قالت : " الله يخيزكم يا جنوبيين "السيدة أروى عثمان ( مع حفظ الألقاب ). اعتدناها تكتب بجرأة كبيرة ، تقترب بها من مواقع التماس أو بالمعنى الفيزيائي البحت ( المجال ) ، وهي بهذا ، مشهود لها ولا حاجة بي إلى تأكيده بيْد أنها في منشورها الأخير الموجّه للجنوبيين قد بدت لي وكأنها قد ركبت جموح الانفعال ، أو كمن يحاول الرقص على صفيح ساخن ، وكم تمنيت عليها لو أنها تناولت الموضوع بقالبها الساخر المفضي للهدف ، عبر وسيلة تحقق بها تصحيح الأوضاع المترهلة في الساحة ، والتركيز على التناقضات في القضية ذات النقاش ، وهي القضية الجنوبية التي اتخذت مؤخرا شكل اعتصامات في مخيمات بساحة العروض بخورمكسر ، لانختلف في كونها قد أفرزت كثيراً من السلبيات منها : تعزيز الشللية ،والتكتلات المختلفة . تمحور خطاب الكاتبة حول ثلاث نقاط : العسكر ،القبائل ورجال الدين ، وقد أفضى معنى الخطاب إجمالا إلى تخوفها من استنساخ تجربة صنعاء وتقدُم هذه الفئات للصدارة لجني حرث طال انتظار حصاده. على أنه ليس بالضرورة بمكان أن تنسخ التجربة الشمالية نفسها في الجنوب ؛ لأن المفرخة التي أنجبت مافيا الأحمر وإرهابيي صنعاء أمثال الزنداني والديلمي وغيرهم ، تلفظها مناخات الجنوب ، وإن كان هناك من مخافة الوقوع بفخ تجربة صنعاء فالأجدر أن يُوجه الجنوبيون إلى ضرورة اختيار قيادة حكيمة تمنع تسلل الأصنام التي بدأت تتوافد للعودة إلى سدة الحكم ، بعد أن كان لها الدور الأساس في تسليم الجنوب للطاغوت ، كما أن قبائل الجنوب والتيار الديني والعسكر قوى ضغط مجتمعي لا يمكن عزلها عن القضية ، بل يُمكن احتواءها بقيادة وازنة يعقد الأمل عليها بدفق دماء جديدة في شرايين القضية الجنوبية ،وأن تقف سدّا يحول دون تسلل اللصوص المارقين مصاصي الدماء وما أكثرهم "كغثاء السيل" إلى صفوف القضية .
وسؤال يقفز إلى الذهن ، ألم يكن العسكر المحالون للمعاش هم نواة الحراك الجنوبي الأول ؟ كيف نعزلهم عن القضية ؟ على أن هذا ليس موضوعة الحديث هنا رغم ارتباطه الوثيق بسبب لغة خطاب المنشور الذي استفز وأحزن كثيراً منا وفي مقدمتهم كاتبة هذه السطور تناولت الكاتبة نقطتين أثارتا حفيظة القارئ العادي وقارئ ما بين السطور أولها ، استخدام الكاتبة لرمزين دينين تاريخيين لها في ذاكرة التاريخ وفي قلوبنا نحن المسلمين مكانة جليلة وهما القائدان العسكريان سيف الله المسلول خالد بن الوليد ، وأرطبون العرب و أدهاها عمرو بن العاص ) كما لقبه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله.
" حسّكم عينكم تنسوا ترؤونات ( أحلام ) ثورتكم المنصورة بتروؤان خالد بن الوليد يوزع عليكم دست الزربيان ، وعمرو بن العاص يفتح لكم قلعة صيرة ويطبخ مطفاية" هذه الصورة - بهذه الكلمات ذات المعاني الانزياحية - التي صورت بها الكاتبة هذين الرمزين الدينين أحدهما ماسك دست زربيان والآخر حامل مقلة مطفاية يطبخها في قلعة صيرة (بكل مافي الرمز التاريخي لقلعة صيرة من مكانة في قلوب أهل عدن تحديدا والجنوب عامة) ناهيك عن كون القائم على أمر الزربيان طباخة وإشرافا هم فئة معينة من الناس في عدن تدركونها جيدا كما تعلمها الكاتبة ، أي جور في رسم هذه الصورة وأي انتهاك لجلال هذين القائدين العظيمين. إن كان الغرض هنا ضرب مثالين للعسكر ورجال الدين باعتبار إن سيف الله المسلول خالد بن الوليد وعمرو بن العاص كانا قائدين عسكريين ورمزيين دينين ؛ فما أكثر رجال الدين في شمال اليمن الذين يصلحون لمهمة الزربيان والمطفاية ، لماذا التعريض وخدش الديني القصدي بهذه الصورة المحزنة الباعثة على التحسّر على مستوى الثقافة الذي ينتظرنا على يد وزيرة الثقافة الجديدة ، (وزارة الثقافة تلك المسؤولة عن تنشئة العقول وارتقاء الذائقة ).
هنا حقا ينتهي سقف الخطاب الساخر ليصبح شيئا آخر فسيح الدلالات. ثم نأتي على التجاوز الآخر لخطاب المنشور آنف الذكر. الكاتبة أروى عثمان حارسة البيت الثقافي للمورث الشعبي - والمطبخ أحد أهم أركانه - حين تستخدم الزربيان والمطفاية وهو ملمح ثقافي تراثي غير مادي لسكان عدن بشكل انزياحي المعنى وبقالب مستفز كوسيلة تعبير من النوع الساخر غير الهادف إلا لإثارة حفيظة وتجريح الجنوبيين ؛ تستنهض بالمقابل ثقافة صدامية مقابل ثقافة الكدم والوزف والفحسة والسلته ،وما كان أغنانا عن هذا الصدام ونحن مذها (الوحدة المشؤومة) الشماليون والجنوبيون كسلك كهربائي عار مشدود على آخره.
تنتهج السيدة أروى عثمان الأسلوب الساخر في كتاباتها ، لكن للسخرية سقف ينتهي عند منطقة الثقافات والعادات الاجتماعية والدين ، كما أن هناك خيط رفيع يفصل بين السخرية والتجريح ، ولا أظنها تجهله (وهي المشتغلة بالكتابة) ، وهو أن الكلمة وسيلة لتوصيل المعنى ، مانحة لدلالته ، وأن الاهتمام باختيار الكلمات المناسبة دلاليا يساهم في خلق خطاب محقق للقصد المرجو.
ولأن النسيج المجتمعي في الجنوب تربطه قواسم مشتركة انضوت تحت لوائها ثقافات جنسيات وأديان مختلفة ، وضبطت حركته مجموعة قيم أخلاقية وعادات اجتماعية تآلفت فيما بينها لتشكل نسقا متناغما من كوننا ننتمي لذات المجتمع ، جاء نتاج هذا التلاقح القيمي ولادة فكروسطي معتدل يحترم كافة العقائد الدينية والسلوكيات الاجتماعية والأخلاقية ، وهذا ما تحقق من دولة الجنوب المدنية قبل انهيارها على يد الوحدة غير المباركة، كان وقع الأسلوب الساخر لأروى عثمان على درجات متفاوتة الاستفزاز ، صُبت جميعها في قالب الاستنكار التام. ما الذي تحقق من السخرية الفارطة هنا غير هتك الديني المقدس، واستعداء ظاهر واضح الدلالات للجنوب وسكانه. توقعت من الكاتبة أن تمسك فرشاتها لترسم لنا لوحة فنية بأسلوب مميز ، لكن الفرشاة سقطت واختلطت عليها الألوان ونتج عنها لوحة بائسة رسمت الإحباط على المستبشرين خيرا بوزيرة الثقافة الجديدة ، أيقنت حقا أن الكتابة هي انسكابات لاوعي الكاتب أثناء تأليف الخطاب.