بن علي بن مهدي، وقيل - أيضاً - أنَّه ولذات السبب راسل الحسن النساخ الخليفة العباسي «المستضيء» الحسن بن يوسف، وأنَّ الأخير أوكل ل «الأيوبيين» مهمة القضاء على دولة «ابن مهدي» وباقي الدول اليمنية المُتصارعة، والقول الأول هو الأرجح.
كرر المُؤرخون ذكر اسم الحسن النساخ في حادثة مُشابهة، وهي: حينما نكل الإمام عبدالله بن حمزة بجماعة «المُطرَّفية»، والتي كان النساخ أحد أشهر علمائها، توجه الأخير إلى بغداد، وطلب من «الناصر» أحمد بن الحسن النصرة، فأرسل الخليفة «العباسي» إلى «الأيوبيين» في مصر، وحثهم على نصرة اليمنيين المُستضعفين، وبالفعل توجه «المسعود» يوسف بحملة كبرى «1215م»، تعزيزًا للتواجد الأيوبي في اليمن الذي استمر ل «57» عامًا، وما «الدولة الرسولية» ومن بعدها «الدولة الطاهرية» إلا امتداد لذلك التواجد.
وحين تعاظم خطر «البرتغاليين» في البحر الأحمر، سارع السلطان الطاهري عامر بن عبدالوهاب بالاستنجاد بالمماليك في مصر، وأذن لهم بإقامة قواعد بحرية على السواحل اليمنية، وحين تماطل في دعم الأخيرين اجتاحوا اليمن، وقتلوه على تخوم صنعاء «1517م»، وذلك بالتزامن مع أفول دولتهم بمصر والشام على يد الأتراك، فما كان من قادتهم هنا إلا أن أعلنوا ولائهم للسلطان العثماني سليم الأول.
وبطلب من الأمير الطاهري عامر بن داؤود المهزوم من قبل الإماميين، ولكبح خطر البرتغاليين، أرسل الأتراك بعد «27» عامًا بِحملة كُبرى، وكانت نهاية ذلك الأمير القتل غدرًا على يد الوزير سليمان باشا الخادم قائد تلك الحملة، ليبدأ بذلك التواجد التركي الأول، والذي شمل مُعظم الأراضي اليمنية، واستمر ل «100» عام وبضعة أشهر.
لم يكن التواجد التركي الثاني - هو الآخر - عفويًا «1849م»، فقد ذكر بعض المُؤرخين أنَّ الأمير حسين بن حيدر «صاحب أبي عريش» استنجد بهم ضد «إمام صنعاء» محمد بن يحي، وذكر آخرون أنَّ مُفتي تهامة محمد الأهدل استنجد بهم ضد القبائل الشمالية التي عاثت في بلاده نهباً وخراباً، وأنَّ السلطان العثماني وجه بتحريك حملة عسكرية من جدة لنجدة التهاميين.
كانت «الإمامة الزيدية» حينها تعيش أسوأ أيامها، تولى حكمها أئمة ضعاف، انصرفوا إلى شؤونهم الخاصة، حتى ضعفت سلطتهم، وسقطت هيبتهم، وانقسم أنصارهم شيعاً وأحزابا، تآمروا ضد بعضهم، وقضى المُنتصر على المُنكسر، وكثيراً ما كانوا يستنجدون برجال القبائل، مما عرَّض مدينة صنعاء وغيرها من المدن لغارات عديدة، كثرت فيها حوادث السلب، والنهب، والتخريب.
دفعت تلك الأوضاع المضطربة عدداً من العلماء، والزعماء، والتجار للاستنجاد بالسلطان العثماني عبدالعزيز بن عبدالحميد، ودعوته لحكم اليمن، وكان عدد من الأئمة ضمن قائمة المُستنجدين، كغالب بن محمد، وعلي بن عبدالله، والحسين بن أحمد، فيما تولى «شريف مكة» محمد بن عون زمام الوساطة، وجاء في وثيقة الاستنجاد: «أنَّ العرب حول صنعاء قد شقوا عصا الطاعة، واستبدوا بالبلاد بالعتو والفساد، فنرجو أن تمدونا ببعض العساكر لإنقاذ اليمن»، عاود الأتراك استيلائهم على المناطق الشمالية «إبريل 1872م»، واستمر تواجدهم الثاني ل «69» عامًا إلا بضعة أشهر.
«المصريون والسعوديون ينظرون إلى اليمن كمحضية يودون امتلاكها»، مقولة صادمة قالها «ترافيسكس» المُعتمد البريطاني لعدن ذات يوم، وبالعودة إلى نهاية أربعينيات القرن الفائت نجد أنَّ الإمام أحمد حميد الدين هو أول من استجلب الدعم والمُساندة من إحدى الدولتين، وما خيار المَحضية إلا وليد ناجز لذلك الاستجداء.
عندما عَلِم الإمام أحمد بمقتل والده الإمام يحيى «فبراير 1948م»، أرسل من فوره رسالة إلى الملك عبد العزيز آل سعود يُعلمه بخطورة الثورة التي قام بها من يُسَمون ب «الأحرار، والإخوان المسلمين»، وأنَّ كليهما خطر على العروش وعلى الدين، مُستمداً منه النجدة والمؤازرة، وأنَّه سيكون له ابناً إذا رضي أن يكون له أباً.
مع وصوله إلى مدينة حجة، وصلت للإمام أحمد الدُفعة الأولى من النجدة السعودية «ذخيرة، ومال، وجهاز لاسلكي»، ورسالة من الملك عبد العزيز تطمئنه وتحثه على خوض معركة صنعاء باستبسال، واعداً إياه بالمساعدة حتى آخر نَفس وريال، كما عمل الملك السعودي على إعاقة وصول وفد الجامعة العربية إلى صنعاء، ليتيح لحليفه - الإمام الجديد - إسقاط الحكومة الدستورية، والسيطرة على الوضع.
في مُذكراته قال المناضل أحمد محمد نعمان إنَّ الأمير محمد البدر أوفده من حجة إلى المملكة العربية السعودية لحثها على التدخل، وحل الخلاف الذي حدث بين الأسرة الحاكمة إثر إنتفاضة «مارس 1955م»، أبلغ النعمان الملك سعود بن عبدالعزيز باستنجاد الإمام أحمد به، فكان رد الملك بأنَّه سيجهز «10,000» مُقاتل للمساعدة، وحين أتت الأخبار بإخماد تلك الانتفاضة، فرح الملك سعود بذلك، وقال للنعمان: «أخي الإمام أحمد انتصر على أعدائه، وخرج راكبًا فوق حصانه، وسيفه بيده»، وما يجدر ذكره أنَّ الإمام أحمد نفسه بعث - قبل ذلك - ببرقية للملك السعودي، وطالبه فيها بالتدخل الفوري، وقصف الثوار بالطائرات.
في العام التالي انضم الإمام أحمد إلى الحلف الثلاثي «المصري - السعودي - اليمني»، وبموجبه حصل على «3,000,000» دولار من السعودية، اشترى بها سلاحاً من الاتحاد السوفيتي، في صفقه وقعها عنه ولده الأمير البدر، وصار بذلك أكثر جبروتًا من ذي قبل، نظم حينها قصيدة طويلة رداً على جميل «آل سعود» تجاهه، جاء فيها:
ولا آلو لآلِ سعود شكراً
جميعهمُ فكلَّهمُ رعاني
بعطفٍ أو بنصحٍ أو بمالٍ
كذاك سلاحهم دوماً أتاني
الإمام محمد البدر هو الآخر عندما قامت الثورة ضده، لم يكتفِ بإرسال رسالة أو رسول؛ بل نفذ بجلده صوب السعودية، وأعلن من حدودها وبمؤتمر صحفي أنَّه زاحف بمساعدة الأشقاء لاستعادة مُلكه المسلوب، لتعلن المملكة بعد الثورة السبتمبرية بِشهر وسبعة أيام عن قيادتها لتحالفٍ داعم ل «الإماميين»، مهمته القضاء على الانقلاب الجمهوري.
وفي نجران استقرت القياداتُ الإمامية، وأديرت العمليات العسكرية، كما تم تدريب بعض عناصر الجيش الإمامي فيها، وفي إيران الدولة التي انظمت إلى ذلك التحالف فيما بعد، وقدمت ل «الإماميين» مساعدات مالية وعسكرية مَهُولة؛ بل وشارك بعض جنودها في المعارك، وتم أسر عدد منهم في منطقة حرض الحدودية، وأعلن عن ذلك في حينه.
بعد ثمان سنوات من الحَرب، تَذمر القادة «الملكيون» من تَخلي السعودية عنهم، واتهم أحدهم ويدعى الشيخ ناجي الغادر النظام السعودي بالجُبن، وقال أنَّهم كانوا يقاتلون دفاعاً عنه، وأنَّ جمال عبد الناصر كان يريد السعودية لا اليمن، الأمر الذي أثار غضب الأمير سلطان بن عبدالعزيز «مسؤول الملف اليمني»، وقام بطرده من الاجتماع، ثم من البلد.
استسلم «الإماميون» حينها للأمر الواقع، ورضخوا للمصالحة الوطنية التي رعتها السعودية وباتفاق غير مكتوب «مارس 1970م»، ليعترف الملك فيصل بن عبدالعزيز بعدها بأربعة أشهر بالنظام الجمهوري، بعد أن ضمن لأغلب القيادات الإمامية مناصبهم ونصيبهم في النظام الجديد، وأبقى أسرة بيت «حميد الدين» في ضيافته.
بعد نجاح الثورة الإيرانية «فبراير 1979م»، انتعشت آمال «الإماميين» في إعادة دولتهم الدينية، ليتوجه في العام التالي وفد رفيع من قبلهم إلى طهران، في زيارة ظاهرها التهنئة، وباطنها طموحات إمامية ستتبدى تباعاً، كان بدر الدين الحوثي أحد أبرز أعضاء ذلك الوفد، وقد كُللت تلك الزيارة بولادة تحالف بصيغة جديدة ومختلفة عنوانه: «توارى البدر، وعاد بدر».
كان ذلك الوفد برئاسة الشاعر أحمد بن محمد الشامي، وقد قاده حماسه بعد نجاح تلك الزيارة لمخاطبة ولي عهد السعودية الأمير فهد بن عبدالعزيز بأبيات شعرية مدلولها «لسنا بحاجة إليكم»، جاء فيها:
قل لفهدٍ والقصور العوانسْ
إننا سادةٌ أباةٌ أشاوسْ
سنعيدَ الحُكمَ للإمامةِ إمَّا
بثوب النبي أو بأثوابِ ماركسْ
وإذا خابتِ الحجازُ ونجدٌ
فلنا إخوةٌ كرامٌ بفارسْ
تبعاً لذلك، تم في «ديسمبر» من العام «1981م» طرد السفير الإيراني من اليمن، بعد أن تبدى للحكومة نشاطه المعادي، ليبدأ النشاط التعليمي لجماعة «الحوثي» في العام التالي، حيث تشكلت على يد محمد بدر الدين الحوثي، وصلاح فليته نواة حركة «الشباب المؤمن».
عادت «الإمامة الزيدية» وبدعم إيراني إلى تمددها العسكري الكارثي بقيادة حسين بدر الدين الحوثي «2004م»، ومن بعده أخيه عبدالملك، اختطف «الإماميون» الجدد الدولة والأرض، وهددوا أمن حلفائهم بالأمس، لتقود السعودية هذه المرة تحالفاً داعماً للجمهورية، عنوانه المُعلن القضاء على الانقلاب «الحوثي - الإمامي»، وعنوانه الخفي القضاء على كل«جمهوري، وإمامي».
بعد هذا الاستعراض الموجز، يبقى ظلم الأئمة «الزيود» وأنصارهم هو الأقسى، والمُتسبب الرئيس لذلك التدخل الخُماسي، سعوا طوال فترة حُكمهم لاحتلال مناطق «اليمن الأسفل»، وتركيعها بكل ما أوتوا من حقدٍ وقوة، وقد تصدى لهم في كل مُحاولة المُنقذ الخارجي - من «أيوبيين، ورسوليين، ومماليك، وأتراك»، وحين تأتى لهم ذلك بمراحل مُتأخرة، وفي غَفلة من التاريخ، أهلكوا الحرث والنسل، وحولوا «الشوافع» إلى عبيد ورعايا لا حول لهم ولا زرع.
ومما لا شك فيه أنَّ المصلحة كانت وما تزال القاسم المشترك لتلك الخُماسية الدَخِيلة، إلا أنَّ أبناء البلد لهم نظرة مُتباينة ومُختلفة باختلاف مفهوم الوطنية لدى كل فَريق، وإذا ما عُدنا إلى موروثنا المُثقل بالدم والصراعات، لتبدى لنا ذلك وبوضوح، عَمِدَ غالبية مؤرخي «اليمن الأسفل» مثلاً على وصم «الأيوبيين» - القادمين من مصر - ومن بعدهم «الرسوليين، والعثمانيين» بأحسن الصفات، فهم المُنقذون، وحماة الأرض، والعرض، والدين، وبصورة مُبالغ فيها أحياناً كما فعل المؤرخ الموزعي في كتابه «الإحسان في دخول اليمن في ظل عدالة آل عثمان».
ذات الشعور طال «المصريين» الذين قدموا إلى اليمن في ستينيات القرن المنصرم، وناصروا الثورة السبتمبرية في مهدها، وكانوا أساس صمودها، و«السعوديين» الذين قدموا مُؤخراً لإنقاذ اليمن من الوصاية الفارسية حدَّ زعمهم، مع اختلاف بسيط في الصياغة والتشبيه، وهي النظرة التي تغيرت مؤخراً لأسباب يطول شرحها، ولسان حال هؤلاء - قديمهم والجديد - يلخصه قول الشاعر عبدالله البردوني:
وبرغمي يصبح الغازي أخي
بعدما أضحى أخي أعدى الأعادي
وفي المُقابل كانت نظرة غالبية مُؤرخي «اليمن الأعلى» عكس ذلك تماماً، فهؤلاء الأجانب كُفار بغاة، واليمن كانت وما تزال مَقبرة لكل غازٍ ومُحتل، فيما تُهَم العَمَالة لإخوانهم في الأرض جاهزة ومُفصلة لتتناسب وحجم الصراع الدائر، والأهم من ذلك تحفيز القبائل المُوالية على رصِّ الصفوف، والاستعداد لقتل كل غازٍ وعميل، أما إيران فهي - حد وصف إماميهم الجدد - دولة ذات مشروع مناهض للمُستكبرين، تناصر المظلومين على الأرض، وما داموا كذلك على مرَّ العصور، فلا ضير - هنا - إن ناصرتهم.
والمُفارقة الصَادمة أن الإمام يحيى بن الحسين الذي صارت لذريته وذرية من قدموا معه مِيزة وحقوق أكثر من سكان البلد الأصليين، لم يكن من وجهة نظرهم مُحتلاً؛ بل صاحب حق، وله ولذريته السيادة والملك، وما عليهم سوى الطَاعة والانصياع.
لا أسوأ من أن يتمادى الظالم في غيه؛ حتى يُجبر المظلوم على الاستعانة بمن ينقذه، وفي تاريخنا شواهد كثيرة تدور في ذات المسار، ذكرنا معظمها اختزالًا، لتُصبح «العُقدة اليزنية» عُقدة كل اليمنيين، وبمعنى أشمل عُقدة كل المُستضعفين، وغير بعيد قال «تشرشل»: «لا يضرنا الاستعانة ولو بالشيطان»، وبمعنى أكثر دقة الغريق لا تُهمه جنسية من يُنقذه.
وفي المُحصلة التراجيدية، قد تكون عواقب هذه الاستعانة وخيمة، وسبق لنيقولا مكيافيللي أنْ أشار إلى ذلك قائلاً: «عندما يطلبُ حاكم من دولة أخرى القدوم بقواتها لمساعدته وحمايته؛ قد تكون هذه الفكرةُ جيدة في حد ذاتها، لكنَّها تكون في غاية الخطورة بالنسبة لمن يطلب عونها؛ لأنَّها إن خسرت تجرُّهُ معها إلى وكر الهزيمة، وإن انتصرت فإنَّه يُصبح تحت رحمتها، وباختصار أقول: إنَّ سلاح الغير إمّا يسقط على كتفيك، أو يثقل كاهلك، أو يشل حركتك».
تاريخنا موصولٌ غير مقطوعٍ، وواقعنا أكثرُ غُموضاً من ماضينا، ومُسقبلنا تائهٌ بلا ملامح، عنوان عَريض لمعاناة لا تنتهي، مُمتد كامتداد «مزقناهم كل مُمزق»، تلك اللعنة الأزلية التي طالت أبناء هذا البلد التعيس، ومن يقترب منه، وجعلتنا حديث كل لسان، وبنظرة فاحصة نجد أنَّ من تحالفوا على اليمن بالأمس القريب، صاروا أعداء، ومن اختلفوا بسببه، صاروا أصدقاء، ولولا ظُلم ذوي القُربى، واستقواء القَوي على الضعيف، و«الأعلى» على «الأسفل»، وإشراك السماء في صراعات الأرض، ما اختلف وتَدخل هؤلاء.
نحن إذاً وعلى مدى التاريخ أعداء أنفسنا، ووطننا، وديننا، وحين صاغ شاعر اليمن الكبير عبد الله عبد الوهاب نعمان «الفضول» النشيد الوطني الذي يحفظه أغلب اليمنيين، كان يُدرك ذلك جيداً، وما قوله: «وسيبقى نبض قلبي يمنيا»، إلا دعوة إلى الحب والتآخي والوحدة كقلب رجل واحد، تتجسد فيه روح الوطنية والانتماء، أما قوله: «لن ترى الدنيا على أرضي وصيا»، ففيه تمرد على الماضي والحاضر، واستشراف للمُستقبل، ودعوة إلى عَدم الاختلاف، واستجلاب المُنقذين والأوصياء مَرة أخرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.