بِمعزل عن قراءة التاريخ، هناك من يصف انقلاب جماعة الحوثي واستيلائها على السلطة ب «الحق الإلهي» الذي عاد لأهله بعد «52» عاماً إلا أربعة أيام؛ وهو التبرير الذي أنطلى على كثيرين؛ لوجود ما يُعززه من داخل موروث «الثورة السبتمبرية» ذاتها، وأدبيات مناضليها ومفكريها وصحفييها، ودائماً ما تتكرر عبارة «الثورة التي أنقذت اليمن من ظلم الكهنوت الذي جثم على أراضيها لأكثر من الف عام». المُتلقي هنا ينظر إلى اليمن بجغرافيتها الحالية، غير مُدرك أن اليمن تاريخياً حكمته عديد دول مُتصارعة، وأن الإمامة الزيدية ما هي إلا جزء من كُل، عاشت تاريخها الطويل في انحسار دائم، ولم تتجاوز الهضبة الشمالية إلا بمراحل متأخرة من عهد «الأئمة القاسميين».
حقائق مهمة يتجاهلها كثيرون، والدافع لاستجلابها هنا ظهور أصوت نشاز لا تُجيد قراءة التاريخ، وتجيره حسب هواها، واستنتاجاتها لا تتوقف عند عودة الحق لأهله فقط، بل تتعداها إلى الاستدلال بذلك الموروث المتراكم، وبالذاكرة الشعبية، فهي حد وصفها تحفظ ذلك وتستسيغه، دون الرجوع إلى كُتب التاريخ ومراجعه الموثوقة، وتزيد على ذلك بأن أباءنا وأجدادنا رضخوا لحكم الأئمة المسنودين من السماء، وصبروا على أذاهم، ولا ضير أن نعيش في كنفهم إلى أن يقم الله الساعة، وهي مغالطة سمجة من السهولة تفنيدها.
إقليم حضرموت حكمه الأئمة الزيود ل «24» سنة فقط، «1681 1705»، دخلوها في عهد المتوكل اسماعيل بن القاسم بعد أن أستنجد به «الكثيريين» ضد أبناء عمومة لهم، وخرجوا منها بعد أن أستنجد «الأخيرين» بقبائل يافع؛ التي بدورها دعمتهم ب «6,000» مقاتل، وأقصتهم وحكمت ساحل حضرموت حتى العام «1882»، تحت مسمى الدولة «البريكية».
إقليم عدن ل «98» سنة، «1630 1709» دخلها الأئمة الزيود في عهد «المؤيد» محمد بن القاسم، وخرجوا منها بعد الثورة التي قادها سلطان يافع صالح هرهرة، الأمر الذي حفز سلطان لحج ليؤسس إمارة مستقلة ومستقرة في العام «1728»، وقد سبق ذلك توغل زيدي متقطع، فقد اجتاحها الإمام صلاح الدين الهدوي في القرن الثامن الهجري، ومُني بهزيمة خاطفة وقاسية، وفي القرن العاشر الهجري دخلها الإمام المطهر شرف الدين، لتطرد قواته بعد عام واحد من قبل العثمانيين الذين عززوا تواجدهم في اليمن عبر بوابة عدن.
إقليم تهامة ل «200» سنة تقريباً، وبدأت بالتحديد منذ خروج الأتراك في حملتهم الأولى «1636»، وانتهت باستقلال الشريف حمود أبو مسمار بتهامة في أواخر عهد الإمام «المنصور» علي بن «المهدي» عباس، واعتراف ولده «المتوكل» أحمد بذلك عام «1809»، ومن بعدهم أتت قوات محمد علي باشا ثم الأتراك ب «حملتهم الثانية»، ثم الأدارسة بدعم بريطاني، ولم يستقر الحال للأئمة إلا بعد القضاء على ثورة الزرانيق «1929»، وهي سيطرة هدَّ سكونها اجتياح القوات السعودية للإقليم «1934»، بمساعدة «هادي الهيج» وبعض مشايخ تهامة، نكاية بالإمام الذي صادر أسلحتهم، أوقفت «اتفاقية الطائف» في نفس العام الحرب، لكنها لم تُنهي الصراع.
إقليم الجند «تعز وإب» ل «233» سنة تقريباً، وعلى مراحل متفرقة، «10» سنوات في عهد الأئمة من بيت شرف الدين، تسع منها قبل دخول الأتراك الإقليم «1545»، وسنة قبل قُدوم حملة سنان باشا «1569»، أما الأئمة القاسميون فقد حكموا الإقليم على ثلاث مراحل: الأولى «1630 1709» انتهت بسيطرة متقطعة لقوات سلطان يافع صالح هرهرة، لخصها أحد الشعراء بقوله: وتعز قد خذناها وخذنا قعطبة وإب والراحة ونجد والجاح ثم ظل الإقليم محكوماً بالفراغ بسبب صراع الأئمة أنفسهم، المرحلة الثانية «1738 1838» ابتدأت بمعاودة الأئمة القاسميين السيطرة على الإقليم، وانتهت بقدوم قوات محمد علي باشا ثم الأتراك، أما المرحلة الثالثة «1919 1962» ابتدأت بتوغل قوات الإمام يحيى، وانتهت بقيام الثورة السبتمبرية الخالدة.
وفيما يخص إقليم سبأ سنضطر هنا أن نفصل بين محافظة وأخرى، دون تحديد مدة زمنية جامعة، وإذا كانت أغلب مناطق محافظة الجوف مثلاً قد دانت لحكم الأئمة الزيود، فإن محافظة مأرب عكسها تماماً، فهي تقريباً ظلت شبه مستقلة تحت حكم أشرافها من العام «1640»، ولم يتحقق للأئمة السيطرة عليها إلا في عهد الإمام يحيى، بعد أن قضت قواته على آخر أشرافها محمد بن عبدالرحمن في العام «1931»، وقد قامت قبائل صرواح في العام «1957» بتمرد مسلح ضد حكم الأئمة، إلا أنه فشل، فيما ظلت سيطرة النظام الجمهوري عليها متقطعة، ولم تتحقق السيطرة الجمهورية عليها إلا نهاية العام «1968».
محافظة البيضاء هي الأخرى دانت بعض مناطقها لحكم الأئمة ولفترات متقطعة، دخلتها القوات الإمام يحيى «1921»، وبعد «20» عاماً قَدِمَّ إليها الشريف الدباغ من الحجاز، مستغلاً توالي الهزائم على الأئمة من قبل الإنجليز، قام بمساعدة قبائل يافع بثورة سيطر بها على عديد مناطق، أرسل الإمام يحيى قوة جبارة للقضاء عليه «1941»، وحين فشلت استنجد بالإنجليز؛ أُخمدت الثورة، وعادت البيضاء لحكم الأئمة حتى «1962».
إقليم آزال «الكرسي الزيدي» وجد فيه الشيعة «الإسماعلية والزيدية» مرتعاً خصباً لنشر أفكارهم وإقامة دولتهم، وقد استمر التنافس بين الفريقين منذ نهاية القرن الثالث حتى منتصف القرن السادس الهجري، قضى الأيوبيون على الإسماعليين، فيما ظلت الإمامة الزيدية محصورة في المناطق الشمالية، ولم تتحقق لها السيطرة التامة والشاملة على إقليم آزال إلا نهاية القرن الثامن الهجري، عندما بدأت الدولة الرسولية تترنح، وهي سيطرة متقطعة بفعل الاحتلال العثماني لليمن بمرحلتيه المُنفصلتين.
ومن هنا يأتي التأكيد أن الإمامة الزيدية حكمت «صعدة» وما جاورها خلال تلك المدة الزمنية الطويلة والمتداولة، والتي تتجاوز ال «1150» سنة، إذا ما استثنينا سنوات معدودة من حكم «الأيوبيين، والرسوليين، والعثمانيين»، وتعميم تلك المدة على اليمن ككل مغالطة تاريخية، والأسوأ أن تمر على مسامعنا مرور الكرام.
تعاقب على حُكم «الدولة الزيدية» بخارطتها المُفصلة أعلاه حَوالي مئة إمام، وما من واحد منهم إلا ووصل إلى الحكم على نهرٍ من الدماء، إما في حروب عبثية اعتادوا العيش في أجواءها، أو في صراع أسري بين إمام وأخر، وقد سجل التاريخ وجود أكثر من دولة زيدية؛ وأكثر من إمام زيدي؛ في نفس «المُربع الزيدي».
الإمامة الزيدية بخارطتها الحالية، تعيش «أسرع تمدد وأسوأ إنكماشة»، وعبد الملك الحوثي الإمام المتوج رقم «101» لم يحيد قيد أنملة عن تلك الوسائل العُنصرية والاستعلائية التي انتهجها أسلافه، بل كان الأسوأ والأغبى والأكثر تهوراً؛ بسرعة خاطفة التهم الجغرافيا، وبعنجهية متوارثة أذل الانسان، بمساعدة لاعبين «محليين وأجانب»، كانوا يرونه وسيلة انتقام لا أكثر.
وبتحليل نفسي عميق لشخصية هذا الإمام «الجعنان»؛ نجد أنه شخص مَريض مَطحون بمشاعر الدونية والعجز، تُسيره طموحات غيبية اتكالية، ينتقم من الجميع شر انتقام، ولم يستثني حتى نفسه وجماعته وأولئك السُذج الذين ساندوه؛ وما زال حتى اللحظة يهرول صوب حتفه منتشياً ب «الصرخة» وزعيق «ما نبالي»!!.
وما أحب أن أشير إليه في ختام هذه «التناولة» أن مآثر «الصليحيين والأيوبيين والرسوليين والطاهريين والعثمانيين» من مساجد ومدارس وحصون ما زالت شاهداً حياً على أنهم كانوا هنا، ومروا من هنا، تُفصح بنبرة تباهٍ عن عظيم اهتمامهم بالأرض والإنسان، وما ذلك الكم الهائل من الموروث الذي صاغه من عاشوا في كنفهم من علماء وأدباء إلا دليل واضح على ان «اليمن الأسفل» عاش عصره الذهبي في ظل تلك الدول المُتعاقبة، وبلغ مجده في عهد الدولة الرسولية التي استمرت لأكثر من قرنين من الزمن، وبالمقابل أعيانا البحث عن حسنه واحدة وأثر جميل لحكم «الأئمة الزيود»، فلا شيء غير الدم والبارود، وجراحات ما زالت غائرة.
وبمقارنة فاحصة بين حقبتين متناقضتين، نجد أن «الأئمة الزيود» استجلبوا معهم جميع مساوئ التاريخ، وغلفوها بمساحات شاسعة من «القهر والذل والحرمان»، وشرعنوا لحكم «سلالي كهنوتي» كان وما زال سبباً لجميع رذائلنا الاجتماعية والسياسية، وفشلوا في إدارة البلاد، وحاربوا منابع التنوير من مدارس وجامعات ومساجد، وجعلوا منها خصما لدوداً يستحق التدمير والنسف، ورأوا في المُتعلمين ودعاة الحرية أعداء لهم وللدين، وأغرقوا القبائل المساندة لهم في الجهل والتوحش والفيد، والكثير الكثير من المساوئ التي يصعب إختزالها.
وخلاصة المقارنة: شتان بين دول حضارية حفظت لنفسها صفحات ناصعة في كتب التاريخ، وبين إمامة عصبوية لا تؤمن إلا بالعنف والاستحواذ، شعارها كان وما زال «فوق جيش وتحت عيش».