في العام 1991م قام الشيخ عبدالمجيد الزنداني بأول زيارة لمدينة تعز.. يومها سمعت بأنه سيلقي محاضرة في جامع القرشي.. كان يومها مجرد رؤية الزنداني وجهاً لوجه شيئاً يعد ليس بالأمر الهين.. لم أفوت الفرصة على نفسي فقمت بحجز مكان لنفسي كي أكون قريباً من المنبر لاشاهد الرجل عن قرب، وما إن صعد هو إلى المنبر بدأت بفرك عيني من شدة الذهول.. رجل فارع الطول، عريض المنكبين، ملابسه بيضاء وعمامته بيضاء بربطتها المميزة مغروسة وسط غابة من الشعر الكثيف الممتد حتى الكتف، حينها كنت لم أكمل بعد العقد الثاني من عمري.. عندما بدأ الرجل بالتحدث خيل لي وكأن الرجل من بقايا الصحابة أو التابعين من شدة تأثري بالمسلسلات التاريخية، إلى حد أني شطحت في تفكيري واعتقدت بأن الرجل من المحتمل أن يكون ضمن العشرة المبشرين بالجنة، خصوصاً وأني لا أحفظ سوى خمسة أسماء من هؤلاء العشرة، إلا ان أحلام اليقظة تلك سرعان ما تلاشت سريعاً عندما أصطدم نظري بتلك الكتيبة من حراسته المسلحة والتي تضاهي حراسة الرؤساء ورؤساء الوزراء وقد قامت بعمل حاجز بشري مهمتها منع أي شخص يقترب من الشيخ الزنداني ولو حتى محاولة لمسه. فكل ما أعرفه بحسب تفكيري المتواضع أن الصحابة والتابعين وحتى رجال الدين المشهورين في عصرنا الحديث لم تكن لهم أي حراسة تذكر لتعزلهم عن عامة الناس المتعطشين إلى علمهم وفقهم وورعهم.. عموماً عرج الزنداني في محاضرته يومها على الجهاد في أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي ، وكان يستمتع في الحديث عن تلك الشخصيات الافغانية الأسطورية من رفقاء السلاح من أمثال: عبدالرب الرسول سياف، وحكمتيار، وأحمد شاه مسعود، ورباني وغيرهم كثير والذين ظلوا إلى ما بعد تحرير أفغانستان دون أن يستشهد أي واحد منهم، فيما كان الافغان العرب الذين قاتلوا هناك يسقطون بالمئات والآلاف ما بين قتيل وجريح.. عدا شيخنا المجاهد الزنداني والذي كشف لنا مرافقه الشخصي بعد أربعة عقود بأن هذا الأخير لم يكن ضمن صفوف المجاهدين العرب الذين قاتلوا القوات السوفيتية ، بل أكد ذلك المرافق بأن الزنداني لم يطلق طلقة رصاصة واحدة على عدوهم الشيوعي.. فماذا كان يفعل هناك؟! الله أعلم.. كانت من بين الأساطير التي روج لها الزنداني ومن سار في فلكه أن ثعباناً ابتلع دبابة سوفيتية بمن فيها، ولأن سياستهم تقوم على السمع والطاعة وعدم المناقشة والجدال في كل ما يقال، فإنه كان بالإمكان طرح سؤال بديهي وهو : إذا كان الثعبان قد تكفل بابتلاع الدبابات فلماذا كان يسقط المئات بل الآلاف من المقاتلين العرب ما بين قتيل وجريح؟ فمن المنطقي ألا تحدث مثل تلك الخسائر الكبيرة في الأرواح. هذا الملف من الذكريات لم أكن لاستعيده لولا مشاهدتي لبعض حلقات مسلسل باب الخلق والذي يبث حالياً في رمضان من بطولة الممثل القدير / محمود عبدالعزيز، صاحب الأدوار المميزة، والذي جسد قبل أكثر من عقدين دور رأفت الهجان.. ومسلسل باب الخلق يحكي عن أحد المجاهدين العرب الذي قاتل في أفغانستان ثم عاد إلى وطنه حاملاً فكراً متطرفاً ولديه مخطط مسبق لضرب بعض المنشآت وقتل الأبرياء ، إلا أنه يعود وبمساعدة الأجهزة الأمنية إلى جادة الصواب ليتحول إلى شاهد ملك بعد كشفه لبعض المخططات وأسماء القادة الإرهابيين الممولين لتلك العمليات.. الرجل نطق بعيارة قوية ومعبرة عندما قال أغلى شيء يفتقده الانسان هو الأمان.. ويبدو أن الزنداني قد أخذ على عاتقه عهداً لا يتركنا بأمان، إما بالتحريض على الكراهية أو بفتاويه النارية المحرضة على العنف ومصادرة آراء الآخرين المخالفة لآرائه.. فبعد عودته من افغانستان اختار مقر إقامته في المملكة العربية السعودية ومن هناك وتحديداً في عام 1989م عندما علم أن هناك تقارباً بين الشمال والجنوب من أجل إعادة تحقيق الوحدة اليمنية أطلق في محاضرته إحدى فتاويه الشهيرة بعدم جواز التوحد بين اليمن الشمالي المسلم واليمن الجنوبي الشيوعي الملحد، إلا أن من سخرية الأقدار أن الرجل بعد تحقيق الوحدة اليمنية صار عضواً في مجلس الرئاسة لدولة الوحدة فاحتسب كسياسي بصورة مؤقتة يدخل قصر الرئاسة بالعمامة والقفطان.. أما خارج الدوام الرئاسي فقد كان يمارس دور رجل الدين صاحب الفتاوى التي لا ترد.. ففي عام 1992م حرض على عدم الاستفتاء على دستور الجمهورية اليمنية لأنه يحوي بداخله كفراً بواحاً لأن المادة الثالثة منه تؤكد بأن الاسلام مصدر رئيسي للتشريع بينما كان يريد هو أن تكون المصدر الأساسي لكل التشريعات وهو نوع من الفسلفة السفسطائية.. إضافة إلى فتاوية التكفيرية في حرب الانفصال عام 1994م. هناك من يرى أن من أسباب بقاء الزنداني حياً كآخر هي قدرته الفائقة على تقمص أكثر من شخصية واشتغاله على أكثر من مهنة يستخدمها تارة مجتمعة وتارة منفردة المهم أن يصل إلى هدفه وغايته.. وهذه الشخصيات : الشخيصة الأولى: رجل الدين العالم بظواهر وبواطن الأمور، يتميز بإصدار الفتاوى المخيفة والمرعبة للناس بغرض إعادتهم إلى حظيرة السمع والطاعة وتنفيذ أوامره ونواهيه بغرض استغلالها سياسياً للوصول للسلطة من جديد ولكن هذه المرة كأمير للمؤمنين يقيم دولة الخلافة القائمة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي يحلم بها. الشخصية الثانية والتي يلجأ إليها عندما يفشل دوره كعالم تقمصه لدور رجل سياسة يقيم المؤتمرات الصحفية، ويستدعي الفضائيات بغرض تسليط الضوء عليه، منوهاً بان لديه الحلول لإخراج البلد من مشاكلها رغم علمه بقرارة نفسه أنه جزء رئيسي من المشكلة وليس جزءاَ من الحل، فمن يحمل فكراً إرهابياً لا يمكن أن يساهم في بناء دولة مدنية. الشخصية الثالثة دور الطبيب المعالج للأمراض المستعصية، حيث يلجأ إلى هذه الشخصية عندما يشعر بأن نجمه كعالم وكسياسي على وشك الأفول فالرجل لا يستطيع البقاء وراء الكواليس فهو ليس من ذلك النوع من العلماء الذين يزهدون في الحياة الدنيا وزينتها بل من عشاق التمرغ بزينتها وحلاوتها حتى آخر نفس من حياته. اليوم يعيش الزنداني بين ظهرانينا عيشة الملوك والرؤساء وأصحاب الاقطاعيات ، ثروته تقدر بالمليارات جمعها من استثماراته في الدين والسياسة والطب طوال أكثر من ثلاثة عقود من الزمن دون أن يتعب بجمعها.. ولأنه يعشق الأضواء ولا يستطيع الابتعاد عنها، فقد خرج لنا بتقليعة جديدة تحت مسمى أنه يمتلك الحل السحري لمعالجة الفقر في المجتمع.. مع العلم أننا لم نسمع يوماً أن الزنداني وهو رجل الدين الثري أنه اقام مائدة إفطار رمضانية للفقراء والمحتاجين خصوصاً ونحن في شهر رمضان.. كم كنا نتمنى أن نسمع بأن الزنداني قام بإنشاء مؤسسة أو صندوق تمويل صغير بغرض تمويل الشباب بقروض بدون فوائد من أجل التخلص من الفقر والبطالة ، وليس حشدهم وتعبئتهم فكرياً على الكراهية ضد الآخرين واستغلالهم في مجال التطرف والارهاب على شكل أحزمة ناسفة.. كنا نتمنى من الزنداني أن يخرج لنا بتصريح مفيد أنه قام بمنح الشباب قطعة أرض زراعية من مجموع تلك الأراضي الواسعة التي يمتلكها كمساهمة منه لحل مشكلة البطالة.. كم كنا نتمنى من هذا الشيخ والسياسي والطبيب أن يبادر إلى بناء وحدة صحية نموذجية ولو حتى في قريته للتخفيف من معاناة المرضى، أو حتى مدرسة من فصلين دراسيين للتخفيف من إزدحام الطلاب قبل التفكير في بناء جامعة الإيمان والتي اسمها لوحده مستفزاً لكل مشاعر اليمنيين والجامعات اليمنية على حد سواء ، وكأن ما يدرس في بقية الجامعات اليمنية حكومية وخاصة هو كفر وبواح وانحلال خلقي.. فبدلاً من أن ينفق هذا الرجل فلا يزال يبحث عمن يجزل له العطاء، فلكي يزدهر الايمان ويتضاعف الأجر والثواب من وجة نظره كان لا بد من بناء جامع الإيمان، ولأن هذا الجامع كان بحاجة إلى تمويل فقد بادر باسندوة باسم حكومة الوفاق بالتبرع بعشرين مليون ريال كي لا تحرم هذه الحكومة الأجر والثواب في الآخرة والذي لن يكتب إلا عن طريق التبرع للزنداني.. يبدو أن هذا الأخير قد أقنع باسندوة أن الصلاة الواحدة في جامع الايمان تعادل مائة صلاة في المساجد والجوامع الأخرى!! وخلاصة الخلاصات أن الشيخ الزنداني بارع في الاستثمار، فقد استطاع أن يستثمر كل الأزمات والأحداث الأمنية والسياسية التي عصفت باليمن طوال أكثر من عقدين من الزمن وأصبح يمتلك أموالاً منقولة وغير منقولة.. فقد استثمر في الدين فاشتغل بالإعجاز العلمي للقرآن واستثمر في السياسة فكانت له مشاركة في الحكم كعضو في مجلس الرئاسة من عام 1990 1993م ، وأستثمر في الطب فظل يتاجر بالعسل والحبة السوداء ثم طور من معمله ليخرج لنا بعقار مدهش لعلاج مرض الإيدز جعل العالم كله يقف مذهولاً أمام اختراعه والذي عجزت عن اكتشافه دول العالم بأسرها ، ميزة هذا العقار أنه ينقل مريض الايدز إلى عالم البرزخ بسرعة الصاروخ دون ألم أو أعراض جانبية.. واليوم بدأ الرجل يستثمر في الاقتصاد وذلك عبر اختراعه الجديد والذي أقترح عليه أن يؤلفه في كتاب تحت عنوان كيف تتخلص من الفقر في أسبوع وتصبح مليونيراً.. قيل بأن رجلاً حكيماً أوصى أحد طلابه قائلاً: إياك والاشتغال بالدين والسياسة في آن معاً، فإن فعلت ذلك فقد أفسدت دينك وأضعت آخرتك، واشتغالك في السياسة دون سابق خبرة يعني الفشل المحتوم، وبذلك ستكون قد خسرت دنياك وأضعت دينك لفشلك في الاثنتين معاً.. فما بالكم لو علم ذلك الحكيم بأن صاحبنا الزنداني يصر وبعناد شديد الاشتغال في الدين والسياسة والطب ومؤخراً في الاقتصاد وعلاج الفقر، ومع ذلك لم يبرع بواحدة منها.. يعني ثلاث صنايع والبخت ضايع ولكنه لا يريد الاعتراف بذلك.. فياترى ما حجم خسارته في الدنيا والآخرة بحسب تقييم ذلك الحكيم ؟.. أخاف أن يكون مجتمعنا اليمني هو الخاسر الأوحد بسبب بقاء هذا الرجل بيننا ليظل هو الرابح الأكبر لأنه ظل ولا يزال مستمراً يبيع فينا ويشترى دون أن يجد أحداً منا يوقفه عند حده.. والله المستعان.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.. كل عام وأنتم بخير.