في احتفال الحوثيين (انصار الله) في ميدان التحرير عصر اليوم، انتصب مسرح خشبي مكشوف. أمام المسرح، جلس المئات من الجمهور المتحمس على هيئة صفوف منتظمة على غير عادة الجماهير المتحمسة التي غالبا ما تكون واقفة ولا تكترث لطريقة الصف المدرسي. تخلل الحفل فقرات مختلفة من شعر وكلمات خطابية، وفي كل مرة يعبر الجمهور المنظم عن حماسته بشكل منظم أيضا: يهتف بهتاف موحد ويرفع الأيادي في الهواء بنفس الطريقة. أعلم- كما يعلم الجميع- أن عنصر التنظيم في الاحتفالات مهم، ولكنه عنصر لا تتعدى أهميته خشبة المسرح. لكن، أنصار الله قد فاجئونا اليوم بنظرية جديدة في الادارة تثبت بأن التنظيم عملية "تشمل" الجمهور أيضا. إلا أن المفاجأة الأكبر- بالنسبة لي- كانت حين وقفت فرقة للانشاد ترتدي الثوب اليمني الأبيض، تتمتع بأصوات شجية وتتشح علم الجمهورية اليمنية. لا تكمن المفاجأة هنا، لا في جمال مظهر فرقة الانشاد ولا في زيها أو في اتشاحها العلم. المفاجأة كانت حين غنت الفرقة قصيدة "عيد الجلوس" للشاعر الكبير البردوني!
البردوني الذي لم يجد طريقة أسمى من نظمه لقصيدة "عيد الجلوس" وارسالها إلى الامام أحمد بن يحيى حميد العام 1958 ليعلن عن موقفه ضد نظام الامامة في شمال اليمن. بعدها بسنة، انتج البردوني قصيدته الشهيرة "حين يصحو الشعب" ليعلن هذه المرة بأنه داعية للثورة ومحرضا لها.
النقاد رأوا أن ارسال البردوني لقصيدته عيد الجلوس للامام أحمد في ذكرى احتفاله بالجلوس عُد عملا خبيثا. فالمتوقع في هذه المناسبة هو ارسال التهاني والمديح للامام، ولكن "عيد الجلوس" وجهت له رسائل قوية، بل حادة، تنذره بالثورة، ولم يذكر البردوني التهنئة إلا في البيت قبل الأخير من القصيدة، وحتى هذه لم تكن تهنئة على الاطلاق:
عيد الجلوس وهل نصّتَ لشاعر .. هنّاك وهو عن المسرّة مبعدُ؟ فاقبل رعاك الله تهنئتي وإن .. صرخ النشيد وضجّ فيه المنشدُ واعذر إذا صبغ التنهّد نغمتي .. بالجرح فالمصدور قد يتنهّدُ
في المقابل، وإذا أغفلنا سوء النية، يبدو أن أنصار الله رأوا في هذه القصيدة الطريقة الأجدى لارسال رسائل تطمينية لسكان صنعاء وللشعب اليمني، ربما فشلت خطب عبدالملك الحوثي الطويلة من ارسالها. رسالتهم كانت احياء قصيدة البردوني، عيد الجلوس، مغناة بأصوات فرقة انشاد يتشح جميع أعضائها العلم اليمني. أحيانا، بل في أغلب الأحيان، صوت الشاعر والمغني والفنان هو الصوت الأكثر جدارة والأمد عمرا والأقوى تأثيرا من أصوات الزعماء السياسيين وأصوات اعلاميهم وأصوات معداتهم الحربية.