"عالم المفكر هو ما يقرأ ويطالع. إن عالم كتبه يمثل، عادة، بمفاهيمه وأفكاره والتزاماته الأخلاقية، عالماً أكثر واقعية، بالنسبة له، من عالم الناس. [...] هذا يعني أن المثقف يعمل في دنيا مطواعة له، تنقاد لإرادته وتأخذ أشكالها وفق رغباته. هذا العمل، وخصوصاً إن كان مركزاً في عزلةٍ عن الخارج ومشاغله وصراعاته اليومية وممارساته العملية، يولد فيه نفسية خاصة ترى على الأرجح، وإن كان بشكل لا واعٍ، أن الواقع الموضوعي نفسه يخضع أو يجب أن يخضع لرغباته وإرادته فيكون مطواعاً وصاغراً لها مثل الأدوات التي يستخدمها. [...] الذين يعانون هذه التجربة يتحولون إلى إنتلجنسيا. إنّ العالم الفكري الذي تعيشه هذه الإنتلجنسيا يدفعها إلى عملها الثوري دون اهتمامٍ كبير بالنتائج الشخصية التي تترتب عليه، فتتخذ مواقف حاسمة في مقاومتها للنظام القائم". (المثقفون والثورة، 1987) في السطور القليلة أعلاه، يلخص المفكّر العروبيّ نديم البيطار (الذي مرّ أحد عشر يوماً على رحيله ولم يثر هذا الرحيل اهتماماً لائقاً في دنيا العرب) دور المثقّف وواجبه إزاء مجتمعه وعالمه. لكننا لا نعرف على وجه اليقين إن كان البيطار، الذي رحل في صومعته في ديترويت الأميركية، قد انتبه لاحقاً إلى أنّه، بسطوره هذه، لم يكتب سِوى تلخيص مكثّف لسيرته الذاتية وعزلته الفكريّة التي تناثرت "شظاياها" بين كتبه ودراساته وهمومه الوحدوية. أكتب عن شظاياها لا عن فُصولها، لأنّنا نادراً ما نشهدُ شخصيّات فكريّة عاش أصحابها على تخومِ نهاية أحلام مرحلة تاريخيّة وشهدوا، قبل أن يرحلوا، رحيلها. "
من سوء حظّ البيطار أنّه وصل متأخراً. كان ابن الجامعة الأميركيّة في بيروت وسليل القوميين العرب يشهدُ أفول موجة القوميّة العربيّة وصعود الإسلام السياسيّ، فقرر أن يناطح عجلة التاريخ بإجراء مراجعةٍ نقديّة لفكرة القوميّة العربيّة وحلم الوحدة المنشود. هكذا، وضع كتاباً أعاد فيه صياغة الهوية القوميّة، وأنزلها من "سماء الميتافيزيقيا" كما كانت في إنتاجات دعاة القومية السابقين، إلى "أرض السوسيولوجيا"، فالهوية لديه في أحسن الحالات هي طرق تفكيرٍ وشعور وسلوك متماثلة ومهيمنة نسبياً، وتتغير مع حركة التاريخ وتحولاتها الجذرية.
وفي كتابيه "الأيديولوجيا الانقلابيّة" و"من الوحدة إلى التجزئة"، عرض بإسهابٍ نظريته في قوانين الوحدة العربية، التي تقوم، حسبه، على "الإقليم - القاعدة"، وهي الأرض - الدولة التي تحتضن السلطة الثوريّة، وعلى القائد الرمز صاحب الكاريزما الساحرة للجماهير، وأخيراً على الخطر الخارجيّ، مبعث التوحيد، أي بالطبع إسرائيل. وخلص إلى أنّ وجود الآخر يحوّل المجتمع العربيّ إلى نظامٍ اجتماعي متصلّب، وإلى تركيز القوى في يد قائدٍ قوي ينظر إليه أفراد الجماعة كمخلّص، فالردّ الحاسم على المخاطر الخارجية والحروب وحالة التجزئة المريعة لن يكون سوى باستمرار تركيز السلطة.
وقف نديم البيطار على أطلال مرحلةٍ عاش روّادها أحلام الوحدة العربيّة وانهيار حدود الدولة الوطنية. بالنسبة إليه، مثّل جمال عبد الناصر "الفرصة" التي ضيّعها العرب، فهو الوحيد الذي امتلك الكاريزما التي تعتبر أحد أهم القوانين الأساسيّة للمشاريع الوحدويّة. وهو وحده الذي كان قادراً على ممارسة السلطة المطلقة صاحبة الأيديولوجيا "الانقلابية" أو "الثورية". لذلك، لا عجب من أن يواصل آخر المفكرين المؤمنين بالوحدة العربية الاندماحية البحث عن شبح الزعيم الساحر، حتى وجده في القذافي.
تلك هي المراجعة المأساوية التي نالتها فكرة القومية العربية في زمن الأصوليات، ولا عجب بأن تتمثل هذه المأساوية في أصولية معاكسة تتشرب الروح النيتشوية بعد أن استندت قبل ذلك على رومانسية "هردر" و"فخته". والحال أنَّ القوميّة العربية في لحظة البيطار لم تعلن موت الإله فحسب، بل أعلنت موتها نفسها. فبعد سنواتٍ قليلة على آخر كتب البيطار، اندلعت حرب الخليج الثانية واستحالت حالة التجزئة التي قارعها البيطار بكل قطرة حبرٍ يملكها واقعاً. ومن سخرية التاريخ، لم يبق من تصوّر البيطار سوى مزيد من تركيز السلطة، التي استحالت إلى وحش لا يقتات إلا على مزيد من التجزئة والفرقة.
في تلك اللحظة كانت الوفاة الحقيقية لمفكّر الوحدة والثورة الذي أصرّت لعنة الحياة على مطاردته في صومعة اغترابه، حتى شهد بنفسه تحوّل الدولة الوطنية التي ازدراها طوال حياته لصالح الوطن العربي الكبير، إلى ركامٍ بعد أن تغوّلت حدود التقسيم إلى ما دونها من طوائف وإثنيات. عاش البيطار في عصرٍ لم يكن عصره، ومات آخر الثوريين القدامى كذلك في عصرٍ أبعد من أن يليق به.
بقلم : هاني عواد باحث فلسطيني
تعليقات القراء 120875 [1] رثاء نديم اابيطار السبت 06 سبتمبر 2014 د. فياض قازان | الولاياتالمتحدة رثاء فقيد العروبة والوطن المفكر القومي الكبير الدكتور نديم البيطار أيها المعلم والمناضل الكبير نديم البيطار يا فقيد العروبة والوطن، ماذا أقول عنك كي أكون منصفا في رثائك؟ من أين أبدأ؟ وكيف؟ لقد قلت لي منذ فترة قصيرة أنك ستموت قبل أن تشهد في حياتك قطرا عربيا واحدا يتحد مع قطر عربي آخر! ولسوء حظك وحظنا أن أقطارا عربية عدة لم تتكرس التجزئة بينها فحسب بل يهددها التمزق أو التفتت الداخلي! إن النخب الحاكمة العربية التي وصلت إلى الحكم باسم الوحدة والتحرير وعلقنا عليها آمالا عظيمة أفلست منذ زمن طويل. لقد وَعَدتنا بالحرية لكنها حولت الوطن كله إلى سجن كبير. وَوَعَدَتنا بالرخاء فعممت الفقر. وَوَعَدَتنا بالوحدة لكنها كرست التجزئة والانفصال حفاظا على امتيازاتها الخاصة إلى أن وصلنا إلى حد استنجاد بل استجداء الإمبريالية الأمريكية كي تحمينا منها ومن الأصوليين! إنهم الأصوليون، الذين منعوك من إلقاء محاضرتك في بغداد سنة 1968 لأنكم دعوتم فيها العرب إلى تبني فكر أو عقل حديث، هؤلاء الأصوليون أنفسهم يهددون وجودنا اليوم! ماذا أقول عنك في سطور قليلة أيها المعلم العظيم كي أكون منصفا في رثائك وأنت من كرس حياته طوال أكثر من ستون عاما لخلق مشروع نهضوي عربي جديد يقوم على أساس علمي حديث. عن إي من كتبك التي تتجاوز ال 20 كتابا أريد أن أتحدث؟ "إن المجتمع الحديث يستمد قوته وحيويته من إيديولوجية حديثة. وبالمثل يعود عجز المجتمع العربي التقليدي الحالي وضعفه وجموده إلى التزامه بإيديولوجية تقليدية استنزفت قواها وتجاوزتها حركة التاريخ منذ زمن بعيد. إن المشكلة الرئيسة التي تعاني منها المجتمعات العربية تتمثل في افتقارها لعقل حديث يُستمد من فلسفة حياة، أو إيديولوجية جديدة تتناسب مع المرحلة التاريخية المعاصرة،" وفق رأي البيطار. لقد كرس نديم البيطار حياته لتقديم فكر علمي مخصب تميز بالشمولية والعمق والأصالة لتجديد الفكر والمجتمع العربيين، بل ولتجديد العلوم الاجتماعية وفلسفة التاريخ بشكل عام من خلال دراساته القيّمة في سيكوسوسيولوجية الهزائم العربية، والاقتصاد السياسي، والتنمية، والوحدة. إن الأنماط المنتظمة إذا لم نشأ أن نسميها قوانين، التي قدمها البيطار في دراساته، تصدق على عدد كبير من الأوضاع التاريخية المتباعدة في المكان والزمان مما جعل أعماله فريدة في أهميتها للعمل السياسي الوحدوي والتنموي العربي، ولإخصاب الفكر الاجتماعي والتنموي على المستويين العربي والعالمي. "إن الإيديولوجيات كحقائق تاريخية تتميز بالفرادة في بعض خصائصها، بيد أنها في خصائص أخرى تنتمي إلى فئة أو صنف معين. لذلك فهي قابلة للمقارنة." هذا في اعتقادي ما قام به البيطار بطريقة علمية تثير الإعجاب حيث استخلص نهجاً جديداً، أو نظرية جديدة يمكننا من خلالها تحديد احتمالات نجاح مجتمع ما في تجاوز مرحلة معينة من تاريخه، والتنبؤ بالوجهة السياسية أو بالمسار الذي سيتخذه هذا المجتمع على ضوء فهمنا الحقيقي لإديولوجيته. هذا النهج العلمي جعل البيطار يتميز بمكانة مهمة في الفكر الاجتماعي الكلاسيكي العالمي وفلسفة التاريخ بجانب أساطين بارزين في هذا الفكر من أمثال عبد الرحمن بن خلدون، وكارل ماركس وأرنولد توينبي وغيرهم! لم يكن نديم البيطار يفكر ويكتب من برج عاجي، بل ربط النظرية بالممارسة العملية مجسدا بالفعل مقولة ماركس: "أن مهمة الفلسفة يجب ان تكون تغيير العالم بدلاً من الاقتصار على تفسيره أو فهمه كما كان الحال في الماضي." فكما اكتشف جيمز واتسون، وفرانسيس كريك بنية الحمض النووي DNA ووضيفتها في المجال البيولوجي، وكما اكتشف كارل ماركس قانون الحركة الخاص بتطور نمط الإنتاج الرأسمالي والمجتمع البورجوازي الذي خلقه هذا النمط في المجال الاجتماعي، اكتشف البيطار البنية العامة الأساسية (أو الحمض النووي DNA المتصل بالإيديولوجية) التي تحدث بشكل انتظامي متكرر ومتواصل في جميع الإيديولوجيات الدينية أو العلمانية بصرف النظر عن الاختلافات التي تميز مضمونها ! أيها المعلم الكبير، أجل إننا خسرناك في مرحلة تاريخية عربية بالغة في الخطورة والانكفاء، إننا نرى أمما تتحفز وتتشوق وتثب بجسارة بالغة لمعانقة المستقبل وتشكيله وفق ما تريد، بينما نرى قوى انكفائية ظلامية في أمتنا تتمسك بماض لا يمكن استعادته وتخاف من مستقبل لا بد من قدومه. إنه الصراع بين الحداثة والتقليدية الذي حدث في عدة مجتمعات تاريخيا. إنني كتلميذ لك متفاءل مثلك أثق أنه لا بد للفجر أن ينبثق مهما طال الليل والظلام الدامسين. وكما قال أحدهم من قلب الظلام الكثيف ينبثق شعاع الأمل! نم قرير العين. إن قدرك كقدر الفلاسفة العظام الذين نادرا ما يشهدون تحقيق أهدافهم خلال حياتهم. لقد كتب ماركس في منتصف القرن التاسع عشر لكن أهدافه أو أهمية أفكاره لم تتضح إلا في القرن العشرين، وما زالت أعمال ماركس تزودنا باستبصارات عظيمة في القرن الحادي والعشرين! أجل نم قرير العين يا رائد الفكر الوحدوي القومي العربي، يا ابن خلدون القرن العشرين لم ولن تذهب أعمالك العظيمة سدى. لقد كنت بمثابة المشعل الذي استنزف طاقته ليضيئ عالمه مما جعلك بحق تستحق أيضا أن ندعوك رائد التنوير العربي. إن أعمالك العظيمة ستكون دليلنا ودليل أجيالا قادمة ومتعاقبة من أمتنا العربية لتحقيق المجتمع العربي الحديث ولإقامة دولة الأقطار العربية المتحدة. إن تكريسك لحياتك كلها للعمل القومي العربي، وحتى عزوفك عن الإنجاب خشية أن يصرفك ذلك عن مشروعك النهضوي، يجعلك بحق شهيد الأمة. إن الشهادة في رأي تعني تضحية شخص ما بحياته في سبيل الدفاع عن، أو النهوض بأمته. إنك ولدت مسيحيا في بينو في أقصى شمال لبنان حيث طلبت أن يكون مثواك هناك. إن تكريسك لحياتك كلها في سبيل أمتنا يجعلني أشعر أنك ليس من بينو فقط، إنك أيضا من بلدتي الطيبة أقصى جنوبلبنان، ومن بنت جبيل وإنك من بيروت ومن صيدا ومن جبل لبنان ومن تونس والقاهرة والعراق ومن كل الوطن العربي! لقد كنت أتمنى أن تمنح أعلى الأوسمة العربية في حياتك أو حين وفاتك. ولكن من يتمنى اليوم الحصول على وسام من أي نظام عربي معاصر؟ وكنت أتمنى أن يلف جثمانك الطاهر بعلم دولة الاقطار العربية المتحدة، وأن يكون مثواك الأخير في جانب الشهداء الأبرار. إن قيمتك عند أمتنا وأجيالها القادمة أعظم مما تتصور ولعلك الآن وقد أصبحت في عالم الأبدية أعلم مني بما أقول! وأخيرا نعاهدك أن نكون أوفياء لمشروعك النهضوي العربي وأن نجعلك مثالنا الأعلى في نبذ الفتن والتجزئة والطائفية والإقليمية وفي العمل على تبني فكر جديد يؤدي لتحقيق حلم حياتك: إقامة دولة الوحدة العربية. وداعا أيها الحبيب لقد تنورت بأفكاركم وتشرفت بصداقتكم وبلقائي الأخير بكم وسأضل أعتز بقولي: "إني عرفت نديم البيطار وعشت في عصره." الدكتور فياض قازان بريد إلكتروني: [email protected]